بين الاستبداد ذي الفكرة.. والطغيان ذي الغريزة: قراءة في ميزان الفكر العربي
جو 24 :
كتب د. معن علي المقابلة -
من تأمّل أحوال الأمم أدرك أن الطغيان ليس لونًا واحدًا ولا وجهًا واحدًا، وأنّ للحكّام في مسالك السلطان طرائق شتّى. وليس يخفى على قارئ الفكر السياسي العربي أنّ الكواكبي، في "طبائع الاستبداد”، فرّق تفريقًا دقيقًا بين استبداد يقوم على فكرة يُراد لها أن تصنع أمةً جديدة -وإن كانت فكرةً منحرفة أو خاطئة- وبين استبداد لا يجاوز حدود الشهوة السلطوية، يتغذّى على الخوف ويستمدّ بقاءه من الخارج.
وهذا التمايز هو لبُّ ما نحن بصدده.
أولًا: المستبد ذو المشروع… المستبد الذي يرى في نفسه قدرًا للأمة
إنّ الاستبداد ذو المشروع، على ما فيه من بطش وقسوة، يستند إلى تصور عام للدولة والمجتمع والتاريخ. ولعلّ ما يضربه المراقبون من أمثلة—مثل هتلر وستالين—إنما يأتي من باب قراءة نماذج تاريخية لا تزال تُدرَس لا لأنها عادلة، بل لأنها فاعلة.
فأصحاب هذا النمط من الاستبداد كانوا يرون أنفسهم صنّاعًا للتاريخ، يبسطون أيديهم على الأمم باسم "النهضة”، أو "التقدم”، أو "البعث”، حتى وإن كانت هذه النهضة وهْمًا، وهذا التقدم عبئًا دمويًا، وهذا البعث قيدًا من حديد.
إنه استبداد ذو فكرة… وفكرةٌ أحيانًا تُنقذ الأمم وأحيانًا تُغرقها، لكنها تبقى إطارًا يتجاوز صاحبه ويتسامى—ولو صوريًا—على ذات الحاكم.
المستبد هنا أقرب إلى من يخاطب التاريخ:
"اعطني زمام الزمان، أصنع لك أمةً جديدة.”
وإنما الكارثة أنه يصنعها من لحم الناس وعظامهم.
ثانيًا: الطاغية… حيث تنكمش الدولة في حدود الكرسي
أما الطغيان الذي تناوله الكواكبي، فهو الطغيان الذي لا يحمل مشروعًا وطنيًا، ولا يستند إلى رؤية، بل يتجسّد في شخص الحاكم وحده.
لا ينهض على فكرة، بل على غريزة.
لا يصنع دولة، بل يُنشئ "نظامًا” مصبوبًا في قالب خدمته.
وهنا يرى المراقبون أنّ نماذج من الحكم في تاريخنا الحديث—كعهد حافظ الأسد، أو بشار الأسد، أو القذافي، أو السادات—قد وُصفت من قِبَل النقّاد بأنها حكوماتٌ تمحورت حول مشروع البقاء أكثر مما تمحورت حول مشروع الدولة.
ويذهب بعض هؤلاء النقّاد إلى أن علاقة هؤلاء الحكّام بالقوى العالمية الكبرى لم تكن علاقة الندّية التي تحكمها الأفكار، بل علاقة مُقايَضةٍ تُحفظ فيها شرعية الحاكم بقدر ما يحفظ مصالح تلك القوى.
وهذا النمط من الحكم لا يقوم على حلم ولا على تصورٍ لمستقبل الأمة، بل على هواجس الذات؛
على توجّسٍ دائم من كل تغيير،
وعلى إحساس بأن السلطة لا تعيش إلا بقدر ما يعيش الخوف في صدور الناس.
في هذا الطغيان، لا يقول الحاكم للتاريخ: "اتبعني”،
بل يقول للشعب: "اسكت”.
ولا يرى في الوطن مادةً للبناء، بل مادةً للسيطرة.
الفرق في جوهره: منطق الفكرة ومنطق الغريزة
الفارق الجوهري بين النمطين، كما يراه المفكرون:
•المستبد ذو المشروع يحكم بفكرة تتجاوز شخصه، ولو كانت فاسدة.
•الطاغية يحكم بغريزة لا تتجاوز جلده، ولا تقوم على غير البقاء.
الأول يخاطب الغد،
والثاني يخشى أن يأتي الغد.
الأول يسعى—مهما كان انحرافه—إلى إعادة صياغة الأمة.
والثاني يسعى إلى إعادة صياغة الناس على مقاس خوفه.
ثالثًا: أيهما أشدّ وطأة؟
لا ريب أن كلاهما ضررٌ على الأمة.
غير أن المفكرين العرب، وعلى رأسهم الكواكبي، يشيرون إلى أن الطاغية الذي لا يحمل مشروعًا أبعد أثرًا في تخريب العمران؛
فهو يستنزف طاقات الأمة لا ليبني بها، بل ليُحصّن بها سياج بقائه،
ويجعل من الدولة جهازًا يدور حول ذاته،
ومن الوطن صدىً لصوت واحد.
أما المستبد ذو المشروع، فعلى قسوته، يظل محكومًا بمنطق الفكرة،
والفكرة—حتى وهي منحرفة—تفتح باب المحاسبة التاريخية،
وتتيح للأمة أن تراجع مشروعها،
بينما الطغيان الذي لا مشروع له يترك الأمة بلا تاريخ، وبلا ذاكرة، وبلا غد.
خاتمة
لقد صدق الكواكبي حين قال إن أسوأ الاستبداد هو ما كان "عامًّا شاملًا لأحوال الأمة”، وما كان مرتبطًا بالخارج أكثر من ارتباطه بحاجات الداخل.
وصدق العقّاد حين رأى أن الحاكم الذي يضيق صدره بالنقد إنما يضيق صدره بالأمة نفسها.
ولذلك قلنا، ونقول:
•المستبد ذو المشروع يضع الأمة في قالب رؤيته.
•والطاغية يضع الأمة في قفصه.
•الأول يخاصم التاريخ.
•والثاني يهرب منه.
•الأول يحكم بفكرة.
•والثاني يحكم بذعر.
وبينهما، تضيع الأمم حين لا تميّز أيّهما تقف أمامه.








