2025-12-15 - الإثنين
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

الإضراب الإسباني.. دروس في الوعي والنضال المدني

الإضراب الإسباني.. دروس في الوعي والنضال المدني
جو 24 :


كتب اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني - 

ما تشهده إسبانيا اليوم من حراكٍ نقابي وطلابي واسع ليس مجرد احتجاج عابر ضد جرائم الإبادة التي تمارسها دولة الكيان الصهيوني في غزة، بل هو درسٌ حيّ في كيف يمكن لقوى المجتمع المدني أن تتحول إلى ضميرٍ جمعي يوجّه السياسات ويعيد تعريف دور النقابات في زمن العجز الدولي.

ففي الوقت الذي تكتفي فيه الحكومات الأوروبية ببياناتٍ إنشائية، خرجت النقابات العمالية والطلابية في إسبانيا لتقول إن وقف إطلاق النار لا يعني انتهاء الإبادة، وأن التضامن الحقيقي لا يُقاس بالشعارات، بل بالفعل الميداني والضغط الشعبي لتغيير المواقف والسياسات.

لقد قدّم الحراك الإسباني دروسًا عميقة في تحويل الأخلاق إلى فعل سياسي، حيث استعاد النقابيون روح المقاطعة الدولية التي أسقطت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ووجّهوا بوصلتهم نحو العدالة لا المصلحة. ففي مطالبهم بقطع العلاقات السياسية والتجارية والعسكرية مع دولة الكيان، وتوجيه الإنفاق نحو التعليم والصحة، أعادوا الاعتبار لمفهوم "لنقابة الواعية" التي لا تكتفي بالدفاع عن أجور العمال وتحسين ظروف عملهم، بل تناضل من أجل كرامة الإنسان في كل مكان.

كما عكس هذا الموقف الإسباني وعيًا متقدمًا بدور النقابات في العمل العام، إذ أثبتت أنها ليست مؤسسات مطلبية فحسب، بل فاعل سياسي واجتماعي قادر على قيادة الرأي العام والتأثير في القرار الوطني. فقد كسرت النقابات الصورة النمطية التي تحصر العمل السياسي في الأحزاب، وأكدت أن القضايا العادلة — وفي مقدمتها القضية الفلسطينية — هي مسؤولية كل ضمير حرّ، وليست حكرًا على السياسيين أو أصحاب القرار.

ولعلّ من أبرز ما يميز التجربة الإسبانية هو الموقف الحضاري والسلمي للشارع الإسباني في تعبيره عن رفضه للإبادة. فالإضرابات والمظاهرات اتسمت بالانضباط، واحترام الممتلكات العامة، وغياب أي مظهر من مظاهر العنف أو الفوضى، في مشهدٍ يعكس عمق الوعي الجمعي ونضج الحركة النقابية. وقد قدّمت هذه المسيرات درسًا في أن الاحتجاج السلمي المنظم أقوى من الصدام، وأكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي.

وفي المقابل، أظهرت السلطات الإسبانية نضجًا سياسيًا وحكمة ديمقراطية نادرة حين تعاملت مع هذه الموجة الواسعة من الاحتجاجات باحترام ومسؤولية، فامتنعت عن استخدام القوة أو التضييق على المحتجين، واختارت الحوار بدل القمع، لتُظهر أن الدولة الديمقراطية لا تخاف من صوت مواطنيها، بل تصغي إليه. وهو موقف يندر أن نراه حتى في كثير من الدول المتقدمة، فضلًا عن بلدان العالم الثالث التي غالبًا ما تواجه الاحتجاجات بالعنف والاعتقال. وهكذا، قدّمت إسبانيا نموذجًا مزدوجًا: شعبٌ يعبّر بوعي، وسلطةٌ تصغي بحكمة.

ولا يمكن قراءة هذا الحراك الإسباني بمعزل عن ما يحدث في دول أوروبية أخرى كإيطاليا، حيث تشهد المدن الكبرى هناك مظاهرات واحتجاجات متزايدة ضد جرائم الاحتلال. فالواقع أن الأحداث الأخيرة توحي بأن شيئًا ما قد تغيّر بعمق في الوعي الغربي؛ إذ إن حجم الدعم الشعبي والنقابي المتنامي في إسبانيا وإيطاليا وسواهما يعكس تحولًا تاريخيًا في نظرة الشعوب الأوروبية إلى الدولة الصهيونية. فالدولة التي طالما احتمت بالغطاء الأخلاقي والإعلامي الغربي، خسرت هذا الغطاء بعد "طوفان الأقصى"، حين انكشف زيف الرواية الصهيونية أمام مشاهد الإبادة الجماعية ومعاناة المدنيين في غزة.

هذا التحول الشعبي العميق يعني أن الغرب بدأ يرى دولة الكيان على حقيقتها كما هي: قوة احتلال مجرمة لا ضحية، وهو تحول سيترك أثرًا طويل المدى على مواقف الأحزاب والشباب والحكومات الأوروبية في المستقبل، بعدما بات الشارع الغربي أكثر وعيًا وإنصافًا للقضية الفلسطينية.

وفي العالم العربي، تُقدّم التجربة الإسبانية مرآةً مؤلمة وفرصةً ملهمة في آنٍ معًا. فهي تذكّر النقابات العربية بأن دورها لا يجب أن يُختزل في تحسين شروط العمل أو التفاوض على الرواتب، بل أن تتقدم الصفوف دفاعًا عن القضايا الوطنية والإنسانية العادلة، وفي مقدمتها فلسطين. فحين تتحرّك النقابات من موقع المبدأ لا المصلحة، يمكنها أن تُعيد ثقة الشعوب بدورها التاريخي، وأن تُثبت أن العمل النقابي ليس نقيضًا للسياسة، بل أحد أنبل أشكالها.

 

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير