حين تبتعد عن الدنيا… تقترب منك
جو 24 :
كتب وسام السعيد- كلما اقتربتَ من الدنيا أكثر، ابتعدتَ عنك.
وكلما ترفّعت عنها، اقتربت هي بخضوعٍ غريب، كأنها تعلم أن من لم يُفتن بها… يستحقها. ا
لحياة — في حقيقتها — ليست عدوًّا ولا حبيبة، بل اختبار صامت بين من يملكها ومن تملكه.
لا تُغوى بالمطاردة، تكره من يركض وراءها لهاثًا، وتنجذب لمن يسير بثقة وكرامة، يعلم أن قيمته لا تُقاس بما يملك، بل بما يترك في قلبه من يقين.
وقد لخّص رسول الله ﷺ هذا السرّ العظيم في قوله:
"من كانت الدنيا همَّه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيّته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.”
أيّ عمقٍ في هذا الحديث!
إنه لا يطلب منك أن تترك الدنيا، بل أن تضعها في مكانها الصحيح:
في يدك لا في قلبك.
أن تسعى، نعم، لكن لا تتعلّق. أن تعمل، لكن لا تُؤلّه ما تعمل من أجله.
الدنيا تُفرّق شمل من يعبدها، وتُوحّد قلب من زهد فيها. هي كالسراب؛ يلهث خلفه من عطش، فإذا وصل، لم يجد سوى الرمل والخيبة. أما من شرب من نبع الإيمان، فلا يُرهقه سراب، لأن قلبه ممتلئ بما لا تشتريه الأرض.
وفي حديثٍ آخر يرسم لنا النبي ﷺ لوحةَ الحياة بأجمل تشبيه:
"ما لي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكبٍ سار في يومٍ صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعةً من نهار، ثم راح وتركها.”
كم من الناس اليوم بنى قصوره تحت تلك الشجرة المؤقتة، نسي أنها ظلّ عابر، وأن الطريق أطول من الراحة، وأن الغاية أبعد من الغصن. ا
لزهد الحقيقي ليس أن ترفض زينة الحياة، بل أن تعرف حدودها، أن تستخدمها دون أن تُستَخدَم بها، أن تمتلكها دون أن تمتلكك.
الحياة لا تحب من يطاردها، بل تحترم من يفهمها.
هي تأتي في اللحظة التي تكفّ فيها عن استجدائها، وتُعطيك حين تؤمن أن العطاء بيد الله لا بيدها.
فامشِ فيها بثقة الزارع لا بخوف الصياد، ازرع عملك، واترك الثمار على الله.
فما كُتب لك سيأتيك، ولو تأخّر، وما لم يُكتب لن تراه، ولو سافرت خلفه عمرًا.
في النهاية، ليست الدنيا هي التي تبتعد عنك…
بل أنت الذي تختار: هل تكون عبدها؟ أم سيّدها؟
فالذين أحبّوا الله أكثر من حبهم للدنيا، أحبتهم الدنيا رغمًا عنها.








