سقوط العرب والعروبة
مياه كثيرة آسنه تجري الآن من بين أقدام العرب وهم إما غافلون عنها أو منغمسون في قضاياهم الصغيرة والآمال الأصغر لحكامهم والمحصورة في الاستمرار في الحكم بأي ثمن. ومقابل ذلك فإن أولئك الحكام كانوا دائماً على استعداد لدفع أثمان باهظة وإعطاء تنازلات مجانية على حساب الوطن إلى الحد الذي هانت فيه الامة على نفسها واستبيحت كرامتها ولم يعد العدو أو الصديق يكترث لما تريده أوما لا تريده.
إن فشل العرب في تجاوز أوضاعهم السيئة واستعداد شعوبهم المقهورة للاستسلام لواقعهم بطريقة قََدَرِيَّة قد ساهم في تخفيف كلفة قهرهم واستغلال مواردهم وثرواتهم إلى الحد الذي أفقد القوى الدولية الشعور بالحاجة إلى بذل الجهود إما لإرضائهم أو قهرهم. وفي طبيعة الأمور فإن هذا الوضع قد شجع تلك القوى على الاهتمام بمناطق أخرى في العالم نظراً للقيمة المضافة التي تشكلها تلك الدول في ميزان المصالح الدولية مقارنة بالعالم العربي المقهور والمستسلم والمستنزف والمستباح بشكل كامل و آمن.
تشير التطورات الأخيرة إلى قرب حدوث تغييرات إستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط ، تمس مصالح العرب ومستقبلهم ولكنها لن تكون في صالحهم. ولو استعرضنا الوضع العربي الآن لوجدنا معظم الإجابات دون الحاجة إلى الخوض في التحاليل واستقراء الغيب. إن معظم ما نحن بصدده هو من صنع أيادينا ولا جدوى من محاولة إلقاء اللوم على الآخرين. إن عوامل الذل والاستكانة قد لا تكون أمراً موروثاً ولكنها بالتأكيد نتاج طبيعي لسلوك إنساني تراكمي أساسه الفردية والأنانية التي تجسد غياب روح الانتماء للمجموع والأرض والوطن وبالتالي غياب الاستعداد للتضحية وترك هذه المهمة للآخرين. وقد فهم حكام العرب ذلك وقاموا باستغلاله على الوجه الأكمل وبشكل بشع أخضع المجتمع إلى حد الاستسلام الكامل وذلك من خلال تنمية عوامل الخوف والخضوع والخنوع والأنانية والفردية الكامنة فيه.
ويبدو أن العرب قد تجاهلوا أو تناسوا الحقيقة الأساسية بأن الفرق بين الأمم الصاعدة والأمم الهابطة يكمن في قدرتها على استكشاف مكامن القوة فيها والعمل على تنميتها وتعزيزها بشكل يسمح لها بالنهوض بشكل مستمر. والعرب في العقود الخمسة الأخيرة نجحوا في قتل كل ماهو جميل وناجح فيهم ولجؤا إلى أسلوب الاستكانة و الخنوع و التذلل لاسترضاء الحاكم الظالم عوضاﹰعن رفض كل ذلك منذ البداية وقبل استفحال الأمور الى الحد الذي يجعل الظلم هو الحقيقة والعدل هو الخيال.
الوضع السوري الخطير هو المسمار الأخير في نعش النظام العربي الذي وقع ضحية انانية واجرام حكامه واستسلام وخنوع شعوبه. لماذا هذا المرض المستعصي؟ ولماذا نجح هذا المرض في تخطي العقبات والاستمرار بل والقفز من جيل إلى جيل ؟
إذا استعرضنا واقع العالم العربي الآن ٬ فإن معظم التطورات تشير الى تفاقم حالة التفكك والانهيارالدخلي . فالفلسطينيون، ونتيجة لتكالب السلطة الفلسطينية وتنازلاتها الطوعية المجانية أفقدوا إسرائيل أي رغبة أو اهتمام في مفاوضتهم أو إعطائهم أي تنازلات بعد أن أخذت اسرائيل من السلطة الفلسطينية كل التنازلات الهامة مجاناً ومقابل مكاسب إجرائية تافهة. وقد فاقم الوضع الفلسطيني السيء إنكفاء حركة حماس على نفسها وتحولها من حركة مقاومة للأحتلال إلى حركة حاكمه ذات برنامج سياسي عقائدي يمتد خارج الحدود و يتصدر على الأولويات الفلسطينيه.
والعراقيون استبدلوا حكم وطني دكتاتوري قاسي ومجرم بتبعية بلهاء لأمريكا وإيران مقابل لا شيء حتى الآن سوى الأنصياع لولاية الفقيه و على حساب وحدة العراق وشعبه.
والليبيون تخلصوا من نظام دكتاتوري فاسد ومجنون وانتقلوا إلى حقبة من الاقتتال الداخلي ومحاولة الاستئثار بالثروة النفطية من خلال تقسيم البلد واعاده عقارب الساعه الى الوراء.
ومصر التي حاربت الفساد والاستبداد والخضوع لإرادة القوى الخارجية في عهد مبارك لتدخل في حقبة انتقالية من الديمقراطية غير الناجزة أدت إلى وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة ومن ثم إسقاطهم قبل أن ينجحوا في اسقاط مصر وأخونتها؟ وكان من نتيجة ذلك استقطاباً رهيباً في مصر. وعوضاً عن أن ينصب جهد إخوان مصر على الاتعاظ من التجربة وإصلاح المسار ، يجري العمل حثيثاً على محاولة استعادة السلطة حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير مصر.
أما السودان ، فإن نظام الحكم الدكتاتوري هناك وبعد أن دمر اقتصاد البلد وبدد مواردها قام بحل مشكلة جنوب السودان من خلال التنازل عنه وفصله عن الوطن الأم عوضاً عن تلبية مطالب سكان الجنوب من خلال منظومة ديمقراطية تشكل ضماناً للجميع. ولكن ذلك كان سوف يعني نهاية نظام عمر البشير الدكتاتوري ، وكان الثمن الأسهل للنظام تدمير البلد وتقسيمها وبقاء النظام!
واليمن الذي شارف على حرب أهلية كان الدكتاتور علي عبدالله صالح مستعداً للقبول بها مقابل البقاء في السلطة. ولولا مصالح السعودية ودول الخليج والضغوط والإغراءات التي مارسوها مقابل صفقة أبقت النظام دون حكم عائلة علي عبدالله صالح، لولا هذا لكان اليمن الآن يمنان. ومع ذلك، فإن مساعي الرئيس المخلوع ما زالت مستمرة في محاولة للعودة إلى الحكم ولو أدى ذلك إلى حرب أهليه.
ولبنان المشتت بين إقطاعيات طائفية سياسية كل منها يتبع لجهة خارج لبنان، ما زال قائماً كعنوان لدولة واحدة بالإسم ودويلات متعددة بالفعل.
وتونس ما زالت تركض في مسعى تائه بين الديمقراطية ومكاسب الدوله المدنية التي بَنَتْ تونس الحديثة من جهة ٬ والإسلام السياسي الذي يسعى إلى إعادتها بضعة قرون إلى الخلف من جهه أخرى.
نحن الآن إذاً أمام واقع عربي انتقالي يبدو أنه يسعى إمَّا إلى إعادة استنساخ ما سبقه من أنظمة وأمراض، أو انتقاء الخيارات الأسوأ للخروج من وضع سيء. منطق عجيب لمعالجة الأمور يعكس حالة من الهزال السياسي وتراكم الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى الحد الذي لم يعد فيه الجسم العربي قادراً على الشفاء وفي نفس الوقت غير قادر على الاستمرار.
ما نحن فيه ليس موتاً بطيئاً وليس انتحاراً لأن الانتحار يحمل مضمون الخيار حتى ولوكان ذلك الخيار هو الموت. مانحن فيه هو حالة ذهنية حضارية ثقافية تعتبر التضحية سلوكاً أهوج وكل عائلة تحاول أن تحمي أبناءها منه من خلال ترك خيار التضحية للآخرين. والعرب لم يتعلموا دروساً من الماضي القريب. فعندما ضحى آلاف الفلسطينيين في سنين المقاومة للاحتلال هزوا ضمير العالم وزلزلوا أركان إسرائيل. وعندما توقفوا عن التضحية تمت هزيمتهم . ومنطق الرفض والمقاومة والتضحية هو الذي حرر قناة السويس عام 1956 وهزم دول العدوان الثلاثي. وفي حرب 1973 هزم المصريون التفوق العسكري الإسرائيلي بالرغم من السموم السياسية التي رافقت وأعقبت تلك الحرب.
ماذا لو قدم العرب مائة ألف شهيد في حرب مع إسرائيل عوضاً عن ذبحهم في وطنهم سوريا؟ لماذا نحن أقوياء وجبارين على بعضنا البعض حتى الثمالة ٬ وضعفاء وغير راغبين في التضحية أمام العدو؟ هل هو تراث وذهنية وسلوك الأعراب أم غياب الحس الوطني العام لصالح الأنانية والانتماء الضيق المتزمت؟
إن إحياء منطق التضحية بأشكالها المختلفة هو الجواب على حالة الموت السريري التي يعيشها العرب. لا يوجد انتصار بدون تضحية وأكبر هزيمة يمكن أن تمنى بها أي أمة على وجه الأرض هي هزيمة الذات.