2025-12-16 - الثلاثاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

عمان كانت الخيار الوحيد… فهل الإعفاء الضريبي ضرورة أم اخفاق في ادارة السياسة الضريبية؟

د. واصل المشاقبة
جو 24 :


في دولة تواجه تحديات مالية هيكلية، وسعيا مستمرا لضبط العجز وخفض الدين العام، يصبح اي قرار ضريبي مهما بدا محدودا في حجمه، يبقى جزءا من مشهد اوسع يختبر كفاءة السياسة المالية وعدالتها. من هنا، يكتسب الجدل الذي اثاره الاعفاء الضريبي الممنوح لاحد منظمي الحفلات الفنية في عمان أهمية تتجاوز الحدث نفسه. القضية ليست حفلا ترفيهيا، بل سؤالا جوهريا حول منطق السياسة الضريبية في الاردن: هل تُدار بمنهج اقتصادي مؤسسي يراعي العدالة والكفاءة، ام تتحرك وفق اجتهادات ظرفية واستثناءات سياسية تضعف مصداقية الدولة المالية؟

الاعفاءات الضريبية تستخدم في الدول الحديثة كاداة سياسة عامة لتحقيق اهداف محددة: تحفيز الاستثمار، خلق فرص عمل، دعم الابتكار، او تشجيع الصادرات. لكن حين تتحول الاعفاءات الى استثناءات غير مبررة، فانها تُفقد السياسة الضريبية معناها الاقتصادي وتتحول الى قرار اداري يخلّ بمبدا العدالة الافقية بين المكلفين. في الحالة الاردنبة، يُطرح التساؤل: هل كان الاعفاء ضرورة اقتصادية حقيقية، ام انه مؤشر على ضعف مؤسسي في تقدير الأثر المالي والسياسي لمثل هذه القرارات؟

الضرائب ليست مجرد ادوات تحصيل، بل تعبير عن العلاقة بين الدولة والمكلفين. ضريبة المبيعات تُفرض على النشاط التجاري لقياس مساهمته في الايرادات العامة، فيما تُستوفى رسوم التأشيرات من الأفراد مقابل دخولهم اراضي المملكة الاردنيه الهاشمية. لكل منهما غاية مالية مختلفة، ولا يجوز المقايضة بينهما او استبدال احدهما بالاخر، لأن ذلك يُخلّ بمبدا العدالة الضريبية ويضعف اتساق السياسة المالية.

في حالة الحفل الاخير، تشير التقديرات الى ان حجم الموازنة الاجمالية للحدث الفني بلغ نحو ١٫١ مليون دينار، فيما تراوحت الخسائر الضريبية المقدّرة نتيجة الاعفاءات بين ١٠٥ و١٤٠ الف دينار. ووفق البيانات المتداولة، بلغ عدد الحضور نحو ٦١٥ شخصا، بسعر تذكرة قدره ٥٠٠ دينار، ما يعني ان ضريبة المبيعات المستحقة على التذاكر وحدها (بنسبة ١٦٪) تصل الى نحو ٤٥ الف دينار، في حين قدّر المنظمون قيمتها بنحو ١١ الف دينار فقط. هذا التباين الكبير يعكس غيابا في الشفافية والمنهجية في تقدير الاثر المالي الحقيقي لاي اعفاء ضريبي.

أما رسوم التأشيرات المفروضة على جمهور عرب الـ٤٨، والتي تُقدر بنحو ٢٤ الف دينار (استنادا الى افتراض ان رسم تأشيرة الدخول يبلغ ٤٠ دينارا لحوالي ٦٠٠ زائر)، فقد جرى التعامل معها وكأنها تعويض عن ضريبة المبيعات، وهو منطق مالي غير سليم. فالإيراد السيادي الناتج عن رسوم التأشيرة لا يُغني عن الإيراد الضريبي المرتبط بالنشاط التجاري، كما ان المقايضة بينهما تُضعف الاطار القانوني للنظام الضريبي وتخلق سابقة تمس مبدأ المساواة بين المكلفين

الى جانب ذلك، توجد ضرائب ورسوم اخرى لم تُحتسب ضمن التقديرات الاولية، مثل ضريبة الإعلانات، ورسوم التراخيص، وضريبة الدخل على الارباح، ما يعني ان حجم الايرادات المفقودة يتجاوز الارقام المعلنة. التنازل عن هذه الايرادات لصالح فعالية واحدة يُشكل سابقة غير مبررة من منظور السياسة المالية، ويبعث برسالة خاطئة للأسواق بان الامتيازات يمكن ان تُمنح على اسس ظرفية لا مؤسسية.

فلسفة الاعفاءات التي تُسوَّق عادة تحت عنوان "تشجيع السياحة” لا تبرر التخلي عن موارد مالية سيادية. دعم القطاع السياحي يتطلب حوافز انتاجية دائمة، لا اعفاءات انتقائية ترتبط بحدث مؤقت. وحتى لو اسهمت الفعالية في رفع نسب الاشغال الفندقي او تنشيط قطاعات خدمية محدودة، فان اثرها يبقى محدودا مقارنة بالخسارة الضريبية المباشرة. السياسة الرشيدة تقتضي ان تُحتسب كلفة الاعفاء بدقة وان تُربط بمردود اقتصادي ملموس قابل للقياس، لا بتقديرات عامة او تبريرات سياسية او بيروقراطية لا قيمة لها.

عمان لم تكن خيارا تنافسيا بين عواصم المنطقة. الخيارات الأخرى كانت مغلقة سياسيا او مكلفة لوجستيا، ما جعل عاصمتنا الحبيبة الوجهة الواقعية الوحيدة. وهذا يعزز قدرة الحكومة على فرض التزاماتها الضريبية دون الخشية من فقدان الحدث او الاستثمار الفني. فالمنظم لم يكن امامه سوى عمان، ما يمنح صانع القرار المالي موقعا تفاوضيا اقوى كان يمكن استثماره لتطبيق القانون دون استثناء.

الهدف ليس معاقبة المستثمر او تقليص الربح، بل تحقيق التوازن بين النشاط التجاري وحق الدولة في نصيبها العادل من الايراد. فالعدالة الضريبية لا تُقاس بعدد الدنانير المحصلة فحسب، بل باتساق القواعد على الجميع وبمقدار ما تعكس السياسات التزام الدولة بسيادتها المالية. عندما تُمنح الإعفاءات بهذه الطريقة، تتآكل الثقة بالنظام الضريبي، وتتراجع هيبة السياسة المالية التي يُفترض ان تقوم على الثبات والعدالة لا على الانتقائية والمجاملة.

في جوهر النقاش، لا يتعلق الامر بحفل او اعفاء محدد، بل بنمط تفكير مالي يجب ان يُراجع بعمق. السياسة الضريبية ليست اداة للترويج فقط، بل مرآة لجدية الدولة في ادارة مواردها بعدالة وكفاءة. والمطلوب اليوم ليس مزيدا من التبرير، بل مراجعة مؤسسية تضع حدا للاعفاءات الانتقائية وتعيد الاعتبار لمفهوم الإيراد العام باعتباره مصلحة وطنية لا تقبل التفاوض. فالاعفاء غير المبرر لا يُضعف الخزينة فحسب، بل يُضعف مبدأ المساواة امام القانون، ويخلق تباينا بين من يُحاسب على كل فلس، ومن يُعفى بحجة الاستثناء. هذه ليست سياسة مالية متزنة، بل رسالة سلبية تمس جوهر العقد بين الدولة ومواطنيها.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير