الإنتقال من حل الدولتين بالتقسيم إلى حل الدولتين بالتصفية
جو 24 :
كتب د. لبيب قمحاوي *
العيش في ظلال طوفان الأقصى لما يزيد عن عام وقدرة الفلسطينيين الاستثنائية على الصمود واحتمال الأهوال والدمار الشامل وأعمال القتل والابادة بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية قد أدى بالنتيجة إلى إعادة وضع القضية الفلسطينية في أعلى سلم الإهتمام العالمي ، وأصبحت هذه القضية هي التعبير الأكبر والأهم عن الضمير الانساني وصبغت اهتمام أجيال الشباب حول العالم باللون الفلسطيني . لقد أدى هذا التغيير في الوضع الدولي للقضية الفلسطينية إلى زيادة القناعة الأمريكية والغربية بضرورة إغلاق ملف القضية الفلسطينية بشكل نهائي ، مما دفع إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لطرح موضوع "حل الدولتين" كَطُعْمٍ لإرضاء الفلسطينيين وطاقة فَرَج بالنسبة لإسرائيل وبعض الأنظمة العربية . وقد تم طرح ذلك الإقتراح كعنوان دون الدخول في التفاصيل تجنباً لفضح النوايا الخطيرة من وراء طرح "حل الدولتين" كتسوية نهائية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي .
تقسيم فلسطين بين سكانها الأصليين من العرب والمهاجرين اليهود من أقطار مختلفة كما جاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة لليهود المهاجرين والأخرى لأصحاب البلد الأصليين من المواطنين الفلسطينيين العرب هي أول مبادرة تسعى إلى تقسيم فلسطين التاريخية من خلال تطبيق حل الدولتين كوسيلة لحل قضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ، وقد كان أساس هذا التقسيم العمل على إيجاد حل للمشكلة اليهودية في فلسطين على حساب الفلسطينيين .
تجابه ساحة التحرك السياسي الآن نمطاً متجدداً من الأفكار القديمة لحل قضيـة الصراع الفلسطينـي – الإسرائيلي المتفاقم من خلال الدعوة إلى "حل الدولتين" مجدداً وإن كان الآن بهدف تصفية القضية الفلسطينية بأبخس الأسعار عوضاً عن حلها فعلاً . وحل الدولتين يهدف هذه المرَّة إلى إعادة تقسيم فلسطين التاريخية والتي أصبحت بمجملها تحت الاحتلال الإسرائيلي وبشكل يخلو من العدالة بهدف تصفية القضية الفلسطينية واضفاء الشرعية على الإحتلال الإسرائيلي في كافة مراحِلِهِ وأشكَالِهِ.
وهكذا يصبح مفهوم "حل الدولتين" مفهوماً انتقائياً يتحدد معناه بنوايا الجهة أو الجهات التي تتبناه . فما ابتدأ عام 1947 كحل "للمشكلة اليهودية" من خلال تقسيم فلسطين إلى دولتين ، قد انتهى الآن بحل يحمل نفس العنوان أي "حل الدولتين" ولكن بهدف إلغاء القضية الفلسطينية وتصفيتها .
لن يكون من الصعب أبداً تكرار مؤشرات الظلم والإجحاف التي أصابت الفلسطينيين والأذى والإجرام الذي لحق بهم على أيدي قوات الإحتلال الإسرائيلي طبقاً للسردية الفلسطينية التقليدية، ولكن تكرار ما هو معروف ليس هو المطلوب الآن. على الفلسطينيين القفز فوق آلامهم ومعاناتهم على يد الإحتلال والتركيز على سبر غور المخططات الإسرائيلية الجديدة والمتجددة وأهدافها الحقيقية المعلن منها والمخفي ، في محاولات إسرائيل الجادة والمستمرة لطمس معالم الوجود الفلسطيني بل الوجود الفلسطيني نفسه كون هذا الوجود يشكل النقيض والناقض للوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين ، إذ أن أي إشارة سواء بشرية أو طبيعية أو تاريخية أو وطنية إلى فلسطين تُذَكّر الإسرائيليين بأن فلسطين ليست لهم في نهاية الأمر بل لأصحابها الفلسطينيين . ومن هنا فإن القبول بحل الدولتين لن يكون من جانب إسرائيل أمراً مقبولاً على المدى البعيد ، بل إجراءً مؤقتاً يهدف إلى إلغاء القضية الفلسطينية وطمسها وطمس مكوناتها من الوجود ، لتتحول في النهاية إلى هيكل ميت تماماً كما حَوَّل حي تل أبيب اليهودي مدينة يافا الفلسطينية العريقة إلى ضاحية إبتلعتها تل أبيب لتصبح هي المدينة ويافا هي الهيكل والضاحية.
لماذا رفض العرب "حل الدولتين الأول" وهو قرار التقسيم ، وقبلوا بل ونادوا "بحل الدولتين الثاني" وهو قرار التصفية وأبدوا إستعداداً للصلح والتطبيع الكامل مع العدو الإسرائيلي مقابل القبول به وتنفيذه دون أن يقوم أحد بالإفصاح فعلاً عن ماهية وطبيعة هذا الحل الثاني بالرغم عن ما طرحه العرب من التزام "حل الدولتين الثاني" بحدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ؟
"حل الدولتين الثاني" لا يشكل حلاً للقضية الفلسطينية كونه إجراءً يهدف إلى تنفيس الاحتقان الوطني الفلسطيني الرافض للإحتلال من خلال عناوين قد تكون برَّاقة لكنها دون محتوى حقيقي وتهدف في واقعها إلى الالتفاف على المطالب الوطنية الفلسطينية دون التعامل معها بجدية ودون التقدم بأي حلول لها . "حل الدولتين الثاني " هو حل بائس يهدف إلى التعامل مع الإحتلال كواقع وليس إزالته دون قيد أو شرط .
"حل الدولتين الثاني" المزعوم هو شعار يُطالَبْ الفلسطينيين بموجبِهِ بالتنازل عن كل شئ بما في ذلك إغلاق ملف الصراع مع إسرائيل ، ووقف أي مَطَالِبْ لهم (أي للفلسطينيين) في فلسطين والتنازل التاريخي والواقعي عن حقوق الفلسطينيين في فلسطين مقابل حصولهم على "شبه دولة" أو "عنوان دولة " على قطع مبعثرة من الأرض الفلسطينية .
إن سياسة ادارة الأزمات عوضاً عن حلها ترتبط عادة بحالة متفاقمة من الضَعْف العسكري والاقتصادي لأحد طرفي النزاع مقابل الطرف الآخر . وهذا الأمر يؤدي في العادة إلى ترحيل الأزمات وتراكمها إلى الحد الذي يسمح للأزمة اللاحقة أن تأكل الأزمة التي سبقتها وهكذا وإلى أن يتم انحدار المطالب المرتبطة بتلك الأزمات إلى حدودها الدنيا ، وهذا بالضبط ما حصل ويحصل مع الفلسطينيين والعرب على مدى السنين منذ تأسيس دولة الكيان الصهيوني عام 1948 .
تعترض مساعي أو اقتراحات "حل الدولتين الثاني" والمرتبطة بتصفية القضية الفلسطينية ، واقع المستوطنات التي قَطَّعَتْ أوصال الأرض الفلسطينية طولاً وعرضاً ، بالإضافة إلى ارتباط واقع تلك المستوطنات بعمليات الهجرة القسرية للسكان الفلسطينيين سواء الهجرة الداخلية المرتبطة بإخلاء الأراضي قيد الإستيطان من السكان ، أو تهجير الفلسطينيين بشكل عام . وهذا الواقع فرض ظلالاً كثيفة من الشكّْ على أي إمكانية لتنفيذ "حل الدولتين الثاني " بشكل متوازن ، أو حتى بشكل شبه متوازن ، مما خلق إحساساً واقعياً لدى الفلسطينيين بأن هذا الحل المقترح غير قابل للتنفيذ على أرض الواقع ، وأنه إذا ما نُفّذ فإن ذلك سيكون أمراً شكلياً يأخذ التنازلات من الفلسطينيين والعرب ولا يعطيهم سوى عنوان الدولة التي ستكون بلا محتوى أو سيادة فعلية . وهذا يؤكد استمرار المذهب الإسرائيلي في تعامله مع الفلسطينيين والقاضي بإدارة الأزمات عوضاً عن حلها .
لقد ساهمت سياسة إسرائيل في إدارة الأزمات عوضاً عن حلها ، وما رافق تلك السياسة من حروب وعمليات إبادة جماعية وتدمير شامل للمدن والمخيمات الفلسطينية في تآكل مصداقية الكيان الإسرائيلي وكشف أكاذيبه وتحايله على القانون الدولي ومخالفته للقيم الإنسانية في كيفية تعامله مع الفلسطينيين ، مما أدى إلى تحول ملحوظ في الرأي العام العالمي بشكل أدى في النهاية إلى توجيه الاتهام إلى الكيان الإسرائيلي من قبل محكمة الجنايات الدولية واصدار أوامر بالقاء القبض على رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية نتنياهو ووزير دفاعه جالانت . وهذا الحكم قد نَقـَلَ تصنيف إسرائيل إلى الأبد إلى صفوف الدول التي تمارس الإبادة الجماعية وحروب التجويع والتعطيش والحرمان من خدمات الصحة والتعليم وأزال بالتالي الصفات الكاذبة التي أعطاها الكيان الصهيوني لنفسه كدولة ديموقراطية تحترم القانون الدولي والإنساني . وهذا التحول يعطي مؤشراً واضحاً على ما ينتظر إسرائيل في المستقبل وعلى هشاشة وسوداوية منظومة القيم التي بنى عليها اليهود الإسرائيليون كيانهم الإسرائيلي الغاصب على أرض فلسطين .
وفي النهاية ، من الواجب على الفلسطينيين أن لا يقعوا في فخ قبول تقسيم فلسطين التاريخية تحت أي مسمىً أو كعنوان لأي مرحلة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني . أما إذا ما سَمَحَ الفلسطينيون بتقسيم فلسطين التاريخية تحت مُسَمىَّ "حل الدولتين" فإن فلسطين سوف تبقى مقسمة إلى الأبد ، وسوف يشكل ذلك إعترافاً فلسطينياً بشرعية الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين ، علماً أنه من المتوقع أن الدولة الفلسطينية المزعومة لن تحظى بأكثر من 20% من أرض فلسطين التاريخية والباقي سوف يكون من حصة الدولة الإسرائيلية . الثمن المطلوب دفعه إذاً مقابل هذه المهزلة يتمثل في :-
أولاً : إعطاء الفلسطينيين شبه دولة أو دولة بلا سيادة مقطعة الأوصال وخالية من الموارد الطبيعية .
ثانياً : إغلاق ملف القضية الفلسطينية بشكل نهائي وربما السماح بممارسة حق العودة جزئياً وضمن شروط ولمرة واحدة ولأراضي هذه الدولة المزعومة فقط ، وليس كما ينص القرار الأممي 194 على عودة الفلسطينيين إلى الأماكن التي هُجّروا منها في فلسطين.
ثالثاً : إعطاء العرب الضوء الأخضر للدخول في علاقات سلام وتطبيع كامل مع العدو الإسرائيلي بعد الموافقة على "حل الدولتين الثاني" وقبول السلطة الفلسطينية به .
رابعاً : إلغاء صفة "الأراضي المحتلة" عن الأراضي الفلسطينية المخصصة للدولة الإسرائيلية مما يعني اعتبار أي أعمال مقاومة فلسطينية في المستقبل أو أي مطالبة بتحرير تلك الأراضي اعتداء على الدولة الإسرائيلية وعملاً "إرهابياً" يستوجب العقاب .
وختاماً ، لا مصلحة للفلسطينيين إذاً في أي حل يؤدي إلى تقسيم فلسطين التاريخية أو إغلاق ملف القضية الفلسطينية أو إعطاء العرب العذر المحل للسلام والتطبيع مع العدو الإسرائيلي .
* من محاضرة الكاتب في رابطة الكتاب الأردنيين الاثنين