المقاومة وعدوّها: من يحاصر من؟
عريب الرنتاوي
جو 24 :
مع اقتراب الحرب الإسرائيلية على غزة من دخول شهرها الثامن، يبدو سؤال "من يحاصر من؟ أكثر جديةً من أي وقت مضى. وعلى هامشه، ومن تنويعاته، اشتقَّ الصديق نبيل عمرو عنواناً لمقالة له عن "النصرين الممنوعين" في غزة، نصر "إسرائيل" ونصر حماس، أقله وفق التعريفات الابتدائية للنصر والهزيمة، كما وردت في خطابي الفريقين في بداية الحرب.
وفي تفصيل ما أوجزناه نقول، بلغة واقعية، ولا أقول محايدة، فلا حياد حين يتصل الأمر بعدو محرمٍ، يكاد يُجمع العالم وقضاؤه الدولي على أنه كذلك، وهو يتحضر للحصول على وثائق رسمية، تثبت تموضعه في هذه الخانة الرديئة، إلى جانب أقرانه من القتلة ومجرمي التطهير العرقي والإبادة الجماعية... نقول، بكثير من الواقعية، إن الوقت لا يمر لمصلحة "إسرائيل" ومستويَيها السياسي والعسكري، وإن محنة نتنياهو وفريقه أشد قسوة عليه مما يكابده قادة الكتائب والسرايا، الذين يخوضون قتالاً غير متلائم، تحت أقسى الظروف وأصعبها.
الشعب الفلسطيني (ومقاومته) قدم فاتورة الدم الباهظة، صامداً صابراً محتسباً، ولم يعد الابتزاز عبر فرض مزيد من الأثمان مجدياً. لا "معركة رفح" ولا أي معركة غيرها باتتا سبباً كافياً في دفع المقاومة إلى تقديم التنازلات، أو إلى النزول عن قمة الشجرة، كما يدعوها إلى فعل ذلك بعض "الإخوة الأعداء".
اليوم، يتعين على "إسرائيل" أن تدفع الفاتورة الباهظة، من صورتها ومكانتها في الساحتين الإقليمية والدولية. اليوم، يتعين على قادتها إمضاء لياليهم بلا نوم، تحسباً لمذكرات التوقيف التي ستصدر عن القضاء الدولي وأجهزة القضاء المحلية في عدة دول. عليهم أن يتحسسوا مواطئ أقدامهم، بعد أن صاروا كالمصاب بالجرب أو الجذام، وعليهم أن يأخذوا بنصيحة وزير خارجيتهم إسرائيل كاتس بشأن التزام منازلهم وتفادي المجازفة في السفر إلى الخارج.
لسببين أو ثلاثة أسباب، فقدَ التلويح بـ"معركة رفح" وظيفته الردعية، ولم تعد هذه الورقة طلقة أخيرة، لا في جعبة نتنياهو ولا في جعب غيره من الإسرائيليين وشركائهم في سفك الدم الفلسطيني. أولها، أن هذه "الطلقة الأخيرة" قد تصبح "المسمار الأخير" في نعش نتنياهو وحكومته وكيانه، فالمقاومة جاهزة لكل السيناريوهات وقيادة الداخل طمأنت قيادة الخارج إلى سلامة وضع المقاومة. ورفح، في كل المقاييس، لن تكون أقل من شقيقاتها في غزة وخان يونس، إن لم تكن أصعب منهما مراساً.
وثانيها، أن المعركة في رفح محمّلة بالتداعيات الإنسانية والجيوسياسية، والتي ما إن تبدأ المعركة حتى تبدأ مفاعليها تنعكس عبر أشد العواقب على "إسرائيل"، حتى لدى من تبقى لها من حلفاء مخلصين. وليس ثمة في الأفق المنظور، على الأقل، ما يشي بأن "إسرائيل" تستطيع أن تتخطى هذه التداعيات، أو أنها أعدت العدة الكافية لتخطيها.
وثالثها، أن العالم ينقلب على "إسرائيل"، وانتفاضة الجامعات الأميركية، الممتدة بفعل "الدومينو" إلى شقيقاتها من الجامعات العالمية، ليست سوى رأس جبل الجليد الظاهر. أما الجزء الغاطس منه، فيتفاعل بقوة تحت سطح المجتمعات التي نفضت عن نفسها غبار الدعاية الزائفة عن "واحة الديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط القاحلة". و"إسرائيل" لم تكن يوماً عرضة لمواجهة ما عدّه معهد دراسات أمنها القومي، قبل السابع من أكتوبر، "خطر نزع الشرعية"، كما هي عليه اليوم.
نمضي أبعد من ذلك لنقول: إنه في الوقت الذي يفرد بعض "الشاشات الناطقة بالعربية والموجهة بالعقل العبري"، ساعات متواصلة لترويج فرضية انقسام حماس بين داخل وخارج، قيادة سياسية وذراع عسكرية، فإن العالم يشهد، عبر كل الشاشات، وبكل اللغات، الحالة المركّبة التي تعيشها "إسرائيل" من الانقسام والصراع الداخليين، داخل المستوى السياسي الحاكم، وبين السلطة والمعارضة، وبين كل هؤلاء والمستوى العسكري، بينما حبل الاستقالات يمتد ومرشح للتطاول، قبل صدور مذكرات التوقيف الجنائية الدولية، والأرجح بعدها.
والحقيقة أن "إسرائيل" ليست وحدها المحشورة في أضيق زواياها، فحلفاؤها أيضاً يعانون ما تعاني، بعد أن تظهّر لهم أن هذا الكيان يتحول من ذخرٍ لهم إلى عبءٍ عليهم. وفي ظني أن "المستوى الفكري" في الولايات المتحدة والغرب بدأ يستشرف هذه الحقيقة، مستبقاً "المستوى السياسي" فيهما. وأحسب أن انتفاضة الطلاب في خيرة الجامعات الأميركية والعالمية، ومعهم رهط من أساتذتهم، ما هي إلا بداية لتحولات تاريخية أعمق وأوسع. أحسب أن هذا الجيل، الذي يتعرض للملاحقة والمطاردة والابتزاز والاعتقال، ويجبَر على ارتداء الأقنعة لحجب هويته، في بلد لطالما فاخر بأنه يقف على رأس زعامة "العالم الحر والمتحضر"، هو إيذان بقرب انقلاب المشهد، وخصوصاً حين يخرج من بين هؤلاء الطلبة من سيشكل النخب الحاكمة والمقرِّرة في الولايات المتحدة وغيرها.
الحرب في نهاية شهرها السابع تفقد طابعها القتالي، فلا عمليات تكتيكية ولا تحولات استراتيجية يشي بها الميدان، والمقاومة – كما تقول واشنطن – ما زالت تستنزف الاحتلال في شمالي القطاع ووسطه، وليس ثمة ضمانة بأن ما تبحث عنه "إسرائيل" ستجده في رفح، بعد أن أخفقت في إيجاده في غزة وشماليها وخان يونس وجوارها.
الحرب مستمرة بقوة الدفع والمكابرة، وظيفتها القتل لا القتال، والمقاومة ما زالت قادرة على إطلاق الصواريخ من تحت أقدام الإسرائيليين في بيت لاهيا وبيت حانون، كما يقول الأميركيون لنظرائهم الإسرائيليين. فما الذي تجنيه "تل أبيب" من الاستمرار في حربها، وما الذي يمكن أن تتحصل عليه في رفح، ولم تحصل عليه في شقيقاتها وسط القطاع وشماليه؟
نتنياهو في أسوأ لحظات حياته، يتحول من "مستر أمن" و"ملك إسرائيل" إلى مجرد "مجرم حرب" ينتظر مذكرة الجلب والاعتقال. شارعه ينقلب عليه، وجيشه وجنرالاته لا يثقون بقيادته، والسياسيون ينفضون من حوله، وحكومته تحولت إلى "سيرك" للمهرجين، والرأي العام العالمي لا يكن له سوى مشاعر الاحتقار، وحلفاؤه، ينتظرون لحظة هبوطه عن السلم، ومغادرته المسرح نهائياً، بل يستعجلون لحظة رحيله أو ترحيله.
الرجل، الذي أرسل جيشه، وقامر بحيوات محتجزيه وأسراه، من أجل ضمان بقائه في السلطة، يكتشف، بعد مرور الوقت الثمين، أن القطار فاته، وأنه كان يطارد خيط دخان.
في المقلب الآخر، تبدو الصورة مغايرة في الضفة الأخرى من هذا الصراع. صحيح أن الفاتورة الإنسانية باهظة التكلفة على الفلسطينيين، ولا أحد عليه أن يتنكر لهذه الحقيقة، وأي تحليل ناقص إن تجاوزها... لكن غزة تتحول إلى "أيقونة" عالمية لكل مناضلي العالم ضد العنصرية والتطرف اليميني الديني والتطرف القومي والشعوبيات المعادية للآخر. غزة تتحول إلى أيقونة لموجة النضال العالمي الجديد، ضد الاستعلاء وتفوق الرجل الأبيض والاستعمار والصهيونية بصفتها الطبعة الأكثر رداءة وقبحاً للعنصرية والتمييز العنصري.
وقادتها في خنادق المقاومة وأنفاقها يتحولون، بدورهم، إلى "رموز" وأيقونات، تتلقف تصريحاتهم وأخبارهم الملايين التواقة في عالمينا العربي والإسلامي، بصفتهم مقاتلي حرية وتحرير. وكلما ضاقت عليهم الرقعة في غزة المحاصرة والمدمرة، اتسعت لهم الساحات والميادين في كل أرجاء الأرض، بينما قضيتهم، الأعدل والأنبل، ترتقي اليوم لتحتل مكانتها في قلب أولويات السياسة الداخلية في عشرات الدول، بما فيها الكبرى، بعد أن كانت في ذيل اهتمامات السياستين العربية والدولية.
من يحاصر من؟
سؤال يستمدَ راهنيته، ونحن في ذروة المفاوضات بشأن ما يسمى مشروع "الفرصة الأخيرة" لاستعادة الهدوء ووقف الحرب، ونحن نقترب إلى المفترق الأخير في سباق الحرب والدبلوماسية. فلا يظننّ أحدٌ أن المقاومة تذهب إلى القاهرة من موقع "المزنوق"، المحاصَر، والمجرد من أوراقه وخياراته.
ولا يظننّ أحدٌ أن نتنياهو يبعث رُسله من موقع القوة والخيارات المفتوحة. ولو كان نتنياهو في مثل هذا الموقع، لما ذهب إلى القاهرة أصلاً. ولو كانت المقاومة مجردة من الأوراق والخيارات لاختارت الشق الثاني من "خاتمة أبي عبيدة": نصراً أو استشهاداً. "إسرائيل" والمقاومة في قلب معركة "عض الأصابع"، وربما في ربع الساعة الأخير، والشجاعة (والنصر) صبر ساعة.
ونعود إلى فرضية "النصرين الممنوعين"، نصر نتنياهو المطلق، الذي بات بضاعة كاسدة لم يعد يشتريها أحد، ونصر حماس المطلق، الذي أعطاه بعض أصدقاء المقاومة وخصومها، على تباين نياتهم وأهدافهم، معاني وتفسيرات، تخطت نظرية "الفوز بالنقاط" على العدو لا بالضربة القاضية.
حماس أرادت، عبر الطوفان الذي أطلقته في السابع من أكتوبر، إلقاء حجر ضخم في المستنقع الآسن الذي انزلقت إليه القضية الفلسطينية تحت قيادة فريق أوسلو وترويكا الحكم في رام الله، وكان لها ما أرادت.
وحماس أعادت وضع فلسطين في مقدمة السياسات الداخلية والخارجية للقاصي والداني، وكان لها ما أرادت. والنصر من منظور المقاومة، في الحروب غير المتناظرة، يتخلص في منع العدو من تحقيق أهدافه، والمقاومة فعلت أكثر من ذلك، إذ أظهرت هشاشة هذا العدو، ودكت جدران الردع الذي أحاط نفسه بها، وأسقطت الأساطير المؤسِّسة لهذا الكيان، ونزعت عنه "لبوس الشرعية الزائف"، وتركته عارياً بلا ورقة توت، والمقاومة أفقدت "إسرائيل" الدور المرسوم لها، كقائدة لحلف إقليمي يحمي العرب مما يسمى "التهديد الإيراني"، فإذا بها عاجزة عن حماية نفسها.
قادة "إسرائيل" وبعض الغرب، وبعض العرب، لم يدّخروا جهداً لمنع المقاومة من الوصول إلى غايتها ومراميها، لكن "الله متمم نوره ولو كره الكافرون".