المسلمون في أمريكا… من الهامش إلى مركز القرار
جو 24 :
إعداد وتحليل: زياد فرحان المجالي
في عالمٍ تتبدّل فيه الصور أكثر مما تتبدّل الحقائق، يطلّ من بين الزحام وجهٌ جديد يحمل ملامح مختلفة عن المشهد الأميركي التقليدي: وجه امرأةٍ مسلمةٍ تدخل التاريخ من بوابة الحكم.
هي لحظة تتجاوز فوزاً انتخابياً عادياً، لتصبح مرآةً لتغيّرٍ عميق في وجدان المجتمع الأميركي — مجتمعٍ بدأ يتصالح مع تنوّعه ويمنح أبناءه، مهما اختلفت أديانهم وأصولهم، فرصة الوقوف على منصّات القرار لا على هامش المشهد.
من نيويورك التي فتحت الباب، إلى فرجينيا التي وسّعت الدائرة، يكتب المسلمون فصلًا جديدًا في علاقة الهويّة بالدولة، عنوانه: الانتماء لا يتعارض مع الإيمان، والمواطنة لا تلغي الخصوصية.
من الرمزية إلى الفاعلية
حين فازت غزالة هاشمي بمنصب نائبة حاكم ولاية فرجينيا في انتخابات نوفمبر 2025، لم يكن المشهد مجرد عبور سياسي فردي، بل إشارة إلى تحوّل أعمق في المزاج الأميركي.
فبعد عقودٍ من التمثيل الرمزي للمسلمين في المجالس المحلية، دخلت الجالية مرحلة الفاعلية التنفيذية، حيث بدأت تتولى مواقع تؤثر فعليًا في السياسات العامة لا في الخطاب فقط.
هذا التحوّل لم يأتِ صدفة، بل هو ثمرةُ تراكمٍ اجتماعي بدأ منذ مطلع الألفية، حين وُلد جيلٌ جديد من الأميركيين المسلمين تربّى على قيم الانفتاح والمواطنة، لكنه لم يتخلَّ عن هويته الدينية والثقافية. ذلك الجيل لم يعد يكتفي بالتصفيق من بعيد، بل بات يشارك في صناعة القرار، ويقدّم نموذجاً حديثاً للمسلم المنخرط في مؤسسات الدولة بلا عقدة ولا خوف.
من نيويورك إلى فرجينيا… دلالات عميقة
إن صعود هاشمي في فرجينيا، وهي ولاية ذات طابع محافظ، بعد تجربة سابقة في نيويورك ذات الطابع الليبرالي، يعكس نضوجاً في النظرة الأميركية للمواطنة. فالمسلم لم يعد يُرى كاستثناء، بل كجزء من المشهد الطبيعي للمجتمع.
أكثر من ذلك، باتت الحملات الانتخابية التي يقودها مرشحون مسلمون تتحدث بلغة البرامج والسياسات، لا بلغة الهوية الدينية. وهذه النقلة الفكرية – من الدفاع عن "الحق في الوجود” إلى "الحق في التمثيل” – هي جوهر التحوّل الذي تشهده الساحة الأميركية اليوم.
قراءة في الموازين الجديدة
تُظهر نتائج الانتخابات أن الجيل الأميركي الشاب – الذي تتراوح أعماره بين 18 و35 عاماً – بات أكثر انفتاحاً على فكرة التنوع الديني والثقافي. هذا الجيل لا يرى في الإسلام تهديداً، بل مكوّناً أصيلاً من فسيفساء بلاده.
البيانات تشير إلى أن نحو 62% من الناخبين الشباب في فرجينيا منحوا أصواتهم لغزالة هاشمي، ما يعكس تحوّلاً ديمقراطياً في عمق الثقافة الانتخابية الأميركية، بينما ساهمت الجاليات العربية والآسيوية في رفع نسب المشاركة المدنية بشكلٍ غير مسبوق.
المسلمون بين القيم الأميركية والإسلامية
اللافت أن الخطاب الذي يقدّمه السياسيون المسلمون في أميركا لم يعد دفاعيًا أو تبريريًا. بل صار خطابًا قيميًا يقوم على التقاطع بين المبادئ الإسلامية والروح الأميركية في العدالة والمساواة والكرامة.
هذا الانسجام بين القيم جعل صورة المسلم تتبدل تدريجيًا من "الآخر المختلف” إلى "المواطن الفاعل”، ومن "الضيف” إلى "الشريك”.
فحين تتحدث نائبة حاكم فرجينيا عن العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة، فإنها تستند إلى جذورٍ أخلاقية تتقاطع مع مبادئ الإسلام في المسؤولية والمساواة، دون أن ترفع شعارات دينية أو تمارس ازدواجية في الانتماء.
واشنطن والعين على المستقبل
في أروقة واشنطن، بدأ المراقبون يرون في هذا الصعود الإسلامي ظاهرة لا يمكن تجاهلها.
الحزب الديمقراطي ينظر إليه بوصفه ثمرةً لسياسة الانفتاح والتمثيل الشامل، فيما يسعى الجمهوريون لإعادة بناء خطابٍ أكثر اعتدالاً تجاه الأقليات الدينية لضمان موطئ قدم في الخارطة الجديدة.
أما مراكز الفكر والدراسات الاستراتيجية، فتصف ما يجري بأنه "مرحلة انتقالية نحو نخبة متعددة الأديان”، وهي ظاهرة ستعيد رسم شكل المؤسسات الأميركية خلال العقد المقبل.
الدلالات الدولية
ما يحدث داخل الولايات المتحدة لا يبقى داخلها. فصورة المرأة المسلمة في موقع نائب الحاكم تُرسل رسائل قوية إلى العالم الإسلامي بأن الغرب لا يرفض الإسلام بالضرورة، بل يفتح الباب للمواطنة حين تكون قائمة على الكفاءة والمشاركة.
كما أن هذا الصعود يضعف كثيراً من الخطابات اليمينية في أوروبا، التي تستخدم الإسلام كورقة تخويف انتخابي، ويعيد تعريف "التنوّع” كقيمةٍ حقيقية لا شعاراً سياسياً
نحو جيلٍ جديد من القيادة
بعد فرجينيا، يُتوقّع أن تشهد ولايات مثل ميشيغان وإلينوي حضوراً أوسع للمسلمين في الانتخابات القادمة.
الجيل الذي نشأ بعد أحداث 11 سبتمبر بات أكثر ثقة بنفسه، وأكثر قدرة على العمل داخل النظام لا من خارجه. هؤلاء الشباب، الذين درسوا في جامعات النخبة، ويعملون في مؤسسات الدولة والإعلام، يفتحون الطريق نحو تمثيلٍ متوازن بين الهوية الدينية والولاء الوطني
إن صعود المسلمين إلى مواقع القرار في الولايات المتحدة هو انعكاس لتحوّلٍ ثقافي عميق يطال بنية المجتمع الأميركي نفسه.
فحين تقف امرأة مسلمة على منصة الحكم في فرجينيا، فإنها لا تمثّل طائفةً بعينها، بل تذكّر الجميع أن المواطنة الحقيقية لا تُقاس بالعرق أو الدين، بل بالكفاءة والعطاء.
وهكذا تتحوّل قصة غزالة هاشمي من عنوانٍ انتخابي إلى فصلٍ جديد في سردية التعدد الأميركي، حيث يصبح الاختلاف مصدر قوّة لا سبباً للانقسام.








