الهدنة التي تمشي على حافة النار… والخليج يكتب شروط الغد
جو 24 :
كتب - زياد فرحان المجالي
في اللحظة التي بدت فيها الحرب كأنها انتهت على الورق، كانت الأرض تقول العكس تمامًا. فالهدنة التي رعتها واشنطن وضمنت خطوطها القاهرة والدوحة بدأت تتآكل من أطرافها، فيما يعلو صوت الصراع داخل الخنادق السياسية أكثر من أصوات المدافع. لم تعد غزة ساحة مواجهة فقط، بل مرآة تعكس ارتباكًا إقليميًا لا يقل خطورة عن دخان الحرب نفسها. خلف الخطوط، تتصارع المشاريع وتتناقض الحسابات، وداخل كل بيانٍ عن "السلام”، يتخفّى شرط جديد، وموقفٌ يتبدّل قبل أن يُذاع.
في قلب هذا المشهد المترنّح تقف السعودية والإمارات، لا كطرفين مراقبين بل كقوتين تحاولان إعادة تعريف مفهوم الاستقرار نفسه. فبينما تتصرّف واشنطن كأن الهدنة انتصار سياسي مكتمل، تدرك الرياض وأبوظبي أن ما يجري هو هدنة هشة تُدار على الحافة، وأن أي إعادة إعمار بلا نزعٍ فعلي للسلاح ستعيد الانفجار بأشكالٍ جديدة. في كواليس الاتصالات، حملت الرسائل الخليجية لهجة مختلفة: لا يمكن أن تُبنى غزة على فوضى الميليشيا، ولا أن يُستأنف التمويل ما لم تُضبط الحدود وتُعَد هندسة السلطة من جديد.
السعودية التي لطالما تعاملت مع الملف الفلسطيني بحذرٍ محسوب، اختارت هذه المرة أن تكون صريحة في مداولاتها مع واشنطن، معلنةً أن دعمها لأي تسوية مرهون بإنهاء عسكرة الفصائل وتثبيت إدارةٍ مدنية تُشرف عليها مؤسسات فلسطينية محايدة لا تنتمي إلى محورٍ خارجي. هذه الرسالة لم تكن مجرد موقفٍ تفاوضي، بل إشارة إلى تحوّل عميق في المقاربة السعودية من منطق "المساعدات” إلى منطق "الشروط”. الرياض التي تمسكت طويلًا بخطاب الدعم الإنساني، بدأت الآن تتحدث بلغة الأمن والسيادة، معتبرةً أن السلاح الذي يخرج عن الدولة هو بداية انهيارها.
أما الإمارات، فاختارت مسارًا ميدانيًا أكثر وضوحًا: استمرار تمويل المناطق الجنوبية الخاضعة للرقابة الإسرائيلية، وتجميد أي التزامٍ تجاه مناطق النفوذ التابعة لحماس أو الفصائل المسلحة. وقد أوصلت عبر قنواتها رسائل حازمة إلى الأمم المتحدة مفادها أن "إعمارًا بلا أمن هو عبث سياسي”. في المقابل، تسعى أبوظبي إلى صياغة تحالفٍ تقني–اقتصادي يعيد رسم خارطة المساعدات في غزة، بحيث تخضع كل مشاريع الإعمار لموافقة دولية ومراقبة أمنية مشتركة. في جوهر هذا التوجّه تكمن فكرة واحدة: لا يمكن تمويل الفوضى باسم الإنسانية.
وفي الوقت ذاته، برزت المقاطعة غير المعلنة لقادة الخليج لقمة شرم الشيخ كمؤشّر على التبدّل في ميزان الشرعية. غياب الأمير محمد بن سلمان ومحمد بن زايد لم يكن عرضًا بروتوكوليًا، بل تعبيرًا عن رفض تحويل القمة إلى مشهدٍ يعيد قطر وحماس إلى الواجهة. أرادت الرياض وأبوظبي أن تقولان للعالم إن زمن المجاملات السياسية قد انتهى، وإن أي اتفاق سلام لا يملك أدوات تطبيقه على الأرض، سيبقى بيانًا عائمًا فوق الرماد.
إسرائيل من جانبها لم تُخفِ ارتباكها أمام هذا التحول الخليجي. فبينما كانت تراهن على المال العربي لترميم غزة، فوجئت بأن العواصم التي كانت تفتح دفاتر الشيكات باتت تفتح دفاتر الشروط. ومع انكشاف ضعف سيطرة الجيش الإسرائيلي على مناطق شمال القطاع، لجأت تل أبيب إلى سياسة "الضغط المنسق مع واشنطن”، مطالبةً بإغلاق ملف الأسرى والمفقودين قبل أن يتحول الاتفاق إلى مجرد صفقة إنسانية بلا مضمون أمني. فتل أبيب ترى في كل هدنة مؤقتة فرصة لإعادة التموضع، لكنها تدرك أن أي إعادة إعمارٍ واسعة تحت إشراف قطر أو تركيا ستمنح حماس شرعيةً جديدة ترفضها مؤسسات الأمن الإسرائيلي.
البيت الأبيض في المقابل يعيش ازدواجية واضحة. فإدارة ترامب الجديدة تريد الحفاظ على صورة الإنجاز الدبلوماسي، لكنها تصطدم بحقائق الميدان التي لا تشبه خطابها الانتخابي. والنتيجة أن واشنطن تجد نفسها بين نارين: لا تستطيع الضغط على حلفائها الخليجيين لتسريع الإعمار، ولا تملك ترف انتظار استقرارٍ قد لا يأتي. في لغة السياسة الأمريكية، يُختصر الموقف بكلمة واحدة: "تجميدٌ محسوب”، أي بقاء الهدنة في حالة موتٍ سريري، تُمدّد كلما لزم الوقت، وتُستنزف مع كل تصريح.
لكنّ ما يجري في غزة لا ينفصل عن خرائطٍ أبعد تمتدّ نحو السودان واليمن وسوريا. فالتوتر بين أبوظبي والخرطوم، وتبادل الاتهامات حول تهريب السلاح عبر البحر الأحمر، ينعكسان مباشرةً على مسارات الإمداد الإقليمي. في الخلفية، تتحرك طهران عبر وكلائها، وتفتح إسرائيل عيونها على كل ممر يمكن أن يعيد تسليح المقاومة. أما في جنوب سوريا، فهناك حربٌ هادئة تدور منذ أسابيع في مناطق درعا والقنيطرة، حيث تسعى تل أبيب إلى إنشاء "منطقة آمنة” لمنع تمدد نفوذ حكومة أحمد الشرع الجديدة، وتحصين حدودها الشمالية عبر قواعد متقدمة بإشراف مباشر من الاستخبارات العسكرية.
هكذا تتقاطع خرائط النار من غزة إلى دمشق، ومن الفجيرة إلى البحر الأحمر، في مشهدٍ واحدٍ يعيد تعريف الأمن الإقليمي. فحين تنظر السعودية إلى غزة، تراها من زاوية البحر الأحمر، وحين تنظر الإمارات إليها، تراها من بوابة التجارة والطاقة. لذلك فإنّ معركة الهدنة بالنسبة لهما ليست معركة حدودٍ أو فصائل، بل معركة مستقبل المنطقة: من يمسك بالمفاتيح بعد الحرب؟ ومن يملك شرعية التعمير وحقّ رسم الغد؟
في الضفة الغربية، يطلّ السؤال ذاته بوجهٍ مختلف. مقالات الرأي في الصحف الإسرائيلية تتحدث عن "الضمّ الفوري” بذريعة الأمن، بينما تضغط واشنطن لتأجيل القرار خشية انفجار سياسي جديد. هذا التناقض يكشف مأزق إسرائيل الحقيقي: فهي لم تعد تعرف أيّ حربٍ تريد ولا أيّ سلامٍ يمكنها تحمّله. اليمين يريد الأرض بلا سكان، والجيش يريد الهدوء بأي ثمن، والمجتمع بات يعيش على حافة الانقسام بين الرغبة في البقاء والخوف من الانفجار الداخلي.
كل ذلك يجعل الهدنة تبدو كجسرٍ هشّ بين حربٍ لم تنتهِ وسلامٍ لم يولد بعد. والذين يظنون أن زمن الرصاص قد انتهى، ينسون أن المعركة الكبرى بدأت الآن: معركة النفوذ. من يدير غزة؟ من يعيد إعمارها؟ من يكتب شروطها؟ ومن يملك حقّ الكلام باسمها؟ هذه الأسئلة تتجاوز حدود المقاومة والسياسة، لأنها ببساطة تُعيد رسم الشرق الأوسط على قاعدة جديدة: لا أحد يُعفى من الحساب، ولا دولة تستطيع أن تبقى خارج المعادلة.
لقد تحوّلت الهدنة إلى اختبارٍ أخلاقي بقدر ما هي اختبار سياسي. السعودية والإمارات لا تدافعان فقط عن مصالحهما، بل عن مفهوم الدولة في وجه منطق الفوضى. وقطر التي تجد نفسها في موقع التبرير المستمر، تواجه اليوم جبهةً جديدة من التشكيك بدورها، بعدما تداخلت حدود الوساطة بالمكاسب الإعلامية والسياسية. أما واشنطن، فتقف بين رغبتها في تثبيت الهدوء وصراعها مع واقعٍ لا يخضع لمنطق الوعود.
إنّ ما يجري الآن ليس سوى فصلٍ جديد من حربٍ طويلة غيّرت وجوهها، لكنها لم تُبدّل جوهرها. فالقنابل سكتت، لكنّ الصفقات لم تسكت، والدمار توقّف عن التمدد، لكنّ الشروط بدأت تتكاثر. وفي خضمّ هذا كله، تحاول غزة أن تبقى على قيد الحياة، فيما يحاول العالم أن يقنع نفسه بأن "الهدنة” كلمة كافية لطمس الحقيقة.
لكن الحقيقة لا تُمحى بالتصريحات، ولا تُزيَّف بالمؤتمرات؛ فالحرب لم تنتهِ، بل غيّرت أدواتها وارتدت بدلة جديدة، اسمها إدارة ما بعد النار… حيث تُكتب المعادلات بالمال بدل السلاح، وتُدار الخرائط من غرف السياسة لا من الميدان.








