رغم "الضمانات" الملكيّة.. الواقع ينحر إبل "النزاهة"
جو 24 : كتب تامر خرمه
حديث جميل وعبارات منمقّة انبثقت من صفحات وسائل الإعلام الرسمي، التي أبدعت في تغزّلها بميثاق منظومة النزاهة الوطنيّة، وبالوعود الملكيّة المتعلّقة بترجمة هذا الميثاق إلى واقع ملموس، نشهد فيه مكافحة الفساد، حتّى "قبل وقوعه" !
هذه العبارات الجميلة تعيد إلى الأذهان المصطلحات ثقيلة العيار وفنون السجع والطباق والجناس، التي تألّقت جوقة التملّق في استعراضها، خلال تغزّلها بقرار تشكيل لجنة الحوار الوطني، ولجنة تعديل الدستور، وغيرهما من المبادرات الأخرى.
تلك المبادرات الملكيّة، هي ذاتها التي ترجمها جلاوزة النظام السياسي باعتقالات مستمرّة طالت معظم المطالبين بالإصلاح، وصوّرتهم على أنّهم "إرهابيّون" يسعون لـ "تقويض النظام" وزعزعة "الأمن والأمان"، وذلك بالتوازي مع انتشار الحمّى البوليسيّة، التي أسفرت عن هجمة شرسة ضدّ مختلف وسائل الإعلام المستقلّة، حتى أسفرت هذه الهجمة عن حجب أكثر من مائتي موقع إخباري الكتروني، واعتقال زميلين بقرار من محكمة "أمن الدولة"، والضغط على زميل آخر لحمله على اللجوء السياسي من وطنه !!
ليس المقصود بهذه السطور الترويج لمقاربة تتّخذ من "العدميّة" منطلقا لمسارها وتفاصيلها، ولكن الواقع يأبى إلاّ أن يقول كلمته في وجه عشّاق الاستعراض والبروباغاندا التي لا تستهدف إقناع الرأي العام في هذا البلد بقدر ما تستهدف إقناع المانحين بمضي الإدارة السياسيّة في الأردن في تنفيذ البرامج الوهميّة المتصلة بـ "الديمقراطيّة" و"حقوق الإنسان"، لا لشيء.. إلاّ لاجتذاب المزيد من المساعدات الماليّة –التي لا يعلم أيّ كان مصيرها- مقابل تجميل صورة المانح أمام الرأي العام في بلاده، وتصويره على أنّه "المتحضّر" الذي أسهم في إرساء قواعد "الديمقراطيّة"، في الدول "المهدّدة" بعاصفة الربيع العربي.
هذه اللعبة السمجة لا علاقة لها بمجريات الأمور وصيرورة الواقع الأردني بأيّ شكل من الأشكال، كلّ ما في الأمر أن الساسة يعزفون على وتر غريب، بل وشاذّ عن نشيد الفئات الشعبيّة المضطهدة، التي لا ترى في مثل هذه المبادرات، سوى فقاعات إنشائيّة، لا تسمن ولا تغني عن جوع.
وفي نهاية الأمر لا يملك الواقع إلاّ أن يفرض كلمته، على المشهد السياسي، وإن أنكره جهابذة الحكم.
المشهد يرتسم كالآتي:
نشطاء طالبوا بالإصلاح الاقتصادي والسياسي، وآمنوا بأن اجتثاث الفساد يشكّل حجر الرحى للخروج من الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي تعصف بالأردن، ماذا كان مصيرهم ؟!
وسائل إعلام قرّرت الاستقلال عن وجهة النظر الرسميّة وتسليط الضوء على هموم وآمال الناس.. ماذا كانت النتيجة ؟!
نوّاب تمّ جلبهم لتشكيل كتل غير متجانسة، في محاولة لاستيراد النموذج الغربي للمجموعات السياسيّة البرلمانيّة، ولكن بالاستناد إلى عقليّة بوليسيّة وقانون انتخاب من شأنه أن يوصل عشرات المنتفعين إلى صدارة السلطة التشريعيّة، دون إتاحة المجال أمام أي حزب سياسي لتمثيل قواعده الشعبيّة في مجلس يفترض أنّه.. "مجلس الأمّة" !!
مبادرات ولجان عديدة.. تمّ تشكيلها برعاية وضمانة ملكيّة، لم تسفر عن التقدّم ولو قيد أنملة، فيما يتعلّق بما وصف بـ "الثورة البيضاء"، التي اتّضح في نهاية الأمر أنّها ليست سوى رسالة لاسترضاء المانح الغربي، ضمن حملة علاقات عامّة خارجيّة، لا تأخذ الأولويّات الشعبيّة بعين الاعتبار.
ونتيجة لهذا التعامي الرسمي عن تطوّرات الواقع الأردني، والاكتفاء فقط بالنظر إلى أجندة الدول المانحة، لم تسفر كلّ المبادرات الملكيّة عن أيّ تغيير واقعيّ ملموس، بل على العكس من ذلك، فها هو اعتصام عمّال الموانئ الذي تصرّ وسائل الإعلام الرسمي على محاربته –وليس فقط إنكار مطالبه- يعود ليذكّرنا باعتصامهم في العام 2009، الذي قمعته قوّات الدرك دون رحمة، ليشكّل انعطافة بالغة الأهميّة، للحراك العمّالي الذي بادر إليه عمّال المياومة في العام 2006.
وقد يكون من المفيد هنا التذكير بأن هذه الاحتجاجات سبقت اندلاع الربيع العربي، الذي دفع صنّاع القرار الرسمي إلى إطلاق المبادرات وتشكيل اللجان، دون إدراك جوهر المطالب الشعبيّة، التي دفعت الناس إلى النزول للشارع وإعلان مطالبهم، بل ومخاطبة القصر بشكل مباشر، لتحميله مسؤوليّة استشراء الفساد.
واليوم، يعلن الملك ضمانته لميثاق النزاهة، الذي يفترض أنّه يعبّر عن "الإصرار والجديّة بالمضي قدما في عملية الاصلاح، لتطوير العمل المؤسسي والحفاظ على المال العام، وإرساء مبادئ الحوكمة الرشيدة، خاصة ما يتعلّق منها بمكافحة الفساد بكل اشكاله ومحاربته قبل وقوعه".
ولكن.. هل هكذا تورد الإبل ؟
أولاّ لا يمكن لنا الحديث عن وجود سلطات ثلاث، تتمتّع كلّ منها بالاستقلاليّة التامّة، في ظلّ قضاء عسكريّ، وبرلمان لا يتجاوز حقيقة كونه مجرّد ديكور لإقناع العالم بوجود نيّة للاقتراب من "النموذج الديمقراطي"، الذي جعل منه الغرب شرطاً لمنح المزيد من المساعدات الماليّة، والتي تذهب بدورها مع الريح، نتيجة استشراء الفساد.
ثانيا: إنّ محاربة الفساد تستوجب قبل أي شيء آخر (قبل تشكيل اللجان وإطلاق المبادرات) وجود إرادة سياسيّة حقيقيّة لمعالجة هذا الملفّ.. غير أنّ كل ما يبوح به الواقع يثبت غياب مثل هذه الإرادة.
في النهاية، فإن الحديث عن ضمانات ملكيّة سواء فيما يتصل بالمضي في "الثورة البيضاء" أو بمحاربة الفساد، لا يمكن له أن يكون مقنعاً لأي مواطن، قبل الاعتراف بزوال حقبة الدولة الأبويّة، وانتهاء مرحلة الحلول البوليسيّة، وضمان حقّ الحصول على المعلومة، بما يضمن معرفة حتّى نفقات القصر، قبل إطلاق أيّة مبادرة أو تشكيل المزيد من اللجان، التي لم تغادر حبر ورقها إلى أرض الواقع، واكتفت بكونها "إنجازات" تتكدّس في الأوراق المرسلة للمانح الغربي.
حديث جميل وعبارات منمقّة انبثقت من صفحات وسائل الإعلام الرسمي، التي أبدعت في تغزّلها بميثاق منظومة النزاهة الوطنيّة، وبالوعود الملكيّة المتعلّقة بترجمة هذا الميثاق إلى واقع ملموس، نشهد فيه مكافحة الفساد، حتّى "قبل وقوعه" !
هذه العبارات الجميلة تعيد إلى الأذهان المصطلحات ثقيلة العيار وفنون السجع والطباق والجناس، التي تألّقت جوقة التملّق في استعراضها، خلال تغزّلها بقرار تشكيل لجنة الحوار الوطني، ولجنة تعديل الدستور، وغيرهما من المبادرات الأخرى.
تلك المبادرات الملكيّة، هي ذاتها التي ترجمها جلاوزة النظام السياسي باعتقالات مستمرّة طالت معظم المطالبين بالإصلاح، وصوّرتهم على أنّهم "إرهابيّون" يسعون لـ "تقويض النظام" وزعزعة "الأمن والأمان"، وذلك بالتوازي مع انتشار الحمّى البوليسيّة، التي أسفرت عن هجمة شرسة ضدّ مختلف وسائل الإعلام المستقلّة، حتى أسفرت هذه الهجمة عن حجب أكثر من مائتي موقع إخباري الكتروني، واعتقال زميلين بقرار من محكمة "أمن الدولة"، والضغط على زميل آخر لحمله على اللجوء السياسي من وطنه !!
ليس المقصود بهذه السطور الترويج لمقاربة تتّخذ من "العدميّة" منطلقا لمسارها وتفاصيلها، ولكن الواقع يأبى إلاّ أن يقول كلمته في وجه عشّاق الاستعراض والبروباغاندا التي لا تستهدف إقناع الرأي العام في هذا البلد بقدر ما تستهدف إقناع المانحين بمضي الإدارة السياسيّة في الأردن في تنفيذ البرامج الوهميّة المتصلة بـ "الديمقراطيّة" و"حقوق الإنسان"، لا لشيء.. إلاّ لاجتذاب المزيد من المساعدات الماليّة –التي لا يعلم أيّ كان مصيرها- مقابل تجميل صورة المانح أمام الرأي العام في بلاده، وتصويره على أنّه "المتحضّر" الذي أسهم في إرساء قواعد "الديمقراطيّة"، في الدول "المهدّدة" بعاصفة الربيع العربي.
هذه اللعبة السمجة لا علاقة لها بمجريات الأمور وصيرورة الواقع الأردني بأيّ شكل من الأشكال، كلّ ما في الأمر أن الساسة يعزفون على وتر غريب، بل وشاذّ عن نشيد الفئات الشعبيّة المضطهدة، التي لا ترى في مثل هذه المبادرات، سوى فقاعات إنشائيّة، لا تسمن ولا تغني عن جوع.
وفي نهاية الأمر لا يملك الواقع إلاّ أن يفرض كلمته، على المشهد السياسي، وإن أنكره جهابذة الحكم.
المشهد يرتسم كالآتي:
نشطاء طالبوا بالإصلاح الاقتصادي والسياسي، وآمنوا بأن اجتثاث الفساد يشكّل حجر الرحى للخروج من الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي تعصف بالأردن، ماذا كان مصيرهم ؟!
وسائل إعلام قرّرت الاستقلال عن وجهة النظر الرسميّة وتسليط الضوء على هموم وآمال الناس.. ماذا كانت النتيجة ؟!
نوّاب تمّ جلبهم لتشكيل كتل غير متجانسة، في محاولة لاستيراد النموذج الغربي للمجموعات السياسيّة البرلمانيّة، ولكن بالاستناد إلى عقليّة بوليسيّة وقانون انتخاب من شأنه أن يوصل عشرات المنتفعين إلى صدارة السلطة التشريعيّة، دون إتاحة المجال أمام أي حزب سياسي لتمثيل قواعده الشعبيّة في مجلس يفترض أنّه.. "مجلس الأمّة" !!
مبادرات ولجان عديدة.. تمّ تشكيلها برعاية وضمانة ملكيّة، لم تسفر عن التقدّم ولو قيد أنملة، فيما يتعلّق بما وصف بـ "الثورة البيضاء"، التي اتّضح في نهاية الأمر أنّها ليست سوى رسالة لاسترضاء المانح الغربي، ضمن حملة علاقات عامّة خارجيّة، لا تأخذ الأولويّات الشعبيّة بعين الاعتبار.
ونتيجة لهذا التعامي الرسمي عن تطوّرات الواقع الأردني، والاكتفاء فقط بالنظر إلى أجندة الدول المانحة، لم تسفر كلّ المبادرات الملكيّة عن أيّ تغيير واقعيّ ملموس، بل على العكس من ذلك، فها هو اعتصام عمّال الموانئ الذي تصرّ وسائل الإعلام الرسمي على محاربته –وليس فقط إنكار مطالبه- يعود ليذكّرنا باعتصامهم في العام 2009، الذي قمعته قوّات الدرك دون رحمة، ليشكّل انعطافة بالغة الأهميّة، للحراك العمّالي الذي بادر إليه عمّال المياومة في العام 2006.
وقد يكون من المفيد هنا التذكير بأن هذه الاحتجاجات سبقت اندلاع الربيع العربي، الذي دفع صنّاع القرار الرسمي إلى إطلاق المبادرات وتشكيل اللجان، دون إدراك جوهر المطالب الشعبيّة، التي دفعت الناس إلى النزول للشارع وإعلان مطالبهم، بل ومخاطبة القصر بشكل مباشر، لتحميله مسؤوليّة استشراء الفساد.
واليوم، يعلن الملك ضمانته لميثاق النزاهة، الذي يفترض أنّه يعبّر عن "الإصرار والجديّة بالمضي قدما في عملية الاصلاح، لتطوير العمل المؤسسي والحفاظ على المال العام، وإرساء مبادئ الحوكمة الرشيدة، خاصة ما يتعلّق منها بمكافحة الفساد بكل اشكاله ومحاربته قبل وقوعه".
ولكن.. هل هكذا تورد الإبل ؟
أولاّ لا يمكن لنا الحديث عن وجود سلطات ثلاث، تتمتّع كلّ منها بالاستقلاليّة التامّة، في ظلّ قضاء عسكريّ، وبرلمان لا يتجاوز حقيقة كونه مجرّد ديكور لإقناع العالم بوجود نيّة للاقتراب من "النموذج الديمقراطي"، الذي جعل منه الغرب شرطاً لمنح المزيد من المساعدات الماليّة، والتي تذهب بدورها مع الريح، نتيجة استشراء الفساد.
ثانيا: إنّ محاربة الفساد تستوجب قبل أي شيء آخر (قبل تشكيل اللجان وإطلاق المبادرات) وجود إرادة سياسيّة حقيقيّة لمعالجة هذا الملفّ.. غير أنّ كل ما يبوح به الواقع يثبت غياب مثل هذه الإرادة.
في النهاية، فإن الحديث عن ضمانات ملكيّة سواء فيما يتصل بالمضي في "الثورة البيضاء" أو بمحاربة الفساد، لا يمكن له أن يكون مقنعاً لأي مواطن، قبل الاعتراف بزوال حقبة الدولة الأبويّة، وانتهاء مرحلة الحلول البوليسيّة، وضمان حقّ الحصول على المعلومة، بما يضمن معرفة حتّى نفقات القصر، قبل إطلاق أيّة مبادرة أو تشكيل المزيد من اللجان، التي لم تغادر حبر ورقها إلى أرض الواقع، واكتفت بكونها "إنجازات" تتكدّس في الأوراق المرسلة للمانح الغربي.