الفوضى القيادية في الجامعات الحكومية: بين الضغوطات الخارجية والأزمات التنظيمية
أ. د. هاني الضمور
جو 24 :
تواجه مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي، وخاصة الجامعات الحكومية، تحديات خطيرة تتعلق بعدم استقرار القيادات الأكاديمية، حيث تتزايد التدخلات الخارجية وتؤدي إلى تعيينات غير موضوعية في مراكز السلطة الأكاديمية. هذه التدخلات لا تقتصر فقط على تعيين القيادات، بل تمتد إلى جميع مستويات القرارات الأكاديمية والإدارية، مما يسهم في خلق حالة من الفوضى التنظيمية التي تؤثر بشكل كبير على جودة التعليم والبحث العلمي.
غياب الاستقرار القيادي: بين الضغوطات الخارجية والتغييرات المتكررة
إن أحد أبرز العوامل التي تزعزع استقرار الجامعات الحكومية هو الضغوط الخارجية، سواء السياسية أو الشخصية، التي تفرض على الجامعات تغييرات مستمرة في القيادات. كثيرًا ما يُعيّن رؤساء الجامعات أو عمداء الكليات بناءً على مصالح خارجية، وليس بناءً على الكفاءة أو الخبرة الأكاديمية. هذه التغييرات المستمرة تؤدي إلى تعارض في السياسات الأكاديمية وتعيق تحقيق استراتيجيات تطوير طويلة الأمد.
الجامعات التي تتعرض لهذه التدخلات تواجه مشاكل كبيرة في قدرتها على وضع خطط استراتيجية متماسكة. كل إدارة جديدة تأتي برؤية مختلفة، مما يؤدي إلى تغييرات غير مدروسة في المناهج الدراسية والبرامج الأكاديمية. على سبيل المثال، قد تُلغى برامج دراسية مهمة أو تُعدل المناهج بناءً على رغبات القيادات الجديدة دون دراسة احتياجات الطلاب أو متطلبات المجتمع الأكاديمي. هذا التغيير المستمر يؤدي إلى انعدام الاستقرار ويفقد الجامعات القدرة على تحقيق أهدافها الأكاديمية.
تأثيرات الفوضى القيادية على التعليم والبحث العلمي
عندما تكون القيادة الأكاديمية غير مستقرة، فإن تأثير ذلك يمتد ليشمل جميع جوانب العملية التعليمية. تصبح القرارات الأكاديمية "مائلة” وغير متسقة مع الاحتياجات الفعلية للطلاب وأعضاء هيئة التدريس. على سبيل المثال، قد يتم تبني نظام تسجيل إلكتروني جديد لتحسين الكفاءة، لكن غياب التخطيط الجيد والتغيير المستمر في القيادات يجعل هذا النظام غير مكتمل، مما يؤدي إلى إرباك الطلاب وتضييق فرصهم في الاستفادة من الموارد المتاحة.
أما بالنسبة للبحث العلمي، فإن الجامعات التي تشهد تغييرات مستمرة في القيادة تواجه صعوبة كبيرة في وضع استراتيجيات طويلة الأمد لتعزيز البحث والتطوير الأكاديمي. كل قيادة جديدة تأتي بأولويات مختلفة، مما يؤدي إلى تعطيل المشاريع البحثية المستمرة ويؤثر سلبًا على سمعة الجامعات وقدرتها على التنافس على المستوى الدولي.
كيف تؤثر هذه الفوضى على جودة التعليم؟
الطلاب هم الفئة الأكثر تضررًا من الفوضى القيادية في الجامعات الحكومية. إن التغييرات المستمرة في البرامج الأكاديمية والمناهج الدراسية تؤدي إلى نقص الفرص المتاحة للطلاب لتطوير مهاراتهم والابتكار في دراساتهم. التركيز على معالجة الأزمات الفورية بدلاً من التخطيط الاستراتيجي يؤثر سلبًا على التجربة التعليمية ككل.
أما بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس، فإن عدم استقرار القيادة يؤدي إلى نقص الدعم المطلوب لتنفيذ خططهم البحثية أو تطوير المناهج الدراسية. هذا يؤدي إلى إحباط بين الأكاديميين الذين يشعرون أن جهودهم تذهب سدى بسبب غياب الاستقرار الإداري. النتيجة هي تراجع في الأداء الأكاديمي وإضعاف الدافعية لتطوير التعليم والبحث.
الضغوط الخارجية وتأثيراتها: فوضى تقتل التقدم
تعتبر الضغوط الخارجية، سواء السياسية أو الشخصية، أحد أكبر العوامل التي تعيق تقدم الجامعات الحكومية. هذه التدخلات تؤدي إلى تعيينات غير موضوعية في المناصب القيادية، وتضع الجامعات في مواجهة قرارات غير مدروسة وغير متسقة. نتيجة لذلك، تفقد الجامعات استقلالها الأكاديمي، وتصبح خاضعة لأجندات خارجية لا علاقة لها بتطوير التعليم أو تحسين جودة البحث العلمي.
تجد الجامعات نفسها عاجزة عن تنفيذ استراتيجيات تطوير مستدامة، حيث يتم فرض قيادات جديدة بناءً على علاقات شخصية أو ضغوط سياسية. هذا الوضع يؤدي إلى إضعاف ثقة المجتمع الأكاديمي في النظام التعليمي، ويجعل الجامعات بيئة للتجارب الفاشلة، حيث يتم تغيير السياسات والمناهج بشكل مستمر دون وجود رؤية واضحة أو استراتيجية مشتركة.
نحو قيادة مستقرة ومستدامة: الحلول الممكنة
لحل هذه الأزمات المتكررة، يجب أن تُمنح الجامعات الحكومية استقلالية حقيقية في اتخاذ قراراتها الأكاديمية والإدارية. تعتمد المؤسسات التعليمية الرائدة على استقرار القيادة وتوفر بيئة مرنة للابتكار والتطوير. ولتحقيق هذا الهدف، يجب اتباع ما يلي:
1.اعتماد معايير شفافة للتعيين:
يجب أن تكون هناك لجان تقييم مستقلة تضمن أن تعيين القيادات الأكاديمية يعتمد على الكفاءة والخبرة الأكاديمية وليس على العلاقات الشخصية أو الضغوط السياسية. هذه المعايير ستسهم في استقرار القيادة الأكاديمية وتطوير رؤية طويلة الأمد تتماشى مع احتياجات الطلاب والمجتمع الأكاديمي.
2.تشجيع الاستقرار القيادي:
لتحقيق تطور مستدام، يجب أن تمنح القيادات الأكاديمية فترة زمنية كافية لتنفيذ خططها وتطوير المناهج التعليمية. يجب أن يُمنح القادة الأكاديميون الثقة والاستقلالية لتحقيق أهدافهم دون التدخلات الخارجية التي تعيق الابتكار والبحث العلمي.
3.فصل التعليم عن السياسة:
من الضروري وضع قوانين وسياسات تضمن استقلال الجامعات عن التدخلات السياسية والمصالح الشخصية. يجب أن تكون الجامعات مؤسسات تعليمية مستقلة تدير شؤونها الأكاديمية وفقًا لأهداف تعليمية بحتة، بعيدًا عن التدخلات الخارجية التي تهدد جودة التعليم وتؤثر سلبًا على البحث العلمي.
الخلاصة: الجامعات بين الفوضى والإصلاح
الجامعات الحكومية في العالم العربي تواجه أزمة حقيقية تتعلق بعدم استقرار القيادات الأكاديمية والتدخلات الخارجية التي تعيق تقدمها. الفوضى الناتجة عن هذه الأزمات تؤثر بشكل مباشر على جودة التعليم والبحث العلمي، وتمنع الجامعات من تحقيق أهدافها الأكاديمية والبحثية.
الحل يكمن في تعزيز استقلالية الجامعات الحكومية وتمكينها من اتخاذ قراراتها الأكاديمية والإدارية بناءً على معايير موضوعية وشفافة. يجب أن تكون القيادة الأكاديمية مستقرة ومستدامة، وأن تكون الجامعات بعيدة عن التدخلات السياسية التي تعيق تقدمها. فقط من خلال هذه الإجراءات يمكن لمؤسسات التعليم العالي أن تحقق رسالتها الأكاديمية وتساهم في بناء مجتمعات معرفية مستدامة قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.