jo24_banner
jo24_banner

علماء فيريديا الذين يزينون الباطل وينكرون الحق

علماء فيريديا الذين يزينون الباطل وينكرون الحق
جو 24 :

كتب أ. د. عبدالرزاق بني هاني  _  رأيت نفسي، قبل عدة ليالٍ وأنا غارق في سُباتِ نومٍ عميق، أنني عُدت إلى مدينتي المفضلة في الخيال، وهي مدينة فيرديا. هذه المدينة، التي كما رأيتها في المنام، لا ترتفع من الأرض أو عنها بقدر ما تتفضل عليها بتعالٍ. كانت أبراجها إبراً رفيعة، برّاقة، من الكروم والزجاج المصقول، تلتقط أشعة الشمس بطريقة تبدو وكأنها تزدري مفهوم الظل ذاته. في الأسفل، الشوارع ليست معبدة بل مبلطة بالمرمر النقي، تُغسل كل فجرٍ بواسطة أجهزة تنقية آلية صامتة. لا يوجد أثر للتراب في فيريديا، ولا قذارة، ولا أي شكل من أشكال الاضمحلال المرئي. إنها مدينة صُممت للكمال، ونصب تذكاري للمنطق الهادئ الذي لا يُقهر لمؤسسيها الرعاة. والمذهل الذي لاحظته في منامي العميق بأن أفكار مثقفي فيريديا لا تختلف عن ذلك كثيراً. فهم لا يقطنون المكتبات المليئة بالغبار، بل يُقيمون في برجِ الإجماع، وهو صرحٌ لامع لا تُناقش فيه الأفكار، بل يتم الإشراف عليها وتنسيقها. هنا، يُنتجُ المفكرون المعينون في المدينة - من علماء اجتماع وفلاسفة واقتصاديين وفنانين - كامل الإنتاج الفكري للمدينة. أعمالهم أنيقة، ومصقولة بدقة، وعقيمة كشوارع المدينة في الأسفل. وهي، بأي مقياس حقيقي، مجرد قمامة.

الدكتور زفتسون، الذي كان يوماً عالم أخلاقٍ واعد، هو الآن المشرف الأول على الانسجام الاجتماعي في فيريديا. يقضي صباحاته في بهو تغمره أشعة الشمس، يؤلف أطروحات تمثل روائع في الاستدلال الدائري (Circular Reasoning). وكانت أحدث أعماله، كما ذكرها لي الجني الذي رافقني في منامي العميق، تحت عنوان: تكافل (أو تعايش) الطموح والنظام (The Symbiosis of Ambition and Order)، وقد نطقها بالإنجليزية، وكانت قصيدة كُـتِبَت على (300) صفحة، تمجد الفضيلة المتأصلة في بنية السلطة في المدينة. وقد قرأها الجني المرافق ببراعة لغوية مذهلة، وكانت بعض الأبيات التي أذكرها من المنام بأن الثروة الهائلة لعائلات الرعاة ليست نتيجة لسلطتهم، بل هي مصدر شرعية فيريديا. والفقراء فيها ليسوا مضطهدين، بل هم متحررون من تعقيدات الوصاية. وعدم المساواة ليست مشكلة يجب حلها، بل هي محرك الزخم الطموح.

رأيت بأن أعمال الدكتور زفستون تُنشر على أوراق رقيقة، وعناوينها منقوشة بأحرف من ذهب. وشاهدت كيف تصل نسخ أعماله بواسطة طائرات بدون طيار صامتة، إلى كل محطة عامة ومنفذ سكني. لكن لا أحد يقرأها حقاً. فالهدف ليس أن تُقرأ، بل أن تُرى. إنها عنصر معماري، أو مُجرد قطعة ديكور أخرى تضمن أن يظل سطح المدينة الهادئ سليماً. فقد أبلغني الجني بأن الأفكار هنا هي كالأثاث. وهو ما يعرفه زفستون.

في الساعات الهادئة التي تسبق الفجر، عندما يبدو همس المدينة الناعم تهديداً أكثر من كونه راحة، يتذكر أيامه في الجامعة. يتذكر حُمى النقاش الحقيقي، وإثارة انهيار فرضية تحت وطأة التدقيق، والجمال الخام الفوضوي لفكرة جديدة تكافح من أجل أن تولد. مرشدته، امرأة تدعى عزيزة، قالت له ذات مرة: الفكرة التي تريح الجميع هي كذبة كبرى. لكن هذا الرأي دمر مستقبلها المهني. وقد تمت أرشفة سجلات عزيزة منذ فترة طويلة، واعتُبر عملها غير متناغم من الناحية المفاهيمية.

رأيت في مسلسل المنام، بأن مُشرفة جديدة مُبتدئة اسمها نور اقتربت من زفتستون، وهي شابة ذات عينين حادتين وذكيتين. كانت تعمل على ورقة بحثية حول تخصيص الموارد، ومن خلال المنطق الرياضي البحت، توصلت إلى استنتاج يوضح عدم كفاءة كارثية في شبكة التوزيع في المدينة - عدم كفاءة تتوافق بشكل مباشر مع مشاريع البنية التحتية الباذخة للرعاة، وأن معدل البطالة في المدينة غير متوافق مع الهراء الذي يروج له زفتسون. كانت نور متحمسة، وصوتها همس منخفض ومُلح. قالت وهي تعرض عليه بياناتها: الرياضيات لا تقبل الجدل.

شعر زفتسون برعب باردٍ يلتف حول قلبه. نظر إلى الأرقام النقية، والبرهان الأنيق. كان صحيحاً، وكان عبقرياً، لكنه كان سماً زعافاً. ابتسم، بتعبير لطيف ومصطنع استغرق سنوات لإتقانه. قال بصوت ناعم كملمس الرخام المصقول: هذه نتيجة إحصائية شاذة ومثيرة للاهتمام يا نور. منهجيتك سليمة، لكنك نسيتِ أن تأخذي في الاعتبار معامل الثقة المدنية (Civic Trust Coefficient).

لم يكن هناك شيء اسمه معامل الثقة المدنية. كانت عبارة لا معنى لها، اخترعها زفتسون في تلك اللحظة. لكنها بدت معقولة. بدت كشيء ينتمي إلى إحدى أطروحاته. انطفأت ملامح نور، وخبت شرارة اكتشافها القصيرة. تمتمت وهي تشعر بالخزي: بالطبع. المعامل. كيف لي أن أنسى؟. هرعت بعيداً لتصحيح خطئها، لتجعل الرياضيات تكذب. راقبها زفتسون وهي تبتعد، بينما كانت النسخ المذهبة من أحدث كتبه مكدسة على مكتبه، تبدو في نظره كومة من القمامة المغلفة بشكل جميل.

دعاية فيريديا ليست من النوع الفج والصاخب الذي كان سائداً في الأنظمة القديمة. إنها نوع أكثر خبثاً، ضباب مُخدّر يتخلل كل شيء. فن المدينة هو خير مثال على ذلك. اللوحات الضخمة في ما يُسمى بهو الوطنيين لا تصور نضالات بطولية، بل تصور مناظر طبيعية هادئة لمقرات الشركات عند غروب الشمس. النشيد الرسمي للمدينة ليس له لازمة حماسية، بل مجرد سلسلة من النغمات الممتعة التي تم تصميمها خوارزمياً لخفض معدل ضربات القلب. الغرض ليس إثارة الشغف بالمدينة، بل إطفاء القدرة على الشغف تماماً.

النظام يغذي نفسه بنفسه. المثقفون مثل زفتسون ليسوا مقيدين إلى مكاتبهم. إنهم يكافؤون بأنماط حياة تتجاوز حدود الراحة. شققهم تقع في أعالي الأبراج، مع إطلالات بانورامية على جمال المدينة العقيم. يتناولون طعاماً مُصنّعاً بإتقان، وتدير صحتهم روبوتات نانوية، وتلبى كل رغباتهم. هم ليسوا سجناء؛ بل حيوانات أليفة مدللة. ثمن هذا القفص الذهبي بسيط: يجب ألا يُنتجوا، أبداً، فكرة مفيدة. الفكرة المفيدة، بطبيعتها، تُحدد مشكلة. وفي فيريديا، المشكلة الوحيدة المعترف بها هي الإشارة إلى احتمال وجود مشكلة.

في تلك الليلة، يسير زفتسون على الممشى العلوي، وهو ممر معلق يلتف بين الأبراج. في الأسفل، تومض إعلانات ثلاثية الأبعاد في الهواء، وتعرض صوراً لمواطنين مبتسمين يستمتعون بسلع استهلاكية فاخرة جديدة. الشعارات تكشف الكثير: فيريديا: لأنكِ تستحقها. البساطة هي الرفاهية المطلقة. لا تفكر. فقط عش وتمتع كما يتمتع الحيوان بلا عقل، ولا ضمير.

يمر زفتسون بفتحة للتخلص من النفايات، كان هناك مواطن أمامه، يحمل لوح بيانات يعرض أحد مقالات زفتسون، ينتهي من تصفحه، ويهز رأسه بتقدير غامض لجمالياته، ثم يلقي باللوح عرضاً في فتحة النفايات. يختفي اللوح بصوت صفير خافت، متجهاً إلى إعادة التدوير. هذه الحركة ليست دلالة على عدم احترام، بل على مجرد اكتمال المهمة. لقد أدت الفكرة وظيفتها - أن تشغل حيزاً، وأن يُعترف بها لفترة وجيزة، ثم يتم التخلص منها. المنتج الفكري، بكل معنى الكلمة، هو قمامة.

يتوقف زفتسون، ويستند على الجدار الشفاف، وينظر إلى الأسفل. يرى المدينة ليس كانتصارٍ للتصميم، بل كمكبٍّ فخم لعقل الإنسان. كل مبنى جميل، كل شارع نظيف، كل وجه هادئ هو طبقة من النفايات المضغوطة، تدفن القوة الفوضوية والحيوية والخطيرة للبحث الحقيقي عن المعرفة. الأفكار التي تنتج في البرج هي الطبقة العليا: جديدة، لامعة، ومصنوعة بخبرة لإخفاء العفن تحتها.

يفكر في نور ومعامل الثقة المدنية. لم ينقذ نفسه فحسب، بل حكم عليها. لقد أخذ عقلها العبقري الحاد وعلمها كيف تجعله ثلماً، كيف تجعله آمناً وعديم الفائدة. لقد أدخلها في المؤامرة الكبرى والصامتة لأصحاب الراحة. لقد علمها كيف تنتج قمامة جميلة.

تهب نسمة باردة، تفوح منها رائحة الأوزون من أجهزة تنقية الغلاف الجوي، عبر الممشى. يغمض زفتستون عينيه. إنه أعظم مثقفي فيريديا، عملاق الفكر المعتمد. اسمه محفور على جدار المشرفين في البرج. وفي صمت روحه الخانق، يعلم، بيقين أعمق من أي من أعماله المنشورة، أن أفكاره لا تساوي الغبار الذي تكافح المدينة بجد لإزالته. إنها الأغلال الذهبية التي تقيد مدينةً نسيت أنها كانت حرة يوماً ما.

فجأة أخذ الجني بيدي وأسرع راكضاً خلف جدار، ثم إلى قبو مظلم، ومُخيف، وقال لي أيها الأبله، هكذا هم علماء فيريديا، هم مدربون على أن يُجهضوا كل فكرة جميلة، وقبل أن أغادر وتصحو أيها الأبله من منامك العميق دعني أصارحك القول من هم علماء الاقتصاد والاجتماع في هذه المدينة التي تخفي وراء جمالها الظاهر كل أشكال التفاهة.

دعنيأقدم لك استكشافاً معمقاً لخمسة نماذج أصيلة (Archetypes) من الاقتصاديين، قبل ذلك أخبرك بأنني قرأت عنها في معجم لسان العرب الاقتصادي الذي تطلب منك قراءة (100) ألف صفحة من علم الاقتصاد وتاريخ الفكر الاقتصادي، على مدى ربع قرن أو ما يزيد قليلاً، من عمر دُنياك التافهة. وهذه النماذج هي أربعة، لكنني أضفت لك نموذجاً خامساً: 1) الاقتصادي الفيلسوف، و2) الاقتصادي الأكاديمي، و3) الاقتصادي السطحي، و4) الاقتصادي الدخيل، وأخيراً 5) الاقتصادي السام. ومن خلال فهم سمات كل نمط وتأثيره المحتمل، تستطيع المديتة أن تبحر بحكمة أكبر في خضم التحديات المُعقدة، نحو تحقيق رخاء مستدام.

أولاً: الاقتصادي الفيلسوف: مهندس الهوية الاقتصادية الوطنية

هذا النمط هو الأكثر ندرة، وربما الأكثر تأثيراً على المدى الطويل. يتجاوز الاقتصادي الفيلسوف الحدود الضيقة للنماذج الرياضية وتحليلات التوازن ليطرح أسئلة جوهرية حول ماهية الثروة، وغايات النشاط الاقتصادي، والأسس المؤسسية التي يقوم عليها مجتمع مزدهر. وبالتالي يتميز الاقتصادي الفيلسوف بالمواصفات الآتية:

1) السمات الجوهرية: يتميز بمنظوره الشمولي، العميق، والمُشبَع بالوعي التاريخي. هو مؤرخ وعالم اجتماع وعالم سياسة في آن واحد. لا ينحصر همه الأكبر في تعظيم الناتج المحلي الإجمالي، بل في بناء نظام اقتصادي مرن، وعادل، وديناميكي ينسجم مع ثقافة وطنه وتطلعاتها المستقبلية. وهو يدرك أن الاقتصاد ليس آلة يمكن ضبطها، بل هو نظام تكيفي معقد متجذر في نسيج المجتمع.

2) المنهجية والمقاربة: أدواته واسعة وغالباً ما تكون كيفية. قد يفهم الأساليب الكمية، لكنه يمنح الأولوية للتحليل المؤسسي، والسوابق التاريخية، والاستدلال المنطقي. يقرأ كتاب آدم سميث عن نظرية الفلسفة الأخلاقية قبل ثروة الأمم، وهو مدرك لحقيقة أن الأسواق ترتكز على أساس من الثقة والأخلاق. ويدرس أعمال دوغلاس نورث حول المؤسسات، وفريدريش هايك حول النظام العفوي، وابن خلدون حول قيام وسقوط الدول.

3) مساهمته في دولة غنية بالموارد: أمام دولة تملك موارد وفيرة، سينشغل الاقتصادي الفيلسوف بحل مفارقة الوفرة أو ما يُعرف بـ لعنة الموارد. لن تكون أسئلته بأي سرعة يمكننا استخراج نفطنا؟، بل ستكون:

التصميم المؤسسي: ما هو الهيكل لقوانين الشفافية والضوابط السياسية التي نحتاجها لضمان عدم تبديد ثروتنا الطبيعية أو استيلاء نخبة فاسدة عليها؟

تنمية رأس المال البشري: كيف نستفيد من هذه الثروة لبناء نظام تعليمي عالمي الطراز، يُعزز الابتكار والمهارات في قطاعات غير مرتبطة بالموارد، وهو ما يضمن التنوع الاقتصادي على المدى الطويل؟

العقد الاجتماعي: ما هو دور الدولة في إعادة توزيع هذه الثروة؟ هل يكون عبر دخل أساسي شامل، أم استثمار في البنية التحتية، أم دعم موجه؟ وكيف تؤثر هذه الخيارات على أخلاقيات العمل وروح المبادرة لدى شعبنا؟

ما هو التأثير المحتمل: يمكن لتأثير الاقتصادي الفيلسوف أن يضع الأمة على مسار من الرخاء المستدام الذي يمتد لأجيال. لكن نقطة ضعفه تكمن في أن حلوله بطيئة، وصعبة التنفيذ، وتفتقر للنتائج الفورية التي ترضي السياسيين، لكن الحلول قابلة للتنفيذ إذا توافرت إرادة سياسية حقيقية. وقد يتم تجاهله بوصفه أكاديمياً حالماً أو بعيداً عن ضغوط الواقع قصيرة الأمد.

ثانياً: الاقتصادي الأكاديمي: الممارس الفني المتخصص

هذا هو النمط الأكثر شيوعاً بين الاقتصاديين المدربين رسمياً، وغالباً ما يحمل درجة الماجستير أو الدكتوراه. إنه الفني المتخصص والضروري في عالم الاقتصاد، حيث يعمل في البنوك المركزية، ووزارات المالية، والجامعات، ومراكز الأبحاث. ويتميز الاقتصادي الأكاديمي بالمواصفات الآتية:

1) السمات الجوهرية: يتميز الاقتصادي الأكاديمي بامتثاله للنماذج والنظريات السائدة التي تُدرّس في برامج الدراسات العليا. عالمَهُ مبنيٌ على فرضية ثبات العوامل الأخرى المؤثرة في الاقتصاد أو ما نسميه باللغة اللاتينية (ceterisparibus والتوقعات العقلانية (الرشيدة)، وتعظيم المنفعة. هو خبير في الاقتصاد القياسي، ونماذج التوازن العام، وتحليل التكلفة والعائد.

2) المنهجية والمقاربة: مقاربته كمية بصرامة. أي أن هذا النوع من الاقتصاديين مُقيد، وفي الوقت ذاته مُمكَّن، بالنظريات الموجودة في كتبه المدرسية. وعند مواجهة مشكلة ما، يبحث عن البيانات، ويبني نموذجاً، ويقدر المعلمات، ويختبر الفرضيات. ولغته مليئة بمصطلحات كالإشكالية الداخلية (endogeneity)،والدلالة الإحصائية، ودوال الاستجابة. ويستخدمها بغزارة كي يُقنع المُستمعين له بفهمه!

3) مساهمته في دولة غنية بالموارد: يقوم الاقتصادي الأكاديمي بمهام حيوية:

كنمذجة تأثير تقلبات أسعار السلع على التضخم وسعر الصرف باستخدام نماذج الانحدار،

تحليل آثار ازدهار قطاع الموارد على سوق العمل، ربما باستخدام نموذج انحدار لمعرفة كيفية تأثر الأجور في القطاعات الأخرى.

4) التأثير المحتمل: يوفر الاقتصادي الأكاديمي الدقة التحليلية اللازمة للإدارة الاقتصادية اليومية. وعمله حاسم في وضع الموازنات وقرارات السياسة النقدية. لكن ضعفه الأساسي يكمن في الرؤية النفقية الضيقة المحتملة. فبتركيزه الشديد على نماذجه، قد يتغاضى عن نقاط الضعف المؤسسية أو الحقائق السياسية التي يراها الفيلسوف. الافتراضات التي تقوم عليها نماذجه قد لا تصمد في العالم الحقيقي، وهي ما تؤدي إلى توصيات سياسية أنيقة ولكنها معيبة.

ثالثاً: الاقتصادي السطحي: مروّج السرديات المبسّطة

يعمل الاقتصادي السطحي على قشور القضايا الاقتصادية، وغالباً ما يظهر في الفضاء العام كمحلل إعلامي، أو كاتب عمود، أو مُعلق على وسائل التواصل الاجتماعي. قد يكون لديه بعض التدريب الاقتصادي، لكن سمته المميزة هي تفضيله للإجابات البسيطة، سهلة الهضم، وذات الطابع الأيديولوجي غالباً، على المشاكل المعقدة. ويتميز الاقتصادي السطحي بالمواصفات الآتية:

1) السمات الجوهرية: يتعامل هذا النمط مع الكليشيهات والتبسيط المخل. يختزل التحديات الاقتصادية المعقدة في سبب واحد وحل واحد. تحليله غالباً ما يكون مجرداً من البيانات، أو الفروق الدقيقة، أو الاعتراف بوجود مقايضات. وهدفه ليس بالضرورة أن يكون على صواب، بل أن يكون مقنعاً وأن يعزز رواية موجودة مسبقاً.

2) المنهجية والمقاربة: منهجيته قصصية وخطابية. يعتمد على حجج الفطرة السليمة التي تروق للمشاعر الشعبية، ولكنها غالباً ما تتحدى المنطق الاقتصادي، تتضمن مسائل مثل: إذا كانت البطالة مرتفعة، فالحل ببساطة هو ؛ على الحكومة خلق المزيد من الوظائف، متجاهلاً كيفية تمويل هذه الوظائف واستدامتها ومنها إذا كان التضخم مرتفعاً، فالحل هو ملاحقة التجار الجشعين وفرض ضوابط على الأسعار، متجاهلاً قضايا جانب العرض، والسياسة النقدية، والفشل التاريخي لضوابط الأسعار.

3) مساهمته في دولة غنية بالموارد: يقول الاقتصادي السطحي: لدينا كل هذا الموارد! فلماذا يوجد فقراء؟ الحكومة تسرق المال! وفي حين قد يكون هناك بعض الحقيقة في ادعاء الفساد، لكن هذه الرواية تتجاوز تماماً التحديات المعقدة للعنة الموارد، والمرض الهولندي، والتصميم المؤسسي، والتنويع الاقتصادي. فهي رواية تقدم متنفساً للغضب ولكن لا تقدم مساراً قابلاً للتطبيق.

4) التأثير المحتمل: تكمن خطورة الاقتصادي السطحي في تأثيره على الرأي العام والخطاب السياسي. فيمكن لرواياته البسيطة التي تلقي باللوم هي روايات قوية سياسياً، أن تجبر صانعي السياسات على تبني سياسات شعبوية، ولكنها مدمرة في نهاية المطاف. فهو يخلق بيئة سياسية يتم فيها إغراق الحلول الدقيقة للاقتصادي الفيلسوف والتحليل الفني للاقتصادي الأكاديمي في ضجيج الشعارات المبسطة.

رابعاً: الاقتصادي الدخيل: الخبير الواثق من خارج الميدان

مصطلح الاقتصادي الدخيل هو استعارة لوصف مهني ناجح وذكي للغاية في مجاله، سواء كان الطب، أو الهندسة، أو القانون، أو إدارة الأعمال، وبالتالي يشعر بأنه مؤهل لإصدار تصريحات قاطعة حول الاقتصاد. ويتميز الاقتصادي الدخيل بالمواصفات الآتية:

1) السمات الجوهرية: غالباً ما يكون هذا الشخص من كبار رجال الصناعة أو مهنياً محترماً. ثقته نابعة من نجاح ملموس في بيئة اقتصادية جزئية. ويعتقد أن المبادئ التي جعلت شركته ناجحة يمكن تطبيقها مباشرة على الاقتصاد الكلي الوطني.

2) المنهجية والمقاربة: أداته الأساسية هي القياس، وأشهرها هو قياس الدولة على أنها أسرة، أو الدولة على أنها شركة كبيرة، وهي مقارنات مضللة بعمق: أ) مغالطة قياس الأمة بالأسرة: الدولة كالأسرة، لا يمكنها أن تنفق أكثر مما تكسب (تُنتج). ب) مغالطة قياس الأمة بالشركة: قد يقول رئيس تنفيذي ناجح: لقد جعلت شركتي مربحة عن طريق خفض التكاليف وتسريح العمال غير المنتجين. ويجب أن تُدار الحكومة كشركة وتفعل الشيء نفسه. وهذا يتجاهل حقيقة أن غرض الحكومة ليس الربح، بل الرفاء الاجتماعي. فلا يمكن لدولة أن تفصل (20%) من سكانها أو تقتل العاطلين عن العمل؛ فهي مسؤولة عنهم.

3) التأثير المحتمل: غالباً ما يُمنح الاقتصادي الدخيل منبراً بارزاً بسبب نجاحه في مجالات أخرى. فيُنظر إليه على أنه قائد عملي لا يعرف الهزل. في حين أن فطنته التجارية يمكن أن تكون قيمة في سياقات محددة كتحسين كفاءة مؤسسة مملوكة للدولة، لكن تطبيقه للمنطق الجزئي على المشاكل الكلية يمكن أن يكون كارثياً.

خامساً: الاقتصادي السام: عميل المصالح الخارجية

هذا النمط الأخير هو الأخطر على الإطلاق. الاقتصادي السام ليس فاعلاً مستقلاً يسعى إلى مصلحة بلده، بل يعمل كـعميل، عن قصد أو عن غير قصد، لمصالح خارجية، كالقوى الأجنبية أو المؤسسات المالية الدولية. ويتمثل دوره الأساسي في الترويج لسياسات تفيد أسياده الخارجيين وتنفيذها، حتى لو كان ذلك على حساب السيادة الاقتصادية والقدرة الإنتاجية لوطنه، على المدى الطويل.

1) السمات الجوهرية: غالباً ما يبدو الاقتصادي السام ذا مصداقية عالية. وقد يكون مغترباً عائداً بشهادة من جامعة أجنبية مرموقة وخبرة في صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي. يتحدث لغة الاقتصادي الأكاديمي بطلاقة، مستخدماً نماذج متطورة ومصطلحات تقليدية. ومع ذلك، فإن هدفه الأساسي مختلف؛ ولاؤه ليس للمصلحة الوطنية، بل لأجندة خارجية.

2) المنهجية والمقاربة: منهجيته هي التطبيق الانتقائي والعقائدي لأيديولوجية اقتصادية محددة، عادة ما تكون شكلاً متصلباً من الليبرالية الجديدة أو أصولية السوق، دون أي اعتبار للسياق المحلي. وصفاته السياسية متوقعة وغالباً ما تأتي كـصفقة متكاملة: أ) تحرير سريع وغير مشروط: الدفع من أجل الإزالة الفورية لجميع الحواجز التجارية، حتى بالنسبة للصناعات الوليدة التي لا يمكنها التنافس مع اللاعبين العالميين، وهو ما يؤدي إلى تراجع التصنيع. ب) تحرير كامل لحساب رأس المال: الدعوة إلى التدفق الحر لرأس المال من وإلى البلاد، وهو ما قد يؤدي في دولة نامية إلى تدفقات هائلة من الأموال الساخنة التي تخلق فقاعات أصول، وتليها تدفقات خارجية مفاجئة تطلق أزمة مالية مدمرة. ج) الخصخصة بأي ثمن: الإصرار على خصخصة الأصول الوطنية الرئيسية كالاتصالات، والمياه، والطاقة، والموارد الطبيعية. وغالباً ما تكون العملية متسرعة وغير شفافة، تؤدي إلى بيع الأصول الاستراتيجية بثمن بخس للشركات الأجنبية.

د) التنمية القائمة على الديون: تشجيع الحكومة على الحصول على قروض ضخمة مقومة بالعملة الأجنبية لتمويل مشاريع تُمنح عقودها غالباً لشركات من الدول الدائنة، ما يخلق حلقة من التبعية والهشاشة تجاه صدمات أسعار الصرف.، والضغوط السياسية للدول والمؤسسات المُقرضة.

3) مساهمته في دولة غنية بالموارد: الاقتصادي السام هو مهندس نموذج الاستخراجية الجديدة (neo-extractivist model.). سينصح بعدم بناء قدرات إنتاجية حقيقة، بأي شكل، بحجة أنه من الأكثر كفاءة تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات المثصنعة. وسيدافع عن خصخصة الشركات الإنتاجية الوطنية، وبيعها لشركة أجنبية متعددة الجنسيات. وسينصح بعدم فرض ضوابط على رأس المال، ما يسمح بإعادة أرباح استخراج الموارد إلى الخارج بحرية بدلاً من إعادة استثمارها محلياً.

4) التأثير المحتمل: يتمثل تأثير الاقتصادي السام في الإضعاف المنهجي للاقتصاد الوطني. فتصبح البلاد مجرد تابع للنظام العالمي، متخصصة في تصدير المواد الخام والعمالة الرخيصة. وتفرغ قدرتها الإنتاجية من الداخل، ويتم تقييد مساحة سياستها بمواثيق الديون وشروط المؤسسات المالية الدولية، وتصبح عرضة للصدمات الخارجية بشكل دائم. النتيجة هي اقتصاد ضعيف، وغير منتج، وتابع، يخدم تماماً مصالح أولئك الذين يرغبون في استخراج ثروته دون تعزيز نموه.

حتمية البصيرة والتمييز: بالنسبة لأية دولة، وخاصة تلك التي تقف على مفترق طرق الفرص بما لديها من ثروة بشرية وطبيعية، فإن اختيار المشورة الاقتصادية التي ستستمع إليها هو أمر بالغ الأهمية.

1) الاقتصادي الفيلسوفيقدم الحكمة والرؤية المستدامة، لكن رؤيته تتطلب الصبر والشجاعة السياسية.

2) الاقتصادي الأكاديمييوفر الكفاءة الفنية الأساسية، ولكنه يحتاج إلى أن يسترشد برؤية أوسع حتى لا يضيع في نماذجه.

3) الاقتصادي السطحيوالاقتصادي الدخيل يُقدمان نصائح شعبية وبسيطة يمكن أن تكون مضللة بشكل خطير ويجب فحصها ونقدها ومقاومتها في كثير من الأحيان.

4)وأخيراً، يمثل الاقتصادي السام تهديداً مباشراً للسيادة الوطنية ويجب كشفه وتحييد تأثيره. إن نصائحه، المغلفة بلغة الحداثة والكفاءة، ليست سوى أنشودة الساحرات التي تقود إلى مستقبل من التبعية والضعف.

إن الدولة الناجحة هي تلك التي ترعى وتستمع إلى فلاسفتها الاقتصاديين، وتوظف اقتصادييها الأكاديميين كملاحين مهرة، وتثقف جمهورها ليرى ما وراء الروايات المبسطة للسطحيين والدخلاء، والأهم من ذلك، تحمي عملية صنع سياستها من التأثير الخبيث للاقتصاديين السامّين. فالطريق إلى الرخاء لا يُعبد بأي نظرية اقتصادية واحدة، بل بحكمة اختيار المستشارين المناسبين وشجاعة صياغة هوية اقتصادية خاصة بالأمة حقاً.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير