بعد مكائد السياسة واختبار الميدان.. المقاومة في مواجهة "مكائد الإغاثة"
جو 24 :
كتب عريب الرنتاوي -
فجأة، يستيقظ العالم على حقيقة أن لغزة شاطئ على البحر، وأن إقامة جسر عائم، يمكن أن يكون شريان حياة لأزيد من مليوني جائع في القطاع المنكوب، احتاج ما يعرف بـ"المجتمع الدولي"، ستة أشهر لاكتشاف هذه الحقيقة، وسيحتاج لشهرين آخرين، لتجسيدها على الأرض، لكأن الفلسطيني يمتلك ترف الوقت والانتظار.. لم يحسب أحدٌ كم من أطفال غزة ونسائها وشيوخها سيقضون جوعاً، قبل أن يبدأ الغوث "الإنساني" بالتدفق عبر هذا الشريان.
قبلها، كان العالم قد تلهى بحكاية "الانزالات الجوية"، وهي بحسب مسؤول أممي رفيع، باتت مناسبة "لالتقاط الصور"، أما الخبراء فيقولون بأن حمولة شاحنة واحدة، تعادل حمولة أربعٍ من طائرات الانزال، وبحسبة بسيطة فإن ما يمكن إدخاله من الشاحنات في نصف نهار، يعادل، وربما يفوق، كل ما جرى إسقاطه على الغزيين من وجبات غذاء من الجو، وبكلفة إنسانية أقل، سيما بعد "السقوط الحر" لصناديق المساعدات على رؤوس المتعلقين بها بفارغ الصبر، والذي أودى بحياة خمسة منهم، وأصاب بجراح بليغة أضعاف هذا العدد، دع عنك ما سقط منها في البحر وفي مستوطنات الغلاف.
الدول الغربية والعربية تطرق كل الأبواب رافعة لواء "تقديم الإغاثة والعون الإنسانيين" لأهل غزة الذين تضربهم المجاعة والأمراض بقسوة، بيد أنها تتفادي طرق الباب الأوحد الموصل فعلاً إلى درء الكارثة: رفع الحصار وفتح المعابر والبوابات وفي مقدمها معبر رفح...لا أحد في هذا العالم بقادر على تحدي "الفيتو" الإسرائيلي، وليس للفاشية الإسرائيلية من يردعها، لا من العرب والمسلمين ولا من الفرنجة.
ثمة إجماع دولي نادر، حول الحاجة لإدخال المساعدات للقطاع وأهله، تختلف دوافعه ومراميه باختلاف أطرافه...القادة العرب والمسلون في حرج بعد أن ذهب قرارهم البائس في قمتهم الطارئة اليتيمة، بكسر الحصار على غزة، أدراج الرياح...القاهرة، عاصمة الدولة العربية الأكبر، التي تمتلك "نصف أسهم" المعبر الأشهر، تنتظر مثل "غودو" الموافقة الإسرائيلية على إدخال حبة الدواء وكسرة الخبز وشربة الماء لمحتاجيها من "الأشقاء الفلسطينيين"...بايدن باتت له مصلحة شخصية وحزبية، في فعل "شيء ما"، بعد أن "طاحت" حظوظه الانتخابية، أو أطاحت بها بالأحرى، شراكته في الحرب الإسرائيلية على غزة، وجرائمها...الشيء ذاته ينطبق على القارة العجوز التي تكاد عواصمها ومدنها، لا تخلو يوماً من عشرات ألوف المحتجين والمتظاهرين.
لكن هؤلاء جميعاً، "بربطة معلم"، يقفون عجزة ومتواطئين، أمام صلف نتنياهو وتعنت مجلس حربه، لا يحركون ساكناً، مع أن بحوزتهم من الأوراق ما يكفي لجلب إسرائيل زاحفة على بطنها، وليس على ركبتيها، للقبول بخيار التهدئة وإدخال المساعدات ومعالجة أبشع كارثة إنسانية في التاريخ المعاصر...هم لا يفعلون سوى إصدار البيانات المعبرة عن القلق والرفض والاستنكار، لكأنهم كشهرزاد، يقفون عن "الفعل المباح" عندما يدركهم الصباح...ولا بأس من باب "تسكين الضمير" أو "رفع الحرج" من الإقبال بزخم على ممارسة الاستعراضات الجوية التي لا تغني ولا تسمن من جوع...أما مع الجسر البحري، فإن المسرحية ستبلغ طوراً أعلى، التي وإن كانت مدفوعة لدى البعض بأطيب النوايا الإنسانية، إلا أنها لدى البعض الآخر، مفخخة بألغام السياسة ومكائدها ومؤامراتها، وهي بالنسبة لهذا "البعض" بخاصة، تجربة، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب.
إن كانت واشنطن قادرة على "إرغام" إسرائيل على قبول الممر البحري وجسره العائم على شاطئ غزة، كما بدا الأمر للوهلة الأولى، قبل أن تتكشف حقيقة أننا أمام مشروع إسرائيل تمت صياغته بلسان أمريكي، فما الذي حال ويحول دون قدرتها على إرغامها على فتح معبر رفح، وهل يصدّق أحد، بأن واشنطن التي تعهدت دعم إسرائيل "من الباب للمحراب"، عاجزة عن فتح وتفعيل الممرات البرية الإنسانية لإغاثة منكوبي غزة وجياعها؟....الحقيقة أن واشنطن، ومن قبلها تل أبيب، اهتدتا لطريق تراهنان أنه سيمكنهما من تحقيق مكاسب بالإغاثة ومكائدها، عجزتا عن تحقيقها في الميدان ومكائد السياسة، وهما قررتا على نحو فج ولئيم، ممارسة "الضغط العالي" على اليد المجروحة للمقاومة: معاناة أهلها وبيئتها الحاضنة...لقمة العيش وحبة الدواء تستخدم هنا بشكل إجرامي وفجّ، لتحقيق أغراض سياسية.
مكائد الإغاثة
ما الذي تريد واشنطن، ومن قبلها تل أبيب، بهذه الخطوة؟ وما هي علاقة "مبادرة الممر والجسر البحريين" بترتيباتهما لمرحلة ما بعد الحرب على غزة، ومشروعهما المشترك الهادف "قطع رأس المقاومة"؟ وكيف سينعكس كل هذا وذاك، على مصير مفاوضات التهدئة، ومعركة رفح بشكل خاص؟...وهل ثمة أهداف بعيدة المدى، تتصل بغاز غزة وشرق المتوسط؟
أسئلة وتساؤلات، شغلت الرأي العام الفلسطيني، والرأي العام الشقيق والصديق، منذ خطاب "حال الاتحاد" الذي نطق به عجوز السياسة الأمريكية، المتفاخر بصهيونيته، وصاحب "نظرية لم تكن إسرائيل موجودة لتعين خلقها".
أولاً؛ يمكننا الافتراض، أن فتح الممر البحري، سيخفف الضغوط على إسرائيل من أجل إنجاز التهدئة وفتح معبر رفح، والبقاء طويلاً (إن لم يكن دائماً) في قطاع غزة، أو في بعض مفاصله ونقاطه الاستراتيجية، يد إسرائيل ستكون "طليقة" طيلة هذه الفترة، وستظل ورقة المساعدات، بحوزتها ما شاءت، تستخدمها كيفما شاءت ووقتما شاءت.
ثانياً؛ ستعتمد إسرائيل "آلية" لتوزيع المساعدات، بالاستناد إلى جماعات فلسطينية مطواعة ومتساوقة مع مشاريعها، هي اليوم، تسعى في بناء ميليشيات مناهضة لحماس والجهاد، من ساقطين ومرتزقة، وغداً ستوسع دائرة المتعاونين، بما يضم بعض أجنحة فتح والسلطة والمنشقين عنهما، لخلق قاعدة اجتماعية مناوئة لحماس، واستحداث الفصل بينها وبين بيئتها الحاضنة، ودائماً تحت ضغط الحاجة اليائسة للقمة العيش وحبة الدواء.
ثالثاً؛ إن كانت واشنطن تفضل تفعيل بقايا السلطة في القطاع، للقيام بهذه المهمة، فإن إسرائيل تفضل الاعتماد على "إدارات محلية" هي مزيج بين عناصر مليشياوية، موثوقة، ومسيطر عليها من قبلها وبالشراكة مع عواصم إبراهيمية، ومن يمكنه الالتحاق بها من رموز ساقطة، عشائرية وحمائلية ومرتزقة وتجار حروب وأزمات، وربما تجري في سياق تطور الأحداث، المزاوجة بين مختلف هذه الأطراف والأطياف وتوزيع الأدوار فيما بينها.
رابعاً؛ قد تلجأ إسرائيل، استجابة لطلب واشنطن، إعداد خطة إنسانية للتعامل مع الكثافة السكانية المكتظة في رفح قبل فتح معركتها، إلى إعادة توزيع قسم من سكان المحافظة الجنوبية، توطئة لما يعتبره نتنياهو "أم المعارك"، وهو توصيف يوافقه عليه بيني غانتس، "حبيب واشنطن وبعض عواصم الاعتدال العربي"، الذي يرفض نظرية إطفاء 80 بالمئة من الحريق، ويصر على إطفائه كاملاً، في رفح ومنها هذه المرة.
خامساً: ليس الحدث عن "مبادرة المعبر والجسر"، بعيداً عن مشاريع ذات طبيعة استراتيجية، كثر الحديث عنها قبل السابع من أكتوبر، وبالأخص بعده، من نوع: غاز غزة وشرق المتوسط، وقناة بن غوريون، وطريق التوابل والبهارات الهندي المصمم لمواجهة "مبادرة الطريق والحزام" الصينية، وهل ثمة من سيناريو أفضل لتأمين هذه المشاريع، من إعادة احتلال غزة، بصورة فاقعة أو مقنعة، ودائماً تحت الرعاية الأمريكية، وبوجود أمريكيين في بحر غزة أولاً، وصولاً إلى برها إن تطلب الأمر؟
ثمة رائحة تزكم الأنوف، تنبعث من "مبادرة الممر والجسر"، وثمة فخاخ قابلة الانفجار في وجوهنا جميعاً، وليس في وجه الفلسطينيين وحدهم، إن قدر لها أن ترى النور، وأن تراه على النحو الذي يخطط له أعداء فلسطين، وأحسب أن قراءة مدققة في مكونات "الحشد الدولي" الذي يقف ورائها، تشي بالمستور من أهداف ونوايا...على أن أخطر ما في الأمر، أن القوى المناهضة لهذه المخططات المريبة، وبالذات المقاومة التي صمدت بصلابة في الميدان، وتصدت بذكاء لمكائد السياسة، ستجد صعوبة أكبر في التعامل مع "مكائد الإغاثة"، لأسباب إنسانية وأخلاقية، وصدق من قال أن "الجوع كافر"، و"ليس بعد الكفر ذنب".
* الكاتب مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
(نقلا عن موقع الميادين)