"معركة من أجل الحقيقة".. تقرير يكشف التحيّز لـ"إسرائيل" داخل غرف الأخبار البريطانية

وقال إنّه "حتى عندما كانت تغطية غزة تتم من خلال منظور جلب المشاهدات، وليس الوضوح الأخلاقي، غالباً ما تم اختيار القصص التي تحتوي على صور درامية، مثل الانفجارات أو الجنود الإسرائيليين على الأرض، وتفضيلها على القصص الإنسانية".
وأضاف أنّه"غالباً ما يتم الرد على اللقطات المأسَوية بتعليقات، مثل: هذه لقطات جيدة حقاً، أو ملاحظات بشأن مقدار المشاهدات التي ستجلبها، كما لو أنّها ليست حياة حقيقية متأثرة. إنّ العمل في بيئة، حيث يبدو الزملاء غير مبالين - أو حتى غير متحمسين - بشأن هذه المآسي، أمر صعب للغاية".
انحياز هيئة الإذاعة البريطانية ("بي بي سي")
في هيئة الإذاعة البريطانية، قال صحافيان سابقان لموقع "ديكلاسيفايد" إنّ دليل العمل من "سكاي نيوز" و"آي تي أن" بدا مألوفاً للغاية. ومضى أحدهما في وصف كيف أصبح التحيز واضحاً بعد السابع من أكتوبر 2023، بحيث قامت هيئة الإذاعة البريطانية بـ"نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين عبر التلفزيون والإذاعة والإنترنت".
وقال الصحافيان إنّه كان هناك وجود تسلسل هرمي لا لبس فيه للحياة البشرية في التغطية، بحيث "تم التركيز المتعمّد على الإسرائيليين الذين فقدوا حياتهم وتم أسرهم، من خلال ذكر أسمائهم ونشر قصص عنهم كانت متعاطفة للغاية وإنسانية، في حين لم يكن هناك مثل هذه المواد الصحافية للفلسطينيين".
كانت محاولة تضخيم القصص التي تركز على الفلسطينيين صعبة، لأنه "على الرغم من عدم التناسب في الصراع، فإن محرري البرامج كانوا يصرّون على موازنة الأصوات الفلسطينية مع الأصوات الإسرائيلية". وعندما عرضتُ قطعة عن فلسطيني كانت عائلته محاصرة في غزة، قيل لي على الفور إنّه يتعين علينا أيضاً العثور على قصة إسرائيلية مماثلة، و"كان ذلك بمثابة اعتراف بأنّ التركيز على معاناة الفلسطينيين لا يستحق قصة خاصة به".
وتذكّر ذلك الصحافي كيف أدّت القواعد غير المكتوبة الصادرة عن كبار الموظفين إلى نشوء ثقافة الرقابة. وقال إنّ "استخدام كلمة الإبادة الجماعية محظور فعلياً، وأيّ شخص يستخدم هذه الكلمة يتم إسكاته على الفور". ويأتي ذلك على الرغم من أنّ خبراء حقوق الإنسان، في منظمة العفو الدولية والأمم المتحدة خلصوا إلى أنّ "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية في غزة.
وحرص الصحافي على التأكيد أنّ هذا النهج ليس فردياً، بل كان على مستوى المؤسسة ككل، وكان عميقاً. كما أكّد أنّ هذه الثقافة لم تنشأ بعد الـ 7 من أكتوبر 2023، بل كانت سائدة دائماً.
ردود فعل عنيفة داخل "بي بي سي"
استقال الصحافي، الذي قدم هذه الشهادة، من هيئة الإذاعة البريطانية في نهاية عام 2023، مشيراً إلى أنّ "مبادئها وقيمها لا تتوافق مع المنظمة أو الأشخاص الذين يعملون هناك".
في نوفمبر 2023، كتب ثمانية صحافيين مقيمين بالمملكة المتحدة في هيئة الإذاعة البريطانية رسالة مفصلة، اتهموا فيها المذيع بـ"الفشل في سرد قصة إسرائيل وفلسطين بدقة". وقالوا إنّه من خلال الإغفال والافتقار إلى المشاركة النقدية في مزاعم "إسرائيل"، "فشلت هيئة الإذاعة البريطانية في مساعدة الجمهور على التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان التي تتكشف في غزة".
ووصف محرر تلك الرسالة، والذي استقال أيضاً من هيئة الإذاعة البريطانية، لـموقع "ديكلاسيفايد"،كيف شعر بعد أكثر من عام "بالذهول لرؤية عدد القضايا التي تم تجاهلها. وذكر أنّ "هيئة الإذاعة البريطانية عملت على تضخيم وجهة نظر إسرائيل وإضفاء الشرعية عليها بشكل غير نقدي، حتى في الوقت الذي يواصل الجيش الإسرائيلي مهاجمة المدارس والمستشفيات في قطاع غزّة".
وشعروا بأنّ هيئة الإذاعة البريطانية، كونها هيئة بثّ عامة، "تتحمل مسؤولية جسيمة، وأنّ نزع الصفة الإنسانية عن حياة الفلسطينيين، عبر طرائق متعددة، مثل عدم وجود ردود فعل سلبية في المقابلات مع المسؤولين الإسرائيليين، أو صياغة مقالات كاملة بشأن حق الرد الإسرائيلي، كانت له عواقب وخيمة". وكشف بحث أجراه موقع "ديكلاسيفيد" مؤخراً مدى فشل هيئة البث في إبلاغ الجمهور بالدعم العسكري البريطاني لـ "إسرائيل".
إنّ شهادات هذين الصحافيين تضاف إلى عدد متزايد من المطلعين على تغطية "بي بي سي"، والذين يشعرون باستياء متزايد إزاء الطريقة التي تغطي بها المؤسسة الإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة.
وعندما تركت المذيعة البارزة مشعل حسين المؤسسة في ديسمبر، أكد زملاؤها أنها كانت لديها تحفظات واسعة النطاق بشأن الطريقة التي تغطي بها "بي بي سي" الحرب على غزة وكيف تركّز على "إسرائيل". وأشار آخرون إلى أنّ رفضها منح الضيوف الإسرائيليين مقابلة سهلة، أي من دون مناقشتهم، كان يثير غضب الإدارة العليا، وبالتالي وضعها تحت التدقيق.
"ذا تايمز تكتم أفواهنا"
يمكن العثور على أنماط مماثلة من التحيز النظامي في الصحافة البريطانية، سواء في العناوين الليبرالية أو المحافظة. يتذكر صحافي في صحيفة "ذا تايمز" اليمينية اللغة التي كانت تُستخدم دائماً لتشكيل الفهم، وأشار إلى أنّه في جميع تقاريره، تم تغيير عبارات، مثل "منذ أكتوبر 2023" وتحريرها إلى "منذ هجمات حماس".
وقال: "طلبتُ أن أُرسل إلى الشرق الأوسط للقيام ببعض القصص التي تركز على الفلسطينيين، بعد أن كان لدي بعض الخبرة السابقة في القيام بذلك. لكن تم رفضي، بحجة "قيود الميزانية". اكتشفت لاحقاً أنّ مراسلاً كان يغطي أوكرانيا عادةً أُرسل بدلاً من ذلك، على الرغم من قلة خبرته في المنطقة.
إنّ الثقافة السائدة في "ذا تايمز" هي من النوع الذي جعل أحد محرري الصحيفة يقول في إحدى المرات: "أنا لا أفهم لماذا لا يستقلون (الفلسطينيون) الحافلات والسيارات ويصلون إلى بر الأمان"، في تعليقه على الحصار العسكري الإسرائيلي والإبادة التي يتعرض لها شمالي غزة. "كان لديه جهل ولامبالاة متأصلان، لم يكن هناك أي وعي، ولا أي محاولات لفهم حجم الهجوم الإسرائيلي، أو نقله إلى القراء".
وأضاف الصحافيون في صحيفة "ذا تايمز" أنّ العمل في مثل هذه البيئة كان له تأثير عاطفي عميق لديهم. وقال أحدهم: "لقد بكيت حرفياً في الحمام عدة مرات بسبب المعركة الشاقة المتمثلة بمحاولة نشر أخبار الفلسطينيين والحرب وتغطيتها، لكن واجهت سلسلة من العقبات. شعرت كأنني أفقد صوابي".
واكتشف الصحافيون أنهم لم يكونوا الوحيدين في مؤسسة روبرت مردوخ الإخبارية البريطانية، الذين شعروا بالإحباط من طبيعة التغطية الإعلامية لأحداث غزة، بحيث ذكر صحافي من "ذا تايمز" أنّ "هناك زملاء آخرين له، سواء في صحيفة ذا تايمز أو محطة Talk TV وTimes Radio، يشعرون بالاستياء نفسه بسبب تكميم الأفواه باستمرار".
تضخيم الدعاية الإسرائيلية في "الغارديان"
لا يبدو أنّ ثقافة الرقابة وتخفيف التغطية تقتصر على الصحف اليمينية. وكشف صحافي في صحيفة "الغارديان"، ذات الميول اليسارية، تحدث إلى "Declassified"، من دون الكشف عن هويته، عن التحديات عندما يتعلق الأمر بتغطية هجوم "إسرائيل" على غزة.
وكشف أنّه "تم إنشاء جدول بيانات شامل من جانب موظفين لتوثيق التقارير الفاضحة من صحيفة الغارديان، وتم إنشاء شبكة داخلية من الموظفين في أكتوبر 2023 لتنسيق المعارضة".
هناك جبل من الأمثلة المسجلة، سواء كان ذلك تضخيم الدعاية الإسرائيلية في التقارير أو التعامل مع التصريحات الكاذبة الواضحة من قبل المتحدثين الإسرائيليين على أنها موثوق بها.
وأشار صحافي من "الغارديان" إلى أنّ إحدى نقاط الخلاف الرئيسة، والتي ظلت تظهر في النسخة المطبوعة من الصحيفة، هي استخدام الصحيفة عبارة "وزارة الصحة التي تديرها حماس" عند ذكر عدد الضحايا في غزة. وأضاف: "لا يوجد سبب يجعل صحيفة الغارديان تستخدم مصطلحات لغوية تقلل من أهمية عدد القتلى، وخصوصاً عندما توجد مصادر موثوق بها تشير إلى أنّ عدد القتلى أعلى من المذكور فعلياً".
أيضاً، قامت "الغارديان" بحذف معلومات تزيد في فهم القرّاء للواقع من التقارير التي تحدثت عن الإبادة الجماعية في غزّة. وأيضاً حذف السياق القانوني في بعض التقارير التي تساعد القرّاء على فهم انتهاك "إسرائيل" للقانون الدولي. وذكر الصحافي أنّ هذا مثال على "الخداع عن طريق الحذف". وقاال إنّ الدور الأوسع الذي تؤديه "الغارديان" داخل وسائل الإعلام البريطانية هو أيضاً مصدر قلق للموظفين داخل غرفة الأخبار.
"هل تستطيع صحيفة "الغارديان" أن تقول بشكل قاطع إنها وقفت في وجه الإبادة الجماعية، وفعلت كل ما في وسعها لتغطية الأحداث بدقة؟ بالتأكيد لا. وإذا كانت صحيفة "هآرتس"، وهي صحيفة تُفرض عليها الرقابة العسكرية، قادرة على استخدام عبارات مثل التطهير العرقي في افتتاحياتها علناً، فما الذي يمنع صحيفة الغارديان؟".