اغاثة غزة .. افكار خارج الصندوق!
جو 24 :
منذ حوالي عشرين سنة والعالم كلّه تستشري فيه لوثة التنمية البشرية، والريادة، والإبداع، وتحويل التحدي إلى فرصة، والتفكير خارج الصندوق.. وسائر هذه التمائم والتعاويذ التي يرددها كهنة ديانة السوق الجديدة الذين حلّوا محل "ساحر القبيلة" لدى الشعوب القديمة!
أين أصحاب العقول الفذّة هؤلاء، وأين حلولهم الإبداعية من أجل إغاثة أهالي غزّة؟!
هناك "فرصة" اسمها "الإنزالات الجويّة"، أين أفكارهم الخلاقة من أجل استغلال هذه الفرصة إلى أقصى مدى ممكن في مواجهة حرب التجويع والتعطيش التي يتعرّض لها أهالي غزّة، خاصة أهلنا الصامدون المرابطون في الشمال؟
طبعا قبل الخوض أكثر في الموضوع ينبغي التأكيد على نقطة جوهرية هي أنّ الحل الأساسي والحل الواجب والحل الأمثل ضد سياسة التجويع والتعطيش هو رفع الحصار وفتح المعابر ودخول شاحنات المساعدات إلى جميع مناطق غزّة دون استثناء.
بالعودة إلى أسلوب الإنزالات الجوية، فكم وجبة جاهزة تستطيع أن ترمي خلال الإنزال الواحد؟ وهل تستطيع ضمان استمرار الإمداد ولو بواقع وجبة واحدة لكل مواطن كلّ يوم؟
كم كيس طحين تستطيع أن ترمي في الإنزال الواحد؟ هذا عدا عن الصعوبات اللوجستية التي تصاحب ذلك، والمخاطر على حياة الناس الذين يُفترض أنّنا نريد إغاثتهم وقد تحوّلت أماكن سقوط وتجمّع المساعدات إلى "مصائد للموت" يستغلّها العدو الصهيوني من أجل المزيد من الإبادة والترويع والتنكيل.
وحتى لو وصل كيس الطحين إلى أصحابه، ألا يحتاج إلى ماء نظيف من أجل عجنه؟ ووقود من أجل خبزه؟ وفي نهاية المطاف ما هي القيمة الغذائية لرغيف الخبز بحيث يصلح وحده لإقامة أود إنسان وحمايته من سوء التغذية؟
نفس الكلام بالنسبة للمعلّبات، وإلى أي مدى يمكن أن تكون مصدرا غذائيا يمكن التعويل عليه لوقاية الناس من تداعيات سوء التغذية ونقص العناصر الغذائية على مدى فترة طويلة من الزمن؟
ما يحتاجه أهالي غزّة هو:
- مصادر متجدّدة ومستدامة للغذاء..
- ما خفّ وزنه وارتفعت قيمته الغذائية..
- ما يسهل التعامل معه من أغذية دون الحاجة لمستلزمات إضافية للتحضير والطهي والحفظ والتخزين..
- أن يصل الغذاء إلى الناس في أماكنهم لا أن يسعوا هم إليه وما يصاحب ذلك من خطر الاستهداف والموت..
في ضوء هذا الإطار العام أو المحدّدات العامة لماذا لا يتم التفكير جديّا ببدائل "غير تقليدية" و"خارج الصندوق" على غرار الأفكار التالية:
الفكرة الأولى: التمر والعجوة،
لماذا لا يتم التركيز على التمر والعجوة باعتبارهما مصدرا غنيا بالطاقة والعناصر الغذائية لا يحتاج إلى حفظ أو تخزين؟
في الأردن إنتاج كبير نسبيا من التمر والعجوة، علما أنّ الأمر لا يقتصر على الأردن، فمتى ما أتيحت مثل هذه الأفكار فهناك حوالي مليار ونصف مسلم على استعداد للدعم والمساندة، وضعف هذا العدد من أحرار العالم وأصحاب الضمائر الحيّة.
وبما أنّنا مقبلون على شهر رمضان المبارك، والتمر والعجوة طقس رمضاني ثابت لدى الأسر الأردنية، فيمكن إطلاق حملة على غرار "كيلو لك وكيلو لغزّة"، بحيث تلتزم كلّ أسرة بالتبرع بنفس الكمية التي تشتريها لنفسها من أجل الأهل في غزّة.
ولا داعي لأن يتمّ إنزال هذه الكميات بحمولات كبيرة وصناديق ومظلاّت، يمكن أن يتمّ تحضير هذه الكميات على شكل صرر صغيرة، ونثرها فوق المناطق المستهدفة لتصل إلى كلّ مكان.
بكلمات أخرى، أن تمطر السماء تمرا على أهالي غزّة وهم في مواقعهم!
هناك آلاف من الأردنين المستعدين للتطوّع إذا فُتح المجال أمامهم من أجل تجهيز هذه الصرر.
الفكرة الثانية: المكسّرات.
مبدئيا الفول السوداني (الفستق)، فحفنة من الفستق مع ثلاث تمرات هي وجبة كافية يمكن أن تمدّ شخصا بالطاقة والعناصر الغذائية أضعاف ما يمنحه إياه الخبز على فرّض توفّره.
كما أن الفستق يمكن نثره، أو إمطاره، بطريقة الصرر هو الآخر.
قد يجادل البعض إنّ المكسرات باهظة الثمن نسبيا، ولكن كما سبقت الإشارة، الأمر لا يقتصر على الأردن، فهناك مئات الملايين حول العالم مستعدون للمساهمة لو وجدوا لذلك سبيلا، كما أنّ الدول المنتجة للفستق وأصناف المكسرات الأخرى يمكن أن تساهم من خلال التبرع أو توفير الكميات المطلوبة بأسعار مخفّضة أو سعر التكلفة.
الفكرة الثالثة: الفواكه المجفّفة، ويسري عليها من حيث الكيفية والطريقة ما يسري على الفكرتين أعلاه.
الفكرة الرابعة: الجمع بين الأفكار السابقة من خلال ما يسمّى أصابع أو ألواح الطاقة (انيرجي بار).
هذه الألواح رائجة حاليا بين الذين يمارسون الرياضة أو يحاولون اتباع حميات معينة أو نظاما غذائيا صحيا.
وميزّة هذه الألواح إلى جانب قيمتها الغذائية العالية أنها هي الأخرى يمكن أن تُنثر لتهبط مطرا من السماء.
ومرّة أخرى الملايين على استعداد للمساهمة والتبرّع، والآلاف على استعداد للتطوّع من أجل التحضير والتوضيب، بل إنّ شركات ودولا يمكن أن تخصص جزءا من مصانعها وخطوط إنتاجها من أجل تحضير هذه الألواح، أو التبرّع بمعامل وخطوط إنتاج كاملة وجاهزة للعمل لهذه الغاية.
الفكرة الخامسة: الدجاج البيّاض!
نعم الدجاج البيّاض، والفكرة جديّة وليست مزاحا، دجاج بيّاض يشكل موردا يوميا متجدّدا للبيض/ الغذاء لأهالي غزة.
دجاج يُلقى جزافا ليهيم وحده بين الأزقة والركام والأنقاض، ويتغذّى على خشاش الأرض دون أن يحتاج إلى رعاية وعناية خاصة أو إضافية، وليصل في نهاية المطاف الناس بدل أن يصلوا هم إليه.
وطريقة إنزال هذا الدجاج مقدور عليها متى اعتمدت الفكرة.
يمكن إنزاله في أقفاص تُفتح تلقائيا متى وصلت الأرض لينطلق الدجاج وينتشر، ولدينا في الأردن من المهندسين والفنيين الأفذاذ الذين يستطيعون بسهولة تصميم مثل هذه الأقفاص بأبسط التكاليف وأسهل الحلول.
أو يمكن حتى أن يُنثر الدجاج بلا أقفاص، وعندها يستطيع أصغر طالب فيزياء في أي جامعة إجراء الحسبة الرياضية اللازمة لذلك من حيث الارتفاع وتسارع السقوط الحر ومقاومة الهواء في ضوء وزن الدجاجة وطبيعة تكوينها وريشها.. وبما يكفل وصولها على قيد الحياة إلى سطح الأرض.
وحتى ما يصل نافقا من هذا الدجاج يمكن أكله بناء على فتوى تبيح أكل المَيْتة للمُضطر غير الباغي أو العادي.
وبالنسبة للكلفة المادية فأيضا لن يكون هناك مشكلة، فمتى ما فُتح باب التبرع لمثل هذه الأفكار فإنّ اعداد المستعدين لأن يهبّوا ويساهموا ستفوق الخيال.
الفكرة السادسة: الزراعة!
وتحديدا النباتات العشبية سريعة النمو التي لا تحتاج إلى عناية خاصة مثل السبانخ والخبيزة والجرجير (أو حتى غيرها من الأصناف التي قد لا نعرفها ولكن تعرفها مجتمعات وشعوب أخرى)، والتي حتى لو أُكلت نيئة أو مجرد براعم فإنّها تمثل مصدرا غذائيا ومهمّا.
وهنا يمكن تطبيق الفكرة بطريقتين، الأولى بنثر البذار في الهواء لتهبط وتنمو كيفما اتفق متى ما استقرت في تربة غزّة التي سبق وأن حرثها القصف والآليات، سيما وأنّ التربة ما تزال مشبعة بالرطوبة بكون موسم البرد والمطر لم ينقضِ بعد.
والطريقة الثانية أن تُلقى هذه الحبوب في صُرر هي أيضا، بحيث يقوم الناس بزراعتها بالاعتماد على أي مصدر ماء متاح حتى لو كان آسنا، أو برعمتها على أي خرقة متاحة كما كنا نفعل في حصص العلوم ونحن أطفال صغار.
الفكرة السابعة: الخبز.
ولكن هذه المرّة ليس من خلال إيصال الطحين وما يصاحب ذلك من صعوبات، بل من خلال إلقاء أرغفة الخبز الجاهزة لتنهمر هي الأخرى على الناس.
الفكرة الثامنة: الفحم وأقراص الكلور، من أجل الماء.
فالفحم يمكن استخدامه من أجل صناعة فلاتر بدائية لتنقية الماء من الشوائب، ويمكن أن يكون داخل كل صرّة فحم ورقةً إرشادية مصوّرة لكيفية صناعة فلتر يدوي أو بدائي باستخدام الفحم والحصى والرمل.
وأقراص الكلور من أجل تعقيم المياه وقتل الميكروبات ومسببات الأمراض بعد فلترتها من الشوائب والعكورة.
وعلى ذكر "الصُرر"، فيمكن أن يستخدم هذا الأسلوب من أجل إيصال حليب الأطفال وأشرطة العلاجات أيضا، على الأقل العلاجات الأساسية مثل المسكّنات والمضادات الحيوية ومطهّرات المعدة والأمعاء مصحوبة بالإرشادات اللازمة.
هذه جميعها أفكار مبدئية يمكن أن يشارك في بلورتها وإثرائها ومعالجة كافة تفاصيلها التقنية والفنية واللوجستية أصحاب الاختصاص في مجالات التغذية والبيولوجيا والطب والزراعة والهندسة بأنواعها والفنيين وخبراء الشحن والتزويد.. الخ، وذلك إلى جانب عشرات الأفكار الأخرى القابلة للتطبيق والاستدامة التي ستتدفق حتما متى ما فُتح لها الباب.
مرّة أخرى هذه الأفكار ليست بديلا عن كسر الحصار وفتح المعابر ودخول المساعدات.. إنّما هي أفكار تتعامل مع أمرٍ واقع، وتحاول أن تستفيد من أسلوب مطبق بالفعل هو "الإنزالات الجوية" ولكنه للأسف بصيغته الحالية ليس كافياً أو كفؤاً في تحقيق غاياته المرجوّة!