jo24_banner
jo24_banner

العالم ما بعد الحزبية.. وأزمة السياسة العربية في زمن التحوّل الرقمي

وائل منسي
جو 24 :
 

في الغرب، تبدو الأحزاب وكأنها تجرّ أقدامها في مرحلة ما بعد الحزبية، وتتنفس بصعوبة في عالم ما بعد الديمقراطية؛ أحزاب فقدت بريقها التاريخي وباتت عاجزة عن تجديد سردياتها أو إقناع الناخب الذي أصبح أكثر ارتباطًا بهاتفه الذكي من ارتباطه بأي برنامج سياسي. فإذا كانت الديمقراطيات العريقة تعاني هذا الوهن، فكيف يمكن تخيّل المشهد العربي الذي ما تزال فيه الحياة الحزبية غضة، هشّة، ومنهكة داخل بيئة سلطوية خانقة ونفور شعبي مزمن من كل ما هو سياسي؟

في العالم العربي، لا نملك رفاهية السؤال عن "نهاية الأحزاب”، لأن أغلب الأحزاب لم تولد أصلًا؛ مجرد كائنات ورقية خرجت من رحم الأجهزة الأمنية أو تحت مظلة توازنات فوقية، وتمارس أدوارًا أقرب إلى الكومبارس السياسي منها إلى الفعل الحزبي الحقيقي. والنتيجة أن السياسة نفسها أصبحت شكلًا بلا مضمون، إعلانًا بلا منتج، واحتفالاً بلا جمهور.

وليس مثال الأردن بعيدًا عن هذه الصورة. فالأحزاب الجديدة التي جاءت بعد تحديث المنظومة السياسية، رغم الجهد التشريعي الكبير، ما تزال تتحسس خطواتها في مساحة سياسية شديدة الانكماش، تحاول فيها الدولة دفع "حياة حزبية حديثة”، بينما المجتمع ينظر للأحزاب بريبة، والجيل الشاب يراها أثرًا متحفياً من القرن الماضي، غير قادر على منافسة بريق التكنولوجيا أو حرارة النقاشات الرقمية.

الأحزاب الأردنية، كغيرها في المنطقة، تعاني انفصالًا عن قواعد اجتماعية حقيقية، وسيطرة الزعامات التقليدية، وغياب البرامج الجدية. تُختزل أدوارها في موسم انتخابي ينتهي فور ظهور النتائج، بينما تتحول البرلمانات إلى امتداد للهويات المحلية والشللية أكثر من كونها حواضن لبرامج حزبية حقيقية.

وحتى محاولات بعض الأحزاب استقطاب الشباب غالبًا ما تصطدم بواقع أن الجيل الجديد يعيش في فضاء رقمي لا يشبه القاعات الحزبية الباردة، وأن السياسة بالنسبة له تُمارَس من خلال "ترند”، لا عبر اجتماع تنظيمي طويل وممل.

إن تراجع الأحزاب العربية لا يعود فقط إلى القيود السلطوية أو الهيمنة الأمنية، بل إلى أزمة أعمق: تآكل الإيديولوجيا الكبرى، انهيار الطبقة الوسطى، صعود الفردانية، وتحول السياسي إلى رقمي. لم يعد المواطن ينتظر خطابًا حزبيًا، بل ينتظر فيديو من خمسين ثانية يوجز له العالم. التكنولوجيا لم تُضعِف الأحزاب فقط، بل قدمت بديلاً جذابًا: مجتمع شبابي يعيش في غرف الدردشة، يصنع رأيًا عامًا لحظيًا، ويستبدل القائد التقليدي بـ"مؤثر” يقدم سياسة سريعة، خفيفة، وخالية من التعقيد.

في عالم كهذا، الأحزاب تبدو كأنها تشرح السياسة بلغة القواميس في زمن "الريلز” القصير.

لكن السؤال الأخطر: ماذا بعد الحزبية؟
هل نحن متجهون نحو فوضى سياسية؟
أم أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة ستُنتج نمطًا سياسيًا مختلفًا بالكامل؟

ما بعد الحزبية قد لا يكون فراغًا كما نخشى، بل ربما هو مقدمة لولادة أشكال سياسية هجينة تعتمد على الحوكمة الرقمية، والمشاركة الشبكية، وأدوات الذكاء الاصطناعي في تحليل الرأي العام واقتراح السياسات. منصات تمثيلية جديدة لا تشبه حزب القرن العشرين، بل تشبه بنية الإنترنت نفسها: لامركزية، مفتوحة، وسريعة.

وإذا كانت الأحزاب العربية عاجزة عن مواكبة التحولات اليوم، فليس مستبعدًا أن تصبح خارج الزمن السياسي الجديد، وأن تحل محلها حركات مرنة، شبكية، ومتّصلة بالعالم، تُعيد تعريف السياسة كممارسة معرفية وتكنولوجية لا كمقر حزبي أو صحيفة تُطبع على استحياء.

إن تراجع الأحزاب العربية ليس أزمة تنظيم أو قانون أو إرادة سياسية فحسب، بل انعكاس لتحول عميق في المجتمع نفسه. ومع دخول الذكاء الاصطناعي وتغير أنماط الوعي، وانفصال الشباب عن الأطر التقليدية، يبدو أننا أمام بداية زمن سياسي جديد ستتغير فيه بنية السلطة، ومفهوم المشاركة، وطريقة إنتاج القرار.

العالم الغربي يسأل:
من سيقود مرحلة ما بعد الحزبية؟

أما العالم العربي فيسأل:
هل ستلحق أحزابه بالقطار قبل أن يغادر نهائيًا؟

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير