اقتصاديات الفيل: عندما تسود السطحية الفكرية
جو 24 :
كتب ا.د عبدالرزاق بني هاني
الفيل في الاقتصاد الوطني:
أعجبتني خرافة رمزية هندية شهيرة، حول مجموعة من الرجال العميان الذين يصادفون فيلاً لأول مرة، وهم في كهفٍ مُظلم. وعندما طُلب منهم وصف هذا الكائن، توصّل كل رجل منهم، وهو يلمس جزءاً مختلفاً، إلى استنتاجٍ مُغاير تماماً لما ظنه بقية الرجال العُميان، ومختلف تماماً لما قد يكون عليه الفيل. فالذي لمس الناب قال بأن الفيل يشبه العصا، والذي أمسك بالساق أصرّ على أنه عمود من خشب، أما الرجل الذي تحسس الخرطوم فقد شبهه بالأنبوب، بينما قال الذي أمسك بالذيل بأنه ليس سوى سوط لجلد المُذنبين. لم يكن أي منهم مخطئاً تماماً، ولكن لم يكن أي منهم على صواب، لأن كلاً منهم ظن أن الجزء الذي لمسه هو الكل.
تُعد هذه الخرافة القديمة استعارة دقيقة بشكل لافت للتحديات المستعصية التي تواجه الاقتصاد الوطني. فعلى مدى عقود، كان صانعو السياسات، ومعهم المؤسسات المالية الدولية، والمحللون المحليون، وعامة الناس، يلمسون أجزاءً مختلفة من الفيل الاقتصادي الأردني. فمجموعة منهم، كان تركيزها منصبّ على الموازنة العامة للحكومة، تتحسس ناب الدين العام الذي ينمو باطراد وتعلن أن المشكلة تكمن في الإنفاق المفرط. وأخرى، وهي تراقب الطوابير الطويلة أمام ديوان الخدمة المدنية، تلمس ساق البطالة الصلبة وتستنتج أن القضية تكمن في نقص الوظائف. وهناك مجموعة ثالثة، تمثل صندوق النقد والبنك الدوليين، تشعر بخرطوم العجز المالي المتأرجح وتصف نظاماً غذائياً قاسياً من خفض الدعم ورفع الضرائب. وفي هذه الأثناء، يمسك المواطن العادي، الذي يشعر بلسعة التضخم وركود الأجور، بذيل القوة الشرائية المتآكل ويرى أزمة بقاء يومية.
كل منظور من هذه المنظورات يلتقط جزءاً من حقيقة بسيطة، ومع ذلك تبقى الرؤيا سطحية ومؤلمة من الواقع الاقتصادي. فمن خلال التركيز على مكون واحد، يفشل صانعو السياسة الاقتصادية في إدراك طبيعة الوحش ككل. لأن غالبية التحليلات لا تزال حبيسة السطح، وتركز على الأدوات المالية والنقدية التقليدية. فهي توصي بالتقشف، وتعديل أسعار الفائدة، وتأمين حزمة القروض التالية. وهذه هي أفعال رجال يصفون رمحاً أو عموداً؛ إنها استجابات تكتيكية لأعراض معزولة تفشل في معالجة نقاط الضعف الهيكلية والنظامية التي يعاني منها هذا الكائن. ولكي نفهم المأزق الاقتصادي حقاً، يجب علينا أن نعود خطوة إلى الوراء ونحاول رؤية الفيل بأكمله: كائن حي معقد، يتميز بإمكانات هائلة غير مستغلة، ومكبل باعتمادية هيكلية، وموجه بمنطق يبدو أنه يكرّس المشاكل ذاتها التي يسعى إلى حلها.
العبء الساحق للدين ومحدودية السياسات التقليدية
السمة الأكثر إلحاحاً وفرضاً لنفسها في فيل الاقتصاد الأردني هي الدين العام. فمع حلول العام (2025)، لم تعد هذه مجرد مشكلة، بل أصبحت أزمة تنمو بشكل أسي منذ سنوات. ويا ليتنا نعرف بالضبط من أصحاب القرار المحترمين الجواب على السؤال البريء الآتي: هل تجاوزت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي حاجز الـ (100%)، ومنذ متى؟ فإذا كان الجواب نعم، ومنذ مدة ليست قصيرة، فإن ذلك يضع الأردن في وضع حرج، حيث يتم استهلاك جزء كبير من إيرادات الدولة ليس للاستثمار في المستقبل، ولكن لخدمة قروض الماضي. وفي كل عام، يضيف عجز الموازنة طبقة أخرى إلى جبل الالتزامات هذا، مما يخلق حلقة مفرغة: يقترض الأردن لتغطية عجزه، وتؤدي تكلفة خدمة هذا الدين الجديد إلى زيادة عجز العام المقبل، مما يجبره على الاقتراض أكثر.
المحللون الذين يركزون فقط على هذا الجانب، كما أشرت، يميلون إلى تقديم مجموعة متوقعة وضيقة من الحلول المتجذرة في السياسات المالية والنقدية التقليدية. وتوصياتهم، التي غالباً ما تتماشى مع شروط قروض صندوق النقد الدولي، تشمل ما يلي:
الضبط المالي (Fiscal Consolidation): وهو مصطلح فني يعني التقشف. ويشمل ذلك خفض الإنفاق العام، وتقليص أو إلغاء الدعم عن السلع الأساسية مثل الخبز والوقود، وزيادة الضرائب، لا سيما ضريبة المبيعات العامة، التي تؤثر بشكل غير متناسب على الفقراء والطبقة الوسطى.
التشديد النقدي (Monetary Tightening): لمكافحة التضخم (الذي يتفاقم غالباً بسبب إزالة الدعم)، يرفع البنك المركزي الأردني أسعار الفائدة. وفي حين أن هذا قد يكبح جماح الأسعار، إلا أنه يجعل الاقتراض أكثر تكلفة للشركات، بؤدي إلى خنق الاستثمار، ويبطئ النمو الاقتصادي، ويعيق في نهاية المطاف خلق فرص العمل.
تكمن المشكلة الجوهرية في هذا النهج في أنه يعالج الدين باعتباره المرض، في حين أنه في الواقع عرض لأمراض أعمق. إنه يفشل في طرح السؤال الأساسي: لماذا يستمر العجز؟ تكمن الإجابات في حقائق هيكلية لا يمكن للتقشف إصلاحها: قطاع عام متضخم يعمل كشبكة أمان اجتماعي بدلاً من كونه محركاً للكفاءة، واعتماد كبير على الطاقة المستوردة مما يعرض الموازنة وميزان المدفوعات غلى صدمات الأسعار العالمية، والعبء المالي الهائل لاستضافة موجات متعددة من اللاجئين. إن تطبيق العلاجات المالية التقليدية على هذه المشاكل الهيكلية العميقة يشبه محاولة إصلاح أساس متصدع بإعادة طلاء الجدران. ويخلق وهماً بالعمل مع ضمان بقاء عدم الاستقرار الجوهري، مما يضمن الحاجة إلى مزيد من القروض - ومزيد من الشروط - في المستقبل.
الطاقات المهدرة وسؤال الإرادة الوطنية
لعل أكبر مأساة في الاقتصاد الأردني هي المفارقة الصارخة بين ناتجه البشري ونتائجه الاقتصادية. يمتلك الأردن مستوى استثنائياً من رأس المال البشري. فهو يفتخر بأنه أحد أكثر الشعوب تعليماً في الشرق العربي، مع معدلات معرفة بالقراءة والكتابة مرتفعة وتدفق مستمر من الخريجين في مجالات كالطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات. والمهنيون الأردنيون مطلوبون بشدة في كثيرٍ من الدول. وهذا الشعب المتعلم والطموح والشاب يجب أن يكون محركاً لاقتصاد نابض بالحياة ومبتكر.
لكن هذا المحرك، في معظمه، متعثر. فمعدل البطالة الرسمي بين الشباب مرتفع بشكل ينذر بالخطر، حيث يحوم باستمرار حول (50%) للشباب ويرتفع أكثر لدى الشابات. وهذا يشير إلى عدم توافق بين مهارات القوى العاملة وهيكل الاقتصاد. فالقطاع الخاص لا يولد ما يكفي من الوظائف ذات القيمة العالية لاستيعاب هذه المواهب، مما يؤدي إلى نتيجتين مُزعجتين:
1. عمالة تعمل بأقل من طاقتها الممكنة (Underemployment): ينتهي الأمر بالخريجين المؤهلين تأهيلاً عالياً في وظائف منخفضة المهارات ومنخفضة الأجر أو ينضمون إلى طابور الانتظار للحصول على وظيفة في القطاع العام توفر الأمان، مع القليل من النمو الديناميكي.
2. هجرة الأدمغة (Brain Drain): يغادر المواطنون الأكثر موهبة وطموحاً البلاد، آخذين معهم مهاراتهم وإمكاناتهم الابتكارية وإيراداتهم الضريبية المستقبلية. الأردن، في الواقع، يدعم تنمية رأس المال البشري لدول أخرى.
وهذا يقودنا إلى نقطة حاسمة وحساسة، وهي: يبدو أنه لا توجد إرادة وطنية حرة. إن عدم القدرة على بناء اقتصاد يستفيد من أعظم أصوله - شعبه - ليس من قبيل الصدفة. بل هو نتيجة لإطار سياساتي متأثر بشدة، إن لم يكن مفروضاً، من قبل جهات فاعلة خارجية. فدور الأردن الجيوسياسي كمرساة للاستقرار في منطقة مضطربة واعتماده الشديد على المساعدات الخارجية والقروض الدولية يعنيان أن سيادته الاقتصادية منقوصة.
غالباً ما تُتخذ القرارات لإرضاء المتطلبات قصيرة الأجل للمانحين والمقرضين (كالاستقرار المالي، وتحرير السوق، والتعاون الأمني) بدلاً من تنفيذ رؤية وطنية مستقلة طويلة الأجل للتنمية الصناعية والتكنولوجية. وهنا أود أن أؤكد على حقيقة مرة، ومفادها: لا يوجد جهد استراتيجي تقوده الدولة - الحكومة لبناء صناعات المستقبل التي يمكن أن توظف بالفعل شباب الأردن المهرة. وبدلاً من ذلك، فإن البلاد عالقة منذ عدة عقود في نمط من الانتظار، تدير الأزمات وتوازن الموازنات بشروط يضعها الآخرون، بينما يتدفق أثمن مواردها إلى الخارج.
المسار غير المباشر نحو الإنتاجية
لقد دفعت حلقة الدين والركود البعض إلى البحث عن أطر بديلة تتجاوز الكتيب التقليدي. ومن هذه الأفكار تحويل القوى العاملة العاطلة في الأردن إلى قوة منتجة من خلال ما أسميته الاقتصاد الالتفافي أو الاقتصاد الدوار. يشير هذا المفهوم، المتجذر في المدرسة النمساوية للاقتصاد، إلى الابتعاد عن أساليب الإنتاج البسيطة والمباشرة نحو عمليات أكثر تعقيداً ومتعددة المراحل وتتطلب كثافة في رأس المال.
لفهم ذلك، لنأخذ مثالاً بسيطاً. إن الطريقة الأكثر مباشرة لصيد السمك هي باليدين. هذا لا يتطلب أي استثمار مسبق ولكنه يعطي عائداً منخفضاً جداً. أما الطريقة الالتفافية فتتضمن استثمار الوقت والموارد أولاً في صناعة شبكة صيد أو قارب. هذه العملية غير مباشرة وتتطلب استثماراً وتخطيطاً مسبقين (تراكم رأس المال)، لكنها تزيد الإنتاجية على المدى الطويل بشكل كبير.
الاقتصاد الأردني عالق إلى حد كبير في مرحلة الإنتاج بالأيدي المجردة. وتهيمن عليه الخدمات المباشرة كتجارة التجزئة والسياحة والنقل. ثم يأتي الاستهلاك في القطاع العام حيث التوظيف الحكومي الذي يستهلك موارد الدولة دون توليد ثروة جديدة. وأخيراً الاستخراج الأولي، الذي يتجسدفي تصدير المواد الخام كالفوسفات والبوتاس بأدنى قيمة مضافة.
يستلزم نهج الاقتصاد الدوار استراتيجية وطنية مدروسة لبناء شباك الصيد والقوارب لاقتصاد حديث. وهذا يعني تحويل التركيز من الاستهلاك والخدمات البسيطة إلى سلاسل إنتاج معقدة ومتكاملة. يتعلق الأمر بتحويل رأس المال البشري الأردني المعطل إلى المكون الأساسي لهذا الهيكل الإنتاجي الجديد.
يمكن أن تشمل أمثلة هذا التحول ما يلي:
في الصناعات الدوائية: بدلاً من مجرد استيراد وتوزيع الأدوية، يمكن للأردن الاستفادة من الكيميائيين وعلماء الأحياء المهرة لديه لبناء صناعة متكاملة، من البحث والتطوير والتجارب السريرية إلى تصنيع الأدوية المماثلة والبيولوجية الحاصلة على براءة اختراع للتصدير الإقليمي.
وفي التكنولوجيا الزراعية: بدلاً من المعاناة مع ندرة المياه باستخدام الزراعة التقليدية، يمكن للأردن أن يصبح مركزاً لتطوير وتصدير التقنيات المتقدمة لتوفير المياه والزراعة الصحراوية.
وفي الاقتصاد الرقمي: بدلاً من أن يكون مستهلكاً للبرمجيات، يمكن أن يكون مُنشِئاً لها، معتمداً على مجموعة خريجي تكنولوجيا المعلومات لتطوير حلول برمجية متخصصة وخدمات الأمن السيبراني ومراكز تحليل البيانات.
وهذا المسار ليس سهلاً. فهو يتطلب قطيعة جذرية مع التفكير قصير المدى. ويتطلب الصبر، والاستثمار الاستراتيجي من القطاعين العام والخاص، والاستعداد لحماية الصناعات الناشئة. والأهم من ذلك، أنه يتطلب الإرادة الوطنية الحرة لرسم مسار مستقل عن المطالب الفورية للدائنين الدوليين، مع التركيز على بناء ثروة مستدامة للجيل القادم بدلاً من مجرد موازنة الدفاتر للربع المالي التالي.
رؤية الفيل كاملاً ورسم مسار جديد
بالعودة إلى استعارتنا الافتتاحية، فإن مأساة الاقتصاد الأردني ليست في كونه كائناً ضعيفاً أو فاشلاً، بل في أن القائمين عليه أمضوا عقوداً في محاولة إدارة أجزائه بشكل منفصل، وفي كثير من الأحيان بطرق متناقضة. فصندوق النقد الدولي يسحب خرطوم السياسة المالية، بينما يضخم القطاع العام إحدى الساقين، وأفضل عقول البلاد وألمعها تهرب، وهو ما يُضعف عقل الفيل نفسه. والنتيجة هي كائن حي قوي في إمكاناته، لكنه أخرق ومكبل في حركته.
التحليل الشامل، كما اقترحت، يكشف أن التحديات الرئيسية مترابطة بعمق:
• الدين المتزايد بشكل أسي هو عَرَضٌ لهيكل اقتصادي غير منتج يفشل في توليد دخل كلي كافٍ.
• الفشل في استغلال رأس المال البشري العالي هو السبب الرئيسي لهذه الإنتاجية المنخفضة.
• التركيز على السياسة المالية التقليدية هو حل قصير الأجل يتجاهل الحاجة إلى استثمار إنتاجي طويل الأجل.
• غياب الإرادة الوطنية الحرة هو القيد السياسي الذي يمنع تنفيذ استراتيجية اقتصادية جريئة وذات سيادة.
لذلك، لا يمكن إيجاد الحل في حزمة تقشف أخرى أو تعديل طفيف في أسعار الفائدة. بل يتطلب نقلة نوعية وتحولاً جذرياً في التفكير - مشروع وطني لرؤية الفيل بأكمله. وهذا يعني إدراك أن الدين لا يمكن حله دون معالجة الإنتاجية، والإنتاجية لا يمكن إطلاقها دون تمكين رأس المال البشري في البلاد ضمن إطار اقتصادي سيادي.
يقدم مسار الاقتصاد الالتفافي (الدوار) مخططاً لهذا التحول. فهو دعوة للانتقال من اقتصاد استهلاكي إلى اقتصاد إنتاجي؛ من متلقٍ للمساعدات إلى مولّدٍ للقيمة؛ من إدارة المشاكل إلى بناء الصناعات. ومثل هذا التحول هو مهمة ضخمة تتحدى المصالح الراسخة وتتطلب مستوى من الشجاعة السياسية والوحدة الوطنية. ولكن بدونه، سيستمر الرجال العميان في الجدال حول طبيعة الرمح والعمود والحبل، بينما يظل الفيل نفسه - الذي يمثل تطلعات ملايين الأردنيين - مقيداً وجائعاً وغير قادر على المضي قدماً.








