الأردن ومصر.. إلى متى سيستمر مسلسل الشجب والإدانة والتحذير؟
جو 24 :
كتب: كمال ميرزا
في لقائهما الأخير أكّد رئيسا الوزراء الأردني بشر خصاونة والمصري مصطفى مدبولي رفض بلديهما القاطع تهجير الفلسطينيين إلى أي مكان خارج بلادهم مهما كانت وجهة التهجير.
حسناً، أنا أيضاّ أرفض رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين، وجارنا يرفض رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين، ودكنجي حارتنا يرفض رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين، والرجل الغريب المارّ بالشارع ولا نعرف اسمه يرفض رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين، وجدتي رحمها الله في قبرها ترفض رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين، وجنين قريبتنا الذي ما يزال في رحم أمّه يرفض رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين، وقطط الحوش لدينا ترفض رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين، ولو تبيّن أنّ هناك حياة ذكية على كوكب آخر من كواكب هذا الكون الفسيح فحتماً أنّ هذه المخلوقات الفضائية سترفض هي الأخرى رفضاً قاطعاً تهجير الفلسطينيين!
ولكن ما نفع كلّ هذا الرفض القاطع باللسان إذا لم يصاحبه أفعال حقيقية قاطعة وحازمة على الأرض؟!
الشيء المؤسف والمخزي بعد أكثر من سبعة أشهر أنّ السلاح الأقوى ضمن ترسانة العدو الصهيو - أمريكي في حرب الإبادة والتهجير المفتوحة التي يشنّها على الشعب الفلسطيني هو هشاشة وركاكة وتخاذل مواقف الدول العربية والإسلامية.
ومرّة أخرى، عندما نقول "مواقف" فليس المقصود الكلام باللسان، بل الأفعال الحقيقية الملموسة على أرض الواقع!
الدول العربية والإسلاميّة سواسيةٌ من حيث تهافت مواقفها، وسواسيةٌ من حيث اختبائها السمج والممجوج وراء بيان قمة الرياض الذي لا يُسمن ولا يُغني من وجوع.. ولكن يبقى للموقفين الأردني والمصري خصوصية تجاه ما يحدث تتجاوز أي بلد آخر في العالم، ليس بحكم القرب والقرابة والعلاقة اللصيقة التي تربطهما بفلسطين والقضية الفلسطينية، ولكن لأنّ الأمن الوطنيّ والوجوديّ لكلّ من الأردن ومصر في خطر وعلى المحك أكثر حتى من القضية الفلسطينية نفسها!
لو نجحت المخططات الصهيو - أمريكية فإنّ الفلسطينيين لن يتوقفوا عن كونهم فلسطينيين، والقضية الفلسطينية لن تتوقف عن كونها قضيتهم جميعاً أينما شتّ بهم المقام، ومهما تعدّدت وتعاقبت عليهم الأجيال.. هذه سيرتهم منذ أكثر من 75 سنة!
ولكن نجاح هذه المخططات بالنسبة للأردن ومصر يعني أنّ الأردن لن يعود هو الأردن، ومصر لن تعود هي مصر!
بالنسبة للأردن، فإنّ اليمين الصهيوني المتطرّف الذي يحكم الآن، ويمثّل المزاج العام للناخبين الصهاينة والمجتمع الصهيوني الذي يتكوّن في سواده الأعظم من مستوطنين مجرمين ومتديّنين "حريديم" متطرّفين ومجرمي حرب حاليين وسابقين.. هذا اليمين لا ينظر إلى الأردن إلّا باعتباره وطناً بديلاً للفلسطينيين، هذا إذا تجاوزنا أولئك الكثرة الذين ما يزالون يصرّون على أنّ الأردن هو جزء لا يتجزّأ من إسرائيل التوراتية الكبرى!
ونجاح ماكينة الحرب الصهيونية في إتمام مهمتها القذرة في غزّة يعني تحويل تركيزها فوراً إلى الضفة الغربية، والشروع بمخطط إعادة احتلالها وتهجير أبنائها إلى شرق النهر، وهو المخطّط الذي لا تحاول حكومة اليمين المتطرّف الصهيونية إخفاءه أو تجميله، وقد سبق لها وأن مهّدت له بتسليح قطعان مستوطنيها في الضفة!
وبالنسبة لمصر، فإنّ نجاح المخطط الصهيو - أميركي في غزّة يعني دقّ المسمار الأخير في نعش نظرية الأمن القومي المصري بسقوط بوابته الشرقية، واكتمال الشريط المتهتك الذي يحيط بالدولة المصرية، ليبيا في الغرب، والسودان في الجنوب، وأثيوبيا التي تقبض على مياه النيل وتتحكّم بها في العمق الإفريقي!
وما هي إلا طرفة عين حتى يتم اختلاق ذريعة ما لافتعال صدام مباشر مع مصر، وتحقيق الهدفين الإستراتيجيين بعيدي المدى اللذين طالما حلم العدو الصهيو - أمريكي بتحقيقهما: تدمير الجيش المصري الأكبر مما ينبغي والأقوى مما ينبغي، وإعادة وضع اليد على سيناء وقناة السويس انتقاماً من خطيئة عبد الناصر التي لا تغتفر بتأميمه القناة وإرجاعه لها تحت السيادة المصرية!
بكلمات أخرى، الدولتان الأردنية والمصرية رغم مواقفهما المتشنّجة التي تصل حدّ الاستعداء تجاه المقاومة ومحور المقاومة، هما للمفارقة أكبر المستفيدين من صمود المقاومة وبطولات أبنائها!
لقد أصرّ الاردن الرسمي وكذلك مصر خلال الأشهر السبعة الماضية على الاحتفاظ بعلاقاتهما مع الكيان الصهيوني في مختلف الأصعدة برغم المواقف الشعبية الرافضة بذريعة أنّهما باحتفاظهما بهذه العلاقات سيكونان أقدر على خدمة الشعب الفلسطيني وإغاثته وإسناده.
ولكن مع تواصل المخطط الصهيو - أمريكي، والشروع في احتلال رفح ومعبرها، واحتلال محور فيلادلفيا، واكتمال بناء القاعدة الأمريكية تحت مسمّى الميناء الإنساني العائم.. فإنّ الخطر الذي يمثّله اجتياح رفح والمزيد من حصار المقاومة واستنزافها يفوق كثيراً أيّ خدمات يمكن أن يقدّمهما الأردن ومصر للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية في الظرف الحالي.
حتى بالمنطق الإغاثي والإنساني البحت، فإنّ حجم الكارثة الإنسانية التي ستترتب على اجتياح رفح يفوق بأضعاف مضاعفة أي مساعدات أو جهود إغاثية أو إنزالات جويّة يمكن أن يقوم بهما الأردن ومصر.
بل إنّ الجهود الإغاثية في هذه الحالة ستوصل رسالة سلبيّة إلى الشعب الفلسطيني وإلى شعبي البلدين وإلى عموم شعوب العالم المتضامنة مع الحقّ الفلسطيني مفادها: للكيان الصهيوني الحقّ بارتكاب ما يحلو له من جرائم وموبقات، ومهمتنا نحن تنحصر فقط في محاولة التخفيف من وطأة هذه الجرائم ووقعها وآثارها.. هذا إذا سُمح للأردن ومصر أساساً بالاستمرار في إيصال المساعدات بعد دخول ميناء الحصار والتهجير الأمريكي حيّز الخدمة!
خلاصة الكلام، الأردن ومصر بنصرتهما للمقاومة ودعمهما لصمودها هما فعليّا لا ينتصران للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بمقدار ما ينتصران لأمنهما الوطنيّ والوجوديّ، ويحميان بقاء واستمرار الأردن ومصر نظاماً وسيادةً وكيان دولة!
ورهان النظامين الأردني والمصري على "خيار الاعتدال" بصيغته الحالية، وعلى "خيار السلام" بصيغته الاقتصادية الموعودة، وعلى الحليف الأمريكي و"الصديق" الإسرائيلي.. هو رهان يهدّدهما قبل أن يهدّد أي طرف آخر في العالم، باستثناء طغمة قليلة من النخب الوظيفيّة المتغرّبة التي ربطت مصيرها ومصالحها الشخصية منذ زمن طويل بالأمريكيّ والصهيونيّ!
بالعودة إلى تصريحات الخصاونة ومدبولي، فإنّ النَفَس الذي يتحدّث به مسؤولو البلدين عموماً، سواء في معرض شجبهم وإدانتهم، أو في معرض تحذيرهم من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، أو في معرض إبداء تعاطفهم مع الضحايا والأسرى وأُسَرِهم من كلا الجانبين بما يساوي بين الضحية والجلّاد.. هذا النَفَس يوحي أنّ هؤلاء المسؤولين ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم طرفاً ثالثاً محايداً يقف على مسافة متساوية من "الخصمين" الفلسطيني والصهيوني، وعلى مسافة متساوية من حقّ الفلسطينيين بالعودة وتقرير المصير.. و"حقّ" الكيان الصهيوني بالوجود والدفاع عن النفس، وأنّ ما يحدث وكأنّه يحدث وراء سبعة بحار أو في بلاد "الواق واق" وليس في عقر دارهم ويمسّهم في صميم أمنهم ووجودهم ومستقبلهم هم ودولهم وشعوبهم!
الهامش الزمني يضيق أمام الأردن ومصر من أجل تحويل شجبهما وإدانتهما وتحذيرهما إلى سلوك عمليّ، واستغلال الأوراق الكثيرة التي في جعبتيهما بينما هي ما تزال صالحةً للاستخدام.. أمّا الانتظار والتريّث أكثر فيعني فقدان الأردن ومصر لهذه الأوراق تباعاً، وتسهيل المهمة على العدو الصهيو - أمريكي في جعل الأردن ومصر الهدفين التاليين على قائمة المخططات والترتيبات التي يضمرها هذا العدو وأعوانه وأتباعه للمنطقة!