الوعي الموجَّه: الدولة الوطنية في زمن السيطرة الناعمة
د. عبدالله حسين العزام
جو 24 :
تُعدّ إدارة الدولة الوطنية في العالم المعاصر عبر السياسات النفسية من أكثر الأساليب الحديثة إثارة للجدل في علم السياسة والحكومات والإدارة العامة؛ فمع تطور أدوات التأثير السلوكي وتنامي المعرفة بآليات الإدراك الجمعي، باتت بعض الحكومات تميل إلى توظيف علم النفس في رسم سياساتها العامة، ليس فقط لتنظيم العلاقات الاجتماعية أو تحسين الأداء المؤسسي، بل لتوجيه وعي المواطنين وسلوكهم بطرق شتى وغير مباشرة.
باختصار يقوم هذا التوجه على فرضية أن الإنسان يتأثر بالرموز والانفعالات والدوافع اللاواعية أكثر مما يتأثر بالحجج المنطقية أو الخطاب العقلاني، ومن هنا نشأت فكرة التحكم بالإدراك الجماعي باعتبارها وسيلة لإدارة المجتمعات دون اللجوء إلى الإكراه أو القسر المباشر!.
وبالرغم ما قد تحققه هذه السياسات من كفاءة في إدارة الأزمات والتحديات الداخلية أو ضبط الرأي العام بشكل مرحلي، إلا أنها تنطوي على مخاطر جوهرية تمس جوهر الدولة الوطنية ومفهوم المواطنة الواعية، فعندما تتحول الدولة إلى فاعل يستخدم الأدوات النفسية للتأثير الخفي في سلوك الناس، فإنها تتجاوز الحدود الأخلاقية للسلطة العامة وتدخل في فضاء الهيمنة الإدراكية، حيث لا يُقنع المواطن بالعقل والحجة، بل يُقاد عبر الانفعال والتأطير العاطفي؛ ومع التراكم الزمني، يؤدي هذا النمط إلى إضعاف الوعي النقدي لدى الأفراد وتحويلهم إلى جمهور سلبي يكتفي بتلقي الرسائل الرسمية دون مساءلة أو تفكير، وهنا تفقد العملية السياسية معناها الحقيقي، لأنها لا تقوم على القناعة الحرة بل على الاستجابة النفسية المصممة سلفاً.
تتجلى خطورة السياسات النفسية في الدولة الوطنية بشكل أكبر عندما يكون الوعي الجمعي في حالة يقظة وتحفز؛ فالمجتمعات التي تمتلك درجة عالية من الوعي السياسي والثقافي والإجتماعي سرعان ما تكتشف هذا النمط من الإدارة الخفية، ما يؤدي إلى نتائج عكسية خطيرة، فبدلاً من تعزيز الثقة بالمؤسسات، يتولد شعور عام بالريبة والخذلان، إذ يشعر المواطنون بأن دولتهم لا تخاطبهم بصراحة بل تتلاعب بإدراكهم؛ هذه الصدمة الإدراكية قد تفضي إلى انهيار الثقة بالواقع السياسي وتنامي النزعات والحركات الاحتجاجية، لأن المواطن الواعي لا يقبل أن يُعامل ككائن يمكن توجيه مشاعره أو هندسة مواقفه عبر أدوات نفسية، وفي مثل هذه الحالات، يصبح المجتمع أكثر ميلاً للشك، وتتحول العلاقة بين الدولة ومواطنيها إلى علاقة دفاع وتوجس، وهو ما يضعف التماسك الوطني ويفتح الباب أمام الانقسامات والتأويلات الحادة.
إضافة إلى ذلك، فإن اعتماد الدولة على الأساليب النفسية في إدارة المجال العام يحولها تدريجياً إلى سلطة أبوية متحكمة، تتدخل في تشكيل الرأي والسلوك حتى في المسائل التي يجب أن تبقى مجالاً للحرية الفردية والشخصية أو الإجتماعية، ومع مرور الوقت، يُعاد تشكيل المجال العام على أساس من الانفعال لا الحوار، وتصبح المؤسسات السياسية مجرد أدوات للتأثير الوجداني بدلاً من كونها ساحات للنقاش العقلاني. هذا النمط من الإدارة يهدد مبدأ المواطنة، إذ يُستبدل وعي المشاركة بالولاء الانفعالي، ويُختزل الانتماء الوطني في رموز عاطفية دون مضمون سياسي حقيقي.
علاوة على ذلك تطرح هذه الممارسات سؤالاً جوهرياً على الصعيد الأخلاقي حول حدود السلطة في التأثير على وعي الناس؟ فالدولة التي تستخدم أدوات علم النفس لتوجيه مواطنيها دون علمهم تمارس شكلاً من أشكال التلاعب بالعقل الجمعي، وهو ما يناقض مبادئ الشفافية والمسؤولية الأخلاقية التي يفترض أن تقوم عليها الدولة الحديثة. أما في المجتمعات التي تجاوزت مرحلة الهيمنة العاطفية إلى مرحلة الوعي النقدي، فإن مثل هذه السياسات تتحول إلى عبء ثقيل، لأنها تُفسر باعتبارها محاولة للسيطرة على الفكر لا لتطويره، وتُفقد الحكومة احترامها الأخلاقي أمام جمهورها الواعي.
بالإضافة إلى ذلك فقد عرفت العديد من الدول الوطنية عبر التاريخ أنماطاً متنوعة من السياسات النفسية في إدارة المجتمع والدولة، فعلى سبيل المثال لا الحصر في ألمانيا النازية استخدم "جوزيف غوبلز وزير الدعاية السياسية في حكومة هتلر" أدوات علم النفس الجماعي لإنتاج وعي جمعي قائم على الخوف والانفعال القومي، ما أدى إلى تعطيل التفكير النقدي وتحويل الجماهير إلى كتلة منقادة؛ وفي الاتحاد السوفييتي في عهد "ستالين"، مورست الدعاية النفسية على نطاق واسع لبناء صورة القائد الأبدي والحكيم وربط الولاء الوطني بالخوف من العدو الداخلي، وهو ما خلق مجتمعاً خاضعاً للمراقبة الذاتية؛ أما في الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، فقد استخدمت الحكومة أدوات "العمليات النفسية" لبناء خوف جماعي من "الشيوعية"، ولتوجيه الرأي العام نحو دعم السياسات الدفاعية تحت شعار حماية الحرية؛ وفي الصين الماوية المنبثقة من تعاليم ماو تسي تونغ، تم تطبيق مفهوم "إعادة تشكيل الوعي" عبر الثقافة الجماهيرية، لتنشئة المواطن المطيع أيديولوجياً، وهي فكرة استمرت اليوم في صورة أكثر نعومة ضمن نظام "الائتمان الاجتماعي" وهو نظام بيانات ضخم لمراقبة وتشكيل سلوك الشركات والمواطنين في الصين، كما عرفت الأنظمة القومية العربية في الخمسينيات والستينيات شكلاً من السياسات النفسية التعبوية، إذ اعتمد الخطاب الوطني على إثارة الانفعال الجماهيري وربط الولاء السياسي بشخصية الزعيم أكثر من المؤسسات، كما حدث في التجربة "الناصرية" التي استخدمت الخطابة الرمزية والموسيقى الوطنية لتوحيد الوعي العربي، لكنها أضعفت المؤسسات بعد غياب الزعيم.
وفي العصر الحديث، تستمر أشكال أكثر تطوراً من السياسات النفسية في الدول الديمقراطية من خلال ما يُعرف بـ "الهندسة السلوكية"، وهي استخدام الأدوات النفسية لتوجيه السلوك العام دون فرض إلزام قانوني، كما حدث خلال "جائحة كورونا عام 2020" حين استخدمت الحكومات الرسائل النفسية لحث المواطنين على الالتزام بالتعليمات الصحية. ومع ذلك، أثارت هذه السياسات جدلاً واسعاً حول مدى مشروعية التأثير في السلوك الجمعي دون وعي الأفراد الكامل به.
إن جميع هذه التجارب التاريخية تكشف أن إدارة الدولة عبر السياسات النفسية قد تبدو أداة فعالة على المدى القصير، لكنها تزرع بذور أزمة صامتة طويلة الأمد في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فحين يُدار المواطن بالانفعال بدلاً من الحوار، وحين يُخاطَب وعيه بالعاطفة بدلاً من العقل، تفقد الدولة قدرتها على بناء عقد اجتماعي حقيقي يقوم على الثقة والاحترام المتبادل، إن الدولة الوطنية التي تحترم وعي مواطنيها تبني شرعيتها على الحقيقة لا على التلاعب بالعقل، وعلى المشاركة الواعية لا على الانفعال الجمعي. لذلك تبقى المسؤولية الأخلاقية والسياسية تقتضي استخدام علم النفس لخدمة الاستقرار والوعي، لا للتحكم بالوعي ذاته.
خلاصة القول عندما تتحول السياسات النفسية من وسيلة لخدمة الاستقرار إلى أداة للهيمنة أو السيطرة وفقاً لمصالح أصحاب القوة في المجتمع على حساب مصالح الغالبية العظمى، تفقد الدولة توازنها الأخلاقي والإجتماعي والسياسي؛ وفي حالات الوعي الجمعي أو الوعي الجماهيري المتقدم، كما في المجتمعات الحديثة، ينقلب هذا الأسلوب على الدولة نفسها، لأن المواطن الواعي يرفض أن يُدار بوسائل التلاعب النفسي، فيتحول الإقناع إلى شك، والثقة إلى رفض ضمني أو تحفّظ صامت!. بما يعني أن استمرارية هذه الديناميكية يحدّ من قدرة الدولة على بناء مجتمع متماسك ومستقر سياسياً واجتماعياً، ويجعل أي رسائل إعلامية أو سياسات حكومية عرضة للريبة والتشكيك المستمر، الأمر الذي يحد من قدرتها على التأثير المنشود!.








