المساس بالوقف تعدٍ على مقاصد الخير
د. نسيم أبو خضير
جو 24 :
يُعد الوقف من أرقى صور الخير والعمل الصالح ، وهو إرث حضاري وشرعي يعبر عن نبل المجتمع وحرص الأفراد على ترك بصمة نافعة تستمر عبر الأجيال .
فالوقف يعكس رغبة الواقف في تحقيق الخير وتوفير المنفعة الدائمة للناس ، سواء أكان هذا الوقف أرضًا ، أو بناءً ، أو أي نوع آخر من الممتلكات .
ولذا ، فإن الإلتزام بشروط الواقف والإمتناع عن أي تصرف يخالف مقصده أمرٌ جوهري في شريعة الإسلام ، ويشكل قاعدة أساسية في أحكام الوقف .
مفهوم الوقف وأهميته :
الوقف لغةً هو "الحبس" ، وفي الشرع يُقصد به حبس العين عن التصرف الشخصي وتخصيص منفعتها لأغراض خيرية .
ويعتبر الوقف رافدًا إقتصاديًا مهمًا لدعم المجتمع ، وقد خُصص على مر العصور لدعم التعليم ، والرعاية الصحية ، ودور العبادة ، وغيرها من الأغراض التي تعود بالنفع على المجتمع .
وقد حثَّت الشريعة الإسلامية على الوقف لما فيه من بركة وصدقة جارية تبقى للأبد . يقول الرسول ﷺ : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له." (رواه مسلم) .
والوقف من صور الصدقة الجارية التي تستمر آثارها حتى بعد وفاة صاحبها .
الإلتزام بشروط الواقف وأثرها الشرعي :
يشترط في الوقف أن يتم تحديد الغرض الذي يرغب الواقف في تحقيقه من خلال هذا الوقف . ويعتبر شرط الواقف ملزمًا ، ويجب أن يُحترم ولا يجوز تجاوزه أو تغييره أو التصرف فيه بطريقة تخالف مقصده ، إلا في حالات إستثنائية جدًا وبإذن شرعي .
وقد أكد العلماء أنَّ الوقف "يحْرَمُ تغييره" إلا بمبررات دينية أو إذا تعذر الإنتفاع به وفق الشرط الأصلي ، كأن يندثر تمامًا أو يصبح عديم الفائدة ، ويتم ذلك بقرار من جهة قضائية .
وعليه يُعَدّ مخالفة شرط الواقف نوعًا من التقصير والإساءة في الأمانة ، وقد يتسبب ذلك في تعطيل المقاصد الخيرية التي أرادها الواقف .
فمثلاً ، إذا أوقف أحد الأشخاص منزلًا مؤثثًا ليكون دارًا لتحفيظ القرآن الكريم وأشترط عدم بيع الأثاث ، فإنه لا يجوز لأي جهة أو فرد التصرف في أثاث المنزل أو بيعه أو إستبداله ، لأن ذلك يعد خرقًا صريحًا لشروط الواقف وتعديًا على غرضه الشرعي .
إن الإلتزام بشروط الواقف يعد من الأمانة التي يجب صونها ، وقد قال تعالى في محكم كتابه : "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا" (سورة النساء: 58) .
فالوقف مسؤولية دينية تقع على من يقوم على إدارته ، حيث يتوجب عليهم أن يحافظوا على العين الموقوفة ويصرفوا ريعها بما يتماشى مع شروط الواقف .
وقد أكد علماء الفقه على أنه من واجب النظار أو المسؤولين على الوقف ، الإمتثال الدقيق لشروط الواقف ، وأن أي تصرف يُغيّر من طبيعة الوقف أو يخرج عن حدود الغرض المخصص له يُعَدّ باطلًا شرعًا وقانونًا . وعليه ، فإن بيع أثاث منزل موقوف ليكون دارًا للقرآن أو إستبداله دون ضرورة شرعية يعتبر تعديًا على حقوق الوقف ، وتقصيرًا في شرط الواقف الذي هو بمثابة عقد شرعي ملزم .
إن على القائمين على الوقف أن يعوا تمامًا أن الأمانة التي في أيديهم تتطلب الإخلاص والمتابعة ، وأن لا يتخذوا قرارات منفردة دون إستشارة شرعية في حال طرأت ظروف إستثنائية تتطلب التدخل .
وإن الإلتزام بشروط الوقف يحفظ حقوق الأجيال القادمة ، ويعزز من ثقة المجتمع في مفهوم الوقف كأداة قوية للدعم والتطوير المستدام . فحين يتم احترام شروط الواقف، يطمئن المجتمع إلى أن الوقف سيبقى فعالًا في تحقيق المقاصد الخيرية، ويظل مصدرًا للتنمية والإستدامة الإجتماعية والإقتصادية.
إن التقصير في تنفيذ شروط الواقف يؤدي إلى الإضرار بالمجتمع ويؤدي إلى فقدان الثقة في الوقف ، وهو ما يتسبب في ضعف هذا النظام القيمي الهام .