jo24_banner
jo24_banner

الإعلام التعبوي وخرافة الضحية الأبدية

فراس عوض
جو 24 :
 
 
قبل قليل، وبينما كنت أقلب بعض مقاطع "الريلز"، إذا بمذيعة تظهر على قناة أردنية بعنوان عاطفي: "الفتاة ضحية الانفصال". في الحقيقة، عندما سمعتها تأثرت من الحال البائس غير الأخلاقي الذي وصل إليه هذا الإعلام التجاري؛ ففي زمن أصبحت فيه الشاشات بوابة لتشكيل العقول، تُطل علينا مرارًا وتكرارًا مذيعات بأصوات رخيمة – وغالبية هؤلاء مطلقات – يظهرن بمظهر التعاطف والرحمة، بينما في باطنهن فراغ مدوٍّ.

يتكرر الخطاب نفسه: إمّا برفع شأن الطلاق كأنه أمر جميل، على طريقة "أنا قوية وما بدي رجال". أو بخطاب آخر يضع المرأة المطلقة في خانة الضحية، ويصوّر الرجل كجلاد، والمرأة ملاكًا والرجل شيطانًا! وهكذا تستمر حالة الشيطنة الإعلامية للرجل. تُقدَّم الحكاية وكأنها حقيقة مطلقة، يُعاد تدويرها بعبارات مختلفة، لكنها لا تتجاوز كونها شعارات عاطفية أكثر من كونها وصفًا دقيقًا ومنصفًا للواقع.

هذا الخطاب المزخرف يتجاهل أن الصورة أعقد بكثير؛ فحتى قانون الأحوال نفسه صنع معادلة منحازة لا تحقق التوازن ولا تنصف كل الأطراف، وتحديدًا الرجل، فهو الخاسر الأكبر ماديًا ومعنويًا وعاطفيًا بعد الطلاق، خاصة في وجود أبناء، وإن كان عاطلًا عن العمل!

اليوم يفتح القانون أبوابًا واسعة للمنفصلة: النفقة، المسكن، العلاج، تعليم الأبناء، الحضانة الممتدة حتى الخامسة عشرة. وإن تخلّف الرجل يومًا عن النفقة يُحبس فورًا. وهناك نساء يتقاضين مبالغ تصل إلى مئات الدنانير، ويُجبر الرجل على دفع تكاليف المدارس الخاصة في كثير من القضايا، رغم أنه غالبًا محروم من رؤية أبنائه. ثم يُترك في مواجهة نزاع قضائي آخر حول المسكن، ثم الحضانة، ثم تفاصيل لا تنتهي. وحتى لو كانت المرأة عاملة وتتقاضى آلاف الدنانير، وهو عاطل عن العمل، لا يأبه به القانون ولا يُلزمها بدفع قرش واحد.

في الحقيقة، ليست المشكلة في أن تحصل المرأة على حقوقها، فهذا أمر لا جدال فيه، لكن السؤال: أين يقف الرجل وسط هذا الطوفان؟ أليس له حق في أن يُنصف ويُعامل بعدالة؟ أليس من العبث أن يكون هناك قانون أحوال يكافئ طرفًا على حساب طرف، ويحقق امتيازات لا حقوقًا، ثم يأتي الإعلام التعبوي ليجعل من الرجل جلادًا؟

في الواقع العملي، كثير من الرجال يجدون أنفسهم محاصرين، لا بقرارات الطلاق وحدها، بل بطريقة استخدام الأبناء كوسيلة ضغط، كأداة انتقام، أو كجسر لتحصيل المزيد من المكاسب. هنا، لا يعود الأمر مجرد نزاع بين زوجين، بل يتحول إلى صراع يمسّ روح الطفولة نفسها، إذ يُربَّى الأبناء أحيانًا على كراهية أحد والديهم. وفي لحظة التخيير، حين يبلغ الابن الخامسة عشرة، يكون القرار محسومًا سلفًا: فكيف سيختار أبًا غريبًا عنه وقد أُبعِد طويلًا؟

القضية لا تتعلق بالنساء كجنس، ولا بالرجال كطرف مقابل؛ إنها قضية ميزان اختلّ، وقانون صُمّم بطريقة جعلت الانفصال خيارًا أسهل مما يجب أن يكون، لأن من صاغه كان جهازًا بيد طرف واحد – المرأة – في قوانين الأسرة، واستُبعد الرجل من الحوار والتشريع. فأضعف ذلك القانون بنية الأسرة، وترك كل طرف يعيش شعورًا بالظلم: المرأة ترى نفسها مقيدة بمجتمع يضع عليها أحكامًا قاسية، والرجل يرى نفسه مجرد "محفظة مالية" تُفتح عند الحاجة، أما الأبناء فهم في قلب المعادلة، يتشكل وعيهم بين خطاب إعلامي يلمّع طرفًا ويشيطن آخر، وبين واقع يزرع فيهم الانقسام.

لا شك أن بين المطلقات نساء مظلومات بالفعل، تعرضن لخيانات أو إهمال أو عنف، وهؤلاء يستحققن كل تعاطف وإنصاف. كما أن بين الرجال من يستحق اللوم، إذ لم يُحسن الاختيار أو لم يتحمل المسؤولية، بل ومنهم من تعرض لعنف غير مرئي أو محسوس أوصله إلى قرار الترك. لكن التعميم الذي يبيعه الإعلام، وتلك الصورة النمطية المعلّبة عن "الضحية الأبدية"، ليست إلا خرافة تسلب الحقيقة من أصحابها. الغالبية ليست كما تُروى، والواقع مليء بتفاصيل لا يمكن أن تُختصر في خطاب تلفزيوني مبسّط منفصل عن الواقع، يعرض المسرح ويخفي الكواليس.

الأدهى أن هذا الإعلام التعبوي لا يكتفي برواية نصف الحقيقة، بل يُحرّض المجتمع نفسه على الانقسام. يجعل من المرأة كائنًا هشًا يحتاج دائمًا إلى حماية، ومن الرجل وحشًا لا يعرف الرحمة، فيزرع بذور الشك والكراهية بين الجنسين. ومع مرور الوقت، يصبح الزواج مؤسسة هشة، والأسرة ساحة تجاذب وعراك وصراع، والأبناء وقودًا لحروب لم يختاروها.

كل ذلك جاء نتيجة تأثير الحركات النسوية المتطرفة الخارجة عن عباءة العلم والدين والقيم والعادات. تلك الحركات التي تطالب دومًا بحقوق طرف على حساب آخر، وتنبطح لها الحكومات، فتعادي الأسرة وتعبّئ المرأة ضد الرجل، وتظهره بصورة العدو المتخيَّل الدائم للمرأة. وهذه حقيقة ثابتة في أدبيات النسوية، بل وباعترافاتهن.

إن ما نحتاجه اليوم ليس خطابات عاطفية تُلقي اللوم على طرف واحد وتُبرئ الآخر، بل مراجعة شجاعة للقوانين والسياسات والخطابات الإعلامية التي تحكم حياتنا. نحتاج إلى ميزان يعترف بأن الأسرة مسؤولية مشتركة، وأن الطلاق ليس انتصارًا لأحد، بل خسارة للجميع. نحتاج إلى قانون يحمي الطفل من أن يكون ورقة مساومة، ويحمي الرجل من الاستنزاف الأبدي والافتراءات الكيدية، ويحمي المرأة من أن تُختزل صورتها في خطاب الضحية فقط.

الحقيقة لا تحتاج إلى تجميل ولا إلى ابتسامة مذيعة. الحقيقة أن قانون الأحوال بصيغته الحالية يشجع على الطلاق أكثر مما يشجع على الإصلاح والتوافق، ويُفكك الأسرة بدل أن يحميها. والحقيقة أن الإعلام، بسطحيته وتبعيته، يعيد إنتاج هذا الهراء وهذه الخرافة كل يوم، حتى صارت جزءًا من الوعي الجمعي العام.

لكن من ينصت جيدًا يدرك أن الأصوات الصادقة تخرج من واقع الناس لا من شاشات التلفاز، ولا من مذيعات بائسات فشلن في تأسيس أسر وأسقطن تجاربهن الفاشلة على المجتمع. والعدالة لا تُبنى على التحيز، بل على الاعتراف بمعاناة كل الأطراف دون استثناء، وإعطائهم حقوقهم كاملة.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير