طوفان الأقصى: فائزون وخاسرون!

جو 24 :
كتب: كمال ميرزا
من أكثر الأمور التي يقف أعتى الكتّاب والمحلّلين عاجزين أمامها مهما حاولوا واجتهدوا.. القدرة على الإحاطة بالأوجه الإعجازيّة للشهادة والبطولة والشجاعة والصمود والتضحية والإباء التي أبداها أهالي غزّة ومقاومتهم الغرّاء منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" المباركة وحتى هذه اللحظة!
نحن اعتدنا أن نقرأ سير الأبطال عبر التاريخ ونشعر بالإعجاب والإنبهار وكأنّنا إزاء بشر غير البشر وكائنات غير الكائنات، ولكن ما قام به أهالي غزّة ومقاومتهم الباسلة على مدار أكثر من (460) يوماً يفوق كلّ ما قرأناه في سير الأوّلين والآخرين، بل ويفوق حتى ما تفتق عنه خيال البشر في الأساطير والروايات والأفلام!
بل أجزم أنّ "الصحابة" أنفسهم كانوا ليقفوا مشدوهين مندهشين من قوة إيمان أهل غزّة وثباتهم وفدائهم برغم القلوب التي بلغت الحناجر دون أن يظنّوا بالله الظنونا!
ومع هذا، وبمجرد أن تمّ الإعلان عن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، وحتى قبل أن يدخل الاتفاق حيّز التنفيذ، انبرى دفق قميء من الأصوات عبر وسائل الإعلام والسوشال ميديا للانتقاص من نصر أهالي غزّة والمقاومة والتشكيك فيه، وحشر وصف "الهزيمة" في الأنوف عنوةً، وتحميل المقاومة نهجاً وفصائلاً مسؤولية كلّ القتل والدمار الذي تعرّض له أهالي القطاع، وتبرئة ماكينة الإجرام الصهيو - أمريكيّة والتخاذل العربيّ والإسلاميّ والأمميّ ومنحهما العذر والذريعة.
اللافت في أصوات هؤلاء "الأشحّة"، والذين كانت أعينهم تدور "كالذي يغشى عليه من الموت" طوال الأشهر الماضيّة، وها هم الآن يسلقون المقاومة بـ "ألسنة حِداد".. اللافت فيهم ما يلي:
أولاً: أنّهم يعملون لحساب وسائل إعلام أو يعيشون في كنف أنظمة (أو سلطات)، لم تكتفِ بخذلان أهالي غزّة والتقاعس عن نُصرتهم كما يقتضي الواجب الدينيّ والقوميّ والإخلاقيّ.. بل هي أنظمة تناصب المقاومة العداء جهاراً نهاراً، وتتماهى مع الصهيونيّ والأمريكيّ حتى النخاع، وتنذر نفسها لخدمتهما، وتطويع الشعوب العربيّة والإسلاميّة للإذعان لهما والتطبيع معهما.
ثانياً: أنّهم التزموا الصمت طوال الفترة الماضية، وإذا تكلّموا تكلّموا رمزاً وعلى استحياء، وجرأتهم في انتقاد الصهيونيّ والأمريكيّ (إذا انتقدوهما أساساً) لا تبلغ معشار جرأتهم واستئسادهم ووقاحتهم في انتقاد المقاومة والهجوم عليها.
ثالثاً: نسبة كبيرة منهم يدّعون أنّهم ينطلقون في نقدهم للمقاومة، وحسابات الربح والخسارة و"التهلكة" التي يجرونها، من منطلقات عقديّة وإيمانيّة ودينيّة.. وهؤلاء أكثر فئة تثير الاستغراب والاشمئزاز في آن واحد!
فالربح والخسارة مسألتان نسبيّتان، وذلك تبعاً لطبيعة الفهم الذي يؤمن به المرء للربح والخسارة، والأسس والمعايير التي يستند إليها في قياسهما.
الغالبية في هذا الزمان، وبحكم طغيان الثقافة الرأسماليّة الاستهلاكيّة التي تشمل العالم كلّه، وتحكم "نمط العيش" الذي يطوي جميع البشر على اختلاف أديانهم وأجناسهم وأعراقهم وثقافتهم.. فإنّهم يقيسون الربح والخسارة تبعاً لـ "النتيجة" بالمعنى الماديّ البحت لكلمة نتيجة، ووفق "معطيات" و"مؤشّرات" و"حقائق" ماديّة بحتة.
هؤلاء يقيسون الربح والخسارة، حتى فيما يتعلق بمسائل مثل "الجهاد" و"المقاومة" و"التحرّر الوطني"، كما تقيس شركة أو بنك أرباحهما، أو كما يقيس "دكنجي" أرباح دكانه!
وهذا المنطق في القياس يرتبط بدوره بتلك النظرة إلى الحياة والعالم التي تشرّبناها جميعاً بوعي أو دون وعي، بحكم الاستعمار والهيمنة والغزو الثقافي والأكاديميا وسطوة وسائل الإعلام، وترتبط بقيم "العلمنة" و"الترشيد" و"التجريب" و"الذرائعيّة"، و"الميكافيلليّة"، و"النتشويّة"، و"الدارونيّة"، و"التغريب" و"التشيّؤ" و"المنفعة" و"اللذّة" و"التقدّم" و"التطوّر" و"النمو" و"الازدهار" و"الفردوس الأرضيّ".. أو ما يُطلَق عليها مجتمعةً قيم "الحداثة" ووعودها.
هذه الطريقة في التفكير ومحاكمة الأمور، والتي تختبئ وراء مسمّيات برّاقة مثل "الموضوعيّة" و"العقلانيّة" و"الواقعيّة"، هي ما يطلق عليها الدكتور "عبد الوهاب المسيري" اسم "الموضوعيّة المُتلقّية"، والتي هي في حقيقتها موضوعيّة منسلخة عن القيمة، وعاجزة عن التجاوز، تنظر إلى العقل نظرة سلبيّة باعتباره مجرد ماكينة صمّاء لرصد المعلومات والمعطيات وتسجيلها ومراكمتها. وهي "وقائعيّة" أكثر منها "واقعيّة" (أي عاجزة عن رؤية الإمكانيّة الكامنة وراء الواقع كما فعلت المقاومة)، تترجم نفسها ليس فقط من خلال "إمبريقيّة سطحيّة"، بل من خلال "برجماتيّة سطحيّة" ترتبط بنظرةٍ إلى الإنسان باعتباره كائناً ماديّاً اقتصاديّاً جسمانيّاً فقط، وموجوداً آخر من موجودات الطبيعة يمكن استثماره، أو "حوسلته" (أي تحويله إلى وسيلة)، أو إفنائه والتخلّص منه متى ما استُهلك أو أصبح عبئاً أو بات غير ذي عائد وجدوى!
ولكن الذين ينطلقون في تفكيرهم من منطلقات إيمانيّة ودينيّة، أو يحسبون أنفسهم كذلك.. فيُفترض أنّهم يستندون إلى منظور مختلف وأسس مختلفة في القياس والحكم!
فمن منظور دينيّ العبرة ليست في النتيجة، نصراً كانت أم هزيمةً، ولكن العبرة في الامتثال إلى أمر الله (وفي حالتنا هذه الامتثال لأمره تعالى في محاربة العدو والمحتل)، واستنفاد الوسع في سبيل ذلك، وإخلاص النيّة من أجله.
والفائز هو مَن امتثل وسعى وبذل وأخلص، والخاسر هو من عصى وتخاذل وأحجم وتنصّل.
وهذا كلّه يرتبط بنظرة إلى الحياة والعالم باعتبارهما دار امتحان وابتلاء، ودار فناء لا بقاء، والفوز والخسارة الحقيقيّان هما فوز وخسارة الآخرة، أمّا فوز وخسارة الدنيا (وما يدفعه المؤمن من أثمان) فهما جزء من الامتحان والاختبار: إن شكر وحمد على الفوز كان خيراً له، وإن صبر واحتسب على الخسارة كان خيراً له.
والرابح الأكبر هو من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، والخاسر الأكبر هو مَن فرّط بآخرته في سبيل دنياه.
وطبعاً هذا كلّه لا يُلغي ضرورة الأخذ بالأسباب، وعدم الإلقاء بالنفس في التهلكة، وعدم نسيان نصيب المرء في الدنيا.. ولكن إذا كان هذا النصيب من الدنيا على حساب ابتغاء الآخرة فإنّ الأولويّة دائماً وأبداً للآخرة.
ووفق هذا المنظور الإيمانيّ الذي يدّعي الغالبية التصديق به، هل هناك فائز أكبر من أهالي غزّة ومقاومتهم وكلّ مَن وقف معهم ونصرهم وساندهم؟
المفارقة هنا أنّه حتى بالمعنى الماديّ الدنيويّ المباشر للربح والخسارة فإنّ أهل غزّة ومقاومتهم قد انتصروا؛ فالعدو قد فشل في تحقيق جميع أهداف الحرب التي أعلنها، أليس كذلك؟! والمقاومة قد نجحت في إحباط مخطط الإبادة والتهجير الذي أتى عبور 7 أكتوبر كضربة استباقية له، أليس كذلك؟! كما أنّ المقاومة قد نجحت في إرغام العدو على الرضوخ، وإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار وتحرير الأسرى من موقع النِدّ للنِدّ، أليس كذلك؟!
وللإنصاف، فإنّ العدو من جهته قد تمكّن من تحقيق بعض المكتسبات هو الآخر، ليس على حساب المقاومة، فالمقاومة استطاعت أن تصمد وتثبت وتتجاوز الضربات العاتية التي تعرّضت لها، وهي اليوم أقوى ممّا كانت عليه في أي يوم من الأيام..
وليس على حساب القضية الفلسطينيّة، فالقضية الفلسطينيّة قد عادت إليها الروح، وتمّ بثّ أنفاس جديدة فيها لجيلين أو ثلاثة أجيال قادمة على الأقل، بعد أن ظنّ الجحيم أنّها اضمحلّت وبهتت وباتت قاب قوس أو أدنى من أن تصبح نسياً منسياً..
وليس على حساب تغيير شكل الشرق الأوسط، فباستثناء ما حدث في سوريا فإنّ الشرق الأوسط والشعوب ما تزال أكثر ممانعةً وصعوبةً مما يظنّ العدو ويتوسّم. وحتى في سوريا، فإنّ التخلّص من نظام مُخترَق ومتهالِك وفاسد مثل النظام السوريّ هي نقطة تصبّ في مصلحة المقاومة أكثر ممّا تصبّ ضدّها، كما أنّ ما حدث في سوريا قد ساهم (وسيساهم) في المزيد من تعرية حقيقة "ثوّار الناتو" و"مجاهدي السلفي ـ دولار" و"فاتحي الباب العالي"..
المكسب الرئيسيّ الذي استطاع العدو تحقيقه هو جرّ أنظمة وجيوش ونخب وجموع عربيّة وإسلاميّة بأكملها إلى بيت الطاعة، وإخضاعها، ووسمها، وإسقاط ورقة التوت عنها، ومنحها الجرأة والوقاحة للإفصاح عن حقيقة مكنوناتها، ومواقفها، وتوجّهاتها، وانصياعها التام للصهيونيّ والأمريكيّ ومشيئتهما!
خلاصة الكلام، أهل غزّة والمقاومة هم الذين خرجوا منتصرين في هذه الجولة من الصراع بالمعنى الإيمانيّ والماديّ لكلمة انتصار، والصهيونيّ والأمريكيّ قد استطاعا الخروج ببعض المكتسبات هما أيضاً.. أمّا الخاسر الأكبر فهي أنظمة ونخب وجموع "الاعتدال" و"السلام" و"التطبيع" العربيّة والإسلاميّة؛ فلا هم ظفروا بأجر وثواب وعزّة وكرامة أهل غزّة والمقاومة و"طوفان الأقصى".. ولا هم تحرّروا ولو قيد أنملة من ذلّ تبعيّتهم للصهيونيّ، وانسحاقهم أمامه، واستلاب مواردهم ومقدّراتهم لصالحه، وارتهان مصيرهم وأبسط احتياجات وتفاصيل عيشهم اليوميّة بالأدوار الوظيفيّة التي يلعبونها من أجله وفي سبيل أمنه ورفاهه وبقائه واستمراره!