jo24_banner
jo24_banner

حدث في بروكسيل.. عازف الميترو يسأل عمّان عن الملايين !!

حدث في بروكسيل.. عازف الميترو يسأل عمّان عن الملايين !!
جو 24 :

كتب تامر خرمه - بضعة سنتات لا تكاد تصل إلى اليورو الواحد.. جمعها عازف القيثارة في قبعته بعد أداء جميل في الميترو، أعادت إلى الذهن مفردات تلك المقاربة التي باحت بها مسؤولة وحدة التطوير الاجتماعي والإنساني في "اليورو ايد"، كريستينا دالمان، والتي قالت دون تردّد: السوق.. السوق هو الذي سيغيّر كلّ شيء.

كنت أفكّر في كلمات دالمان التي سمعتها صبيحة ذلك اليوم، أثناء الانتقال مساء من منطقة "شومان" المكتظة بالساسة المتأنّقين وبمختلف مؤسّسات الاتحاد الأوروبي، إلى منطقة سانت كاثرين الشعبيّة، للقاء شباب من مختلف الجنسيّات، جمعهم السفر والفضول لمعرفة "الآخر".

هل حقّا يمكن لـ "السوق" أن يكون العصا السحريّة التي ستحلّ كلّ شيء، ابتداء من مصادرة حريّة الصحافة، إلى اعتقال الصحافيين بأمر من محكمة عسكريّة، وانتهاء بالضغط على من يعارض السلطة، والتضييق عليه، ودفعه إلى طلب اللجوء السياسي على حدود القطب الشمالي ؟!

بصراحة، لم يكن حديث دالمان مقنعا على الإطلاق، ولكنّها كانت تنطق كلمة السوق (The Market) بطريقة توحي لك بأنّها تتلذّذ بمضغ تلك المفردة، وهو ما يجعل الكلمة تتردّد في الذهن بإلحاح غريب.

ما الذي قالته دالمان، المسؤولة الأوروبيّة الأمريكيّة الأصل، على وجه التحديد ؟!

"لقد أخبرنا المفوضيّة بما نريده.. قلنا لهم توقّفوا عن دعم مشاريع التدريب، والتفتوا إلى حجر الرحى فيما يتعلّق بمستقبل الإعلام في الأردن.. إنه السوق، السوق هو الذي يضمن حريّة الإعلام.. علينا تطوير الجانب التقني وتمكين وسائل الإعلام اقتصاديّا".
ولكن ماذا عن البيئة التشريعيّة، وعن قانون المطبوعات والنشر، وقانون العقوبات.. كنت أتساءل في قرارة نفسي، قبل أن تعيدني دالمان من حالة "السرحان" بقولها: "بالطبع لا بد من استمرار الحوار مع السلطات في الأردن لتطوير البيئة التشريعية بما يضمن حريّة الإعلام وحقوق الإنسان، وبالطبع دائما تثار القضايا المتعلقة بانتهاك هذه الحقوق، ولكن في النهاية لا يمكن ضمان هذه الحريّات إلاّ من خلال السوق".

ومضت دالمان في حديثها لتتطرّق إلى مسألة "الشراكة" بين الاتحاد الأوروبي ومؤسّسات المجتمع المدني في الأردن، وهنا لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. بضعة منظمات غير حكوميّة بعيدة كلّ البعد عن أولويّات الشارع الأردني وتقتصر على بعض النخب المعزولة، كانت بمثابة "الشريك" الذي يمثّل هذا "المجتمع المدني".. ليست الأحزاب السياسيّة، ولا النقابات المهنيّة، ولا الأندية والاتحادات الطلابيّة أو الشبابيّة، وإنّما بضعة منظّمات غريبة عن واقع واهتمامات الناس !!
بعد بضعة أيّام كنت أساعد فرنانديز غلوريا، مسؤولة قسم حقوق الإنسان في "الخدمات الأوروبية الخارجيّة" (E.E.A.S)
بلملمة الأوراق والملفات التي أسقطتها عن مكتبها أثناء الحوار، قبل أن نعود إلى الحديث الذي قالت فيه: "تقدّم المحافظين على الاشتراكيين الديمقراطيين أثر على سياسات الاتحاد داخل أوروبا، ولكنّه لم يؤثر على سياساتنا الخارجيّة تجاه المنطقة العربيّة، ما أثر عليها فعلا هو الربيع العربي، الذي أيقظ العالم".

لن تحصلوا على سوق مستقرّ دون إرساء قواعد الديمقراطيّة.. هذا هو الأمر أليس كذلك ؟ أجبتها بصراحة لتجيب بانفعال: "نحن ندعم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان باعتبارها قيما نؤمن بها، ليس من أجل الاستقرار، فهناك دول كثيرة مستقرّة ولكنّها ليست ديمقراطيّة".

وتابعت غلوريا: "70 مليون يورو حصل عليها الأردن خلال العام 2012 من برنامج الربيع، ونحن واضحون مع السلطات الأردنيّة، سنقدّم الدعم المالي، ولكن هذا الدعم لن يكتمل إلاّ إذا تحقّقت الشروط المتعلّقة بضمان حقوق الإنسان والتقدّم نحو الديمقراطيّة".

كلمات غلوريا ذكّرتني بعبارة زلتان سيمون، مسؤول ملفّ "المشرق" في مجموعة تحالف الاشتراكيّين والديمقراطيّين في البرلمان الأوروبي، والتي لخّص فيها توجّهات البرلمان فيما يتعلّق بسياسة الدعم المالي بقوله: "المزيد مقابل المزيد.. تعني الأقلّ مقابل الأقلّ".. ما يعني أن الأردن لن يحصل على المزيد من الأموال إلاّ إذا قدّم المزيد فيما يتعلّق بالتقدّم نحو الديمقراطيّة وضمان حقوق الإنسان.

ولكن هل هذا هو ما يحصل في حقيقة الأمر ؟

البرلمان الأوروبي الطامح لأن يكون مرئيّا على الصعيد السياسي، لم يجد ما يتحدّث به سوى هذه المفردات، التي لا تعبّر عن أولويّات المجلس الأوروبي، وفي صراعه مع المجلس يحاول هذا البرلمان إثارة القضايا الحقوقيّة وربطها بسياسة الدعم المالي.. ولكن القرار في نهاية الأمر للمجلس الذي لا يعنيه سوى "الأمن والاستقرار"، في مشهد يماهي في جوهره العلاقة بين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة هنا في الأردن.. وإن كان أكثر تعقيدا وبيروقراطيّة !!
وهنا تذكّرت أيضاً الأرقام التي أفصح عنها دومينيكو جيجليوتي، مسؤول ملفّ الأردن في الـ(E.E.A.S)
والتي نوّه خلالها بأن الـ 70 مليون يورو التي ذكرتها غلوريا فيما بعد، لم تكن سوى قيمة مضافة إلى مبلغ الـ 223 مليون يورو التي تلقّاها الأردن خلال عامي 2011- 2013 من "برنامج الربيع"، قبل أن تضاف لهذه المبالغ 60 مليون يورو أخرى في شهر حزيران الماضي لدعم الأردن فيما يتعلّق باستقبال اللاجئين السوريّين".

عدت إلى محطّة المترو لأستمع للموسيقى التي كانت تعزفها فتاة مازالت –رغم مهارتها- تحاول الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب، بصحبة فتاتين في نفس عمرها، تغنيان بمرح يقنع المارّة بوضع المزيد من السنتات في حقيبة "الجيتار"، وهنا ارتسمت أمامي مفارقة غريبة.. فقراء يعزفون الموسيقى العذبة مقابل بضعة سنتات لا تكاد تكفي لاستقلال المترو.. وساسة يقدّمون الدعم المالي بسخاء لمنظّمات غير حكوميّة تواجدت بقدرة قادر في دول العالم الثالث، وكلّ ما تفعله هو تسجيل "الإنجازات" على الورق، والادّعاء بأنّها تمثّل المجتمع المدني.. ولا يكتمل المشهد إلاّ بجهابذة السياسة الخارجيّة الأردنيّة، الذين ينهلون الملايين من المساعدات الماليّة دون أن يعرف أيّ كان، مصير هذه الأموال المتدفّقة باسم "الديمقراطيّة" و"حقوق الإنسان" !!

تابعو الأردن 24 على google news