العرب بلا عنوان.. المأساة باختصار
من الخطأ الافتراض أن الوضع المأساوي الذي يعيشه العالم العربي الآن قد جاء بشكل مفاجىء أو نتيجة لأسباب تعود الى الوضع الذي مرت به المنطقة مؤخرا، بل هو محصلة مسلسل طويل وتراكمي من الانتهاكات للثوابت العربية وعلى مدى اكثر من ستة عقود أدت بنا الى ما نحن فيه الآن من مآسي وكوارث.
الأحداث المتلاحقة والتطورات السلبية مؤخراً فرضت على المواطن العربي مسارات ليست من صنعه أو اختياره ووضعته بالتالي أمام مجموعة من الخيارات التي لا تعكس بالضرورة مصالحه سواء جزئياً أو كلياً. واختلاط الأمور هذا أدى الى أن تفقد البوصلة السياسية قدرتها على تحديد الاتجاه الصحيح، وهكذا تختفي الخسائر الحقيقية والكبيرة للعرب بين أكوام من التفاصيل الصغيرة التي لا تعكس أي قيمة وطنية أو قومية أو استراتيجيه.
انهيار منظومة الثوابت العربية الرئيسية تم على أيدي حكام وقيادات فاقدة للاحساس بالمسوؤلية الوطنية والوازع الأخلاقي ولا يهمها سوى مصالحها الأنانية وديمومة تلك المصالح. وانتهاك هذه الثوابت هو بمثابة تدمير للأسس التي تحمي الأمة ومستقبلها ومصالحها. ومن المؤسف أن معظم هذه الثوابت قد تم انتهاكها بالحد الأدنى من الاعتراض الشعبي. وقد يعود ذلك الى جهل أو عدم دراية بما يجري، أو لكون تلك الانتهاكات قد جاءت مغلفة بعناوين أو شعارات لا توحي بحقيقة المضمون وماهيته.
ولا بدّ من الاعتراف هنا أن غياب الديمقراطية وتمادي الانظمة العربية الحاكمة في استبدادها واستعبادها لشعوبها قد جعل من انتهاك ثوابت الأمه أمرا ممكنا اذا ما توفرت النية لدى تلك الأنظمة لفعل ذلك.
أول وأهم الثوابت التي تم انتهاكها هي مركزية قضية فلسطين وحقوق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه ووطنه. وقد تم هذا الانتهاك ابتداءً بأيدٍ عربية من خلال معاهدة السلام في كامب ديفيد التي أدت الى خروج مصر من معادلة الصراع. وقد أعقب ذلك توقيع اتفاقية أوسلو بين نظام الحكم الفلسطيني بقيادة ياسر عرفات واسرائيل. وقد أدت هذه الاتفاقية الى بدء مسلسل التنازلات الفلسطينية الاستراتيجية والعلنية مقابل تنازلات اسرائيلية شكلية. وفتحت هذه التنازلات المجال أمام دول عربية أخرى مثل الأردن لتوقيع معاهدة سلام منفردة مع اسرائيل، وأمام دول عربيه أخرى مثل بعض دول الخليج العربي والمغرب العربي لاقامة علاقات شبه دبلوماسيه صامتة مع اسرائيل، وكذلك تبادل الزيارات بين المسؤولين في تلك الدول، والتعاون في مجالات استخبارية وأمنية مع اسرائيل، وكل ذلك مجاناً ودون أي تنازل من اسرائيل.
الثابت الثاني الذي تم انتهاكه هو وحدانية الهوية العربيه كتعبير سياسي جامع لشعوب الأمة العربية. وخلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين لم يتجرأ أي حاكم أو مسؤول عربي على التنصل علناً من عروبته و إنتماءه القومي سواء كنظام حكم أوكشعب أو كدولة، الى أن تمت الدعوة الفاشلة لانشاء الحلف الاسلامي في منتصف ستينات القرن الماضي وما تبعها من الاعلان عن إنشاء مجلس التعاون الخليجي في 25 ايار1981 الذي شكل الخطوة الأولى في اتجاه التغاضي عن الهوية العربية و تقديم هوية سياسية جديده للدول المنتمية الى ذلك المجلس وشعوبها وهي بالتحديد الهويه الخليجية.
من جهته حاول أنور السادات طرح الهوية الفرعونية لمصر عقب اتفاقات كامب ديفيد الا أن تلك المحاولة فشلت لعدم وجود أرضية واقعية لها أو قبول شعبي بها. ولكن تبقى المحاولة الخليجية هي الأخطر حيث وفرت نوعاً من الشرعية وقدمت السابقة لمحاولات مماثله للانقضاض لاحقاً على الهوية العربية أو السماح بتفكيكها الى هويات فرعية أو مذهبية. وما نشاهده الآن من هجمة شرسة على الهوية العربية ومحاولة استبدالها بهويات مذهبية وطائفية انما هي نتيجة حتمية للمحاولات المستمرة لاضعاف الهوية العربية.
إن استبدال الهوية العربية بالهوية المذهبية كأساس للانتماء السياسي سيؤدي بالنتيجة الى تقسيم الدول العربية وإعادة تشكيلها الى كيانات هزيلة طائفية أو مذهبية تتبع قيادات دينية في دول أخرى قد لا تكون عربية.
الثابت الثالث الذي تم انتهاكه هو الالتزام بحل المشاكل والخلافات العربية بالوسائل السلمية وبأيدي عربية وضمن مؤسسات النظام العربي وأهمها الجامعة العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك. وقد نجح هذا المبدأ بشكل واضح في البداية عندما تم استعمال المظلة العربية لوقف الحرب المحتملة بين العراق والكويت في عهد الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم عام 1961. وفي المقابل فإن هذا المبدأ قد سقط في عدة اختبارات كان من أهمها الصراع المصري-السعودي في اليمن والنزاع المغربي-الجزائري حول الصحراء.
الثابت الرابع الذي انتُهِكَ بوحشية كان مبدأ عدم جواز احتلال أي أرض عربية بالقوة من قبل أي دولة عربية أخرى. وأكبر مثالين على ذلك كانا احتلال سوريا لدولة لبنان، والذي ابتدأ كقوات حفظ سلام عربية بغطاء عربي لينتهي كاحتلال سوري فعلي ومباشر للدولة اللبنانية.
والمثال الثاني بالطبع هو احتلال العراق لدولة الكويت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين. وفي كلتا الحالتين أدى ذلك الاحتلال الى تولد حالة واضحة من الاستقطاب في العالم العربي، وأدى الى تحول الاهتمام الشعبي العربي في إتجاه معالجة ذيول تلك الاحتلالات عوضاً عن التركيز على الأخطار القادمه من الخارج مما أفسح المجال لقوى غير عربيه للتسلل الى داخل العالم العربي وبدء مرحلة إعادة تشكيله.
أما الثابت الخامس والقاضي بعدم المشاركة أو التعاون مع اي قوة غير عربية تقوم بالاعتداء العسكري على دولة عربية، فقد تم انتهاكه أكثر من مرة. والانتهاك تم مباشرة و بشكل علني من خلال المساهمة العربية في الاعتداء الأول على العراق عام 1990 انطلاقاً من "حفر الباطن" في السعودية وبمشاركة عربية واضحة. وقد تبع ذلك الحرب الثانية على العراق بمشاركة عربية عام 2003 حيث تم احتلال هذا البلد العربي وتدميره وتفكيك مؤسساته وتقسيمه على أسس مذهبية وعرقية.
ولم تقف الأمور عند حدود التدخل العسكري المباشر من قبل دول عربية ضد أخرى، بل امتدت للمساهمة بشكل غير مباشر وغير معلن من قبل بعض الدول العربية في تسهيل عمليات تجسس دول غير عربية على دول عربية أخرى، أو تسهيل العدوان على منشآت عربية استراتيجية مثل التسهيلات التي أعطيت من قبل بعض الدول العربية للطائرات الاسرائيلية للقيام بعملية قصف المفاعل النووي العراقي. هذه الانتهاكات المتكررة أدت إلى إسقاط قدسية وأولوية الانتماء العربي وفتحت الباب على مصراعيه أمام التدخل الأجنبي العسكري المباشر في العالم العربي مما رفع هالة القبح عن الاحتلال الاسرائيلي وجعله واقعاً منسجماً مع تطور الأمور في العالم العربي.
كما أدت هذه الانتهاكات بالنتيجة الى خلخلة النظام العربي وتفكيكه تدريجياً، خصوصاً وأنها ترافقت مع تسلم أنظمة دكتاتورية فاسدة لمقاليد الحكم في معظم الدول العربية مما أدخلها في حلقة مستعصية من التخلف والانحطاط وعزز عوامل التجزئة والتخلف فيها، الأمر الذي سهل على قوى إقليميه ودوليه الانقضاض على أشلاء العالم العربي والتلاعب بثوابته والامعان في تمزيقه ونهب ثرواته.
هذا عن الواقع الذي نعيش بدون مواربة. فكيف يمكن أن ننطلق من الواقع الحالي الى مستقبل أفضل؟
إن المضمون الرومانسي للقومية العربية الذي ميز حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والمد الناصري الذي رافقها شَكلا خطرﴽ على العديد من الأنظمة العربية الحاكمة في ذلك الحين الى الحد الذي أدى بها الى اعتبار العروبه والمد القومي و الوحده العربية المنشودة أخطاراً يتوجب عليها مقاومتها بإعتبارها تهديداً لوجودها.
وقد لجأ العديد من تلك الدول مثل السعوديه والأردن الى الاستعانة بالاسلاميين وحركة الاخوان المسلمين لمقاومة التيار القومي باعتبار الأيديولوجيه الاسلامية النقيض للفكر القومي العربي. وقد قامت تلك الحركات الاسلامية بالتصدي فعلاً للتحركات الجماهيرية المطالبه بدولة الوحدة.
إن إعادة تعريف الثوابت والمصالح المشتركة بين العرب والانتقال بها من المضمون الرومانسي الذي ساد في منتصف القرن الماضي الى المضمون العملي والمصلحي هو نقطة البداية الصحيحة لاعادة بناء النظام العربي. وهذا المطلب لا يهدف الى المساس بالرابطة القومية أو إلى اضعافها بقدر ما يهدف الى تقويتها من خلال تبيان أهمية هذه الرابطة كونها تعبر عن المصالح المشتركة بالنسبة للجميع وأنها بالتالي لا تشكل خطراً على أي نظام لأنها انطلاقاً من هذا المفهوم تصبح تكاملية وليس إحلالية.
وما كان مطروحاً في حقبة الخمسينات يجب أن يُعاد النظر به بحيث لا يعني تأكيد الرابطة القومية رفضاً للدولة القطرية ولا يعني تحقيق الأمل الوحدوي إلغاء الواقع القطري ومكاسبه.
واقع الأمور والتطورات الدولية أكدت للعرب والدول العربية أن التعامل مع المنطقة لا يتم من خلال الدولة العربية القطرية بمعزل عن عمقها العربي بل ان الاستهداف والخطر هو على المنظومة العربية بشكل عام؛ فدول الخليج مثلاً تعلم الان جيداً أن الاحتماء خلف أسوار مجلس التعاون الخليجي والهوية الخليجية لن ينفع لأن الأخطار المحدقة ببعضها -خصوصاً السعوديه والكويت والبحرين- تأتي من خارج المنطقة العربية، وأن عمقها الاستراتيجي الحقيقي الحامي لها هو في المنظومة العربية. كما أن خطر الانشقاق المذهبي بين سنة وشيعة هو في طريقه لاستبدال الهوية العربية أو حتى الخليجية لتلك الأقطار بهوية مذهبية. وهذا من شأنه -إن حصل- أن يشق السعودية ويشتت بعض دول الخليج مثل الكويت والبحرين٬ ويضعها جميعاً تحت خطر التقسيم أوالهيمنة الايرانية.
الصراع على العالم العربي حالياً يأخذ أشكالأ مختلفة ويعبر عن نفسه بطرق متعددة، ولكن المحصلة النهائية ليست في صالح العالم العربي خصوصاً أن السياسات العربية ليست أفعالاً بل هي ردود فعل لأفعال الاخرين.
لقد فشل العرب حتى الآن في ارغام الاخرين على تبني سياسات تنسجم مع المصالح القطرية للدول العربية ناهيك عن المصلحة القومية. والسبب الأساس في ذلك يعود الى العرب أنفسهم، والى أنانية حكامهم التي ضحت بالمصالح الوطنية والقومية من أجل مصلحة هذا النظام أو ذاك. وعلى أي حال، فإن انتهاك الثوابت التي شكلَتْ أساس النظام العربي وحَمَتْه لعقود قد أدى بالنتيجة الى خلخلة ذلك النظام واضعافه الى حد الانهيار. نحن نشهد الآن تواصل انهيار النظام العربي دولة اثر دولة، الى الحد الذي قد يصبح فيه العرب بلا عنوان، ومجرد كمٍ بَشَرِي يعيش على أراضٍ مُبَعْثَره حُكْمُها لمن غَلَبْ.