العنف الرقمي ضد النساء: خطر صامت في عصر التكنولوجيا والأمن الإنساني
جو 24 :
المحامية رحمه العزه
في ظل التحول الرقمي المتسارع، أصبح الفضاء الرقمي المفتوح، الذي يُفترض أن يعزّز فرص التمكين والتواصل، ساحةً جديدة لانتهاكات جسيمة تستهدف النساء، في مقدمتها العنف الرقمي. وقد بات هذا النوع من العنف يُعدّ من أخطر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي في العصر الحديث، إذ لم يعد مجرد سلوك فردي عابر، بل ظاهرة متنامية تتقاطع فيها الأبعاد الاجتماعية والقانونية والأمنية، وتنعكس آثارها بشكل مباشر على الأمن الإنساني والاستقرار المجتمعي.
فالعنف الرقمي هو عنف يُمارَس خلف الشاشات وبأدوات تقنية، لكنه يخلّف أذىً نفسياً واجتماعياً واقتصادياً لا يقل خطورة عن العنف التقليدي، بل قد يتجاوزه أحياناً بفعل سرعة انتشاره وصعوبة احتواء نتائجه أو الحدّ من آثاره.
ويُعرَّف العنف الرقمي بأنه كل فعل عدواني أو مسيء يُمارَس عبر الوسائل الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إيذاء المرأة، أو السيطرة عليها، أو انتهاك خصوصيتها وكرامتها. وتتعدد صوره لتشمل الابتزاز الإلكتروني، والتحرش الرقمي، والتشهير، ونشر المعلومات أو الصور دون موافقة، إضافة إلى التهديد والملاحقة الرقمية، واختراق الحسابات وسرقة البيانات الشخصية، فضلاً عن خطاب الكراهية والتنمر القائمين على النوع الاجتماعي، واللذين شهدا انتشاراً متزايداً في الآونة الأخيرة.
وتكمن خطورة هذا النوع من العنف في سهولة تداوله على نطاق واسع، واستمراره لفترات طويلة، وصعوبة محو آثاره بعد النشر، ما يضع الضحية في حالة دائمة من الخوف والضغط النفسي، كما تتفاقم هذه الآثار بفعل الأعراف الاجتماعية السائدة التي تفرض رقابة مجتمعية مشددة على المرأة، وثقافة لوم الضحية التي تدفع كثيراً من النساء إلى الصمت وعدم الإبلاغ خشية الوصم الاجتماعي، ويُضاف إلى ذلك ضعف الوعي بالأمن الرقمي لدى بعض المستخدمين، لا سيما فيما يتعلق بإعدادات الخصوصية وحماية البيانات، إلى جانب اختلال ميزان القوة الرقمية بين الجاني والضحية، حيث يمتلك المعتدي في الغالب مهارات تقنية أعلى، ما يسهّل استغلال خصوصية المرأة كوسيلة تهديد في مجتمعات تُعدّ فيها السمعة والخصوصية من القضايا الحساسة.
وعلى المستوى الدولي، لم يعد العنف الرقمي ضد النساء قضية هامشية، بل أُدرج ضمن إطار أجندة المرأة والأمن والسلم (WPS) المنبثقة عن قرار مجلس الأمن رقم 1325 والقرارات اللاحقة له، فقد اعترفت الأمم المتحدة بأن العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الرقمي، يشكل تهديداً مباشراً للأمن الإنساني ولمشاركة النساء في عمليات السلام وصنع القرار، كما أكدت تقارير أممية حديثة أن الفضاء الرقمي أصبح امتداداً لساحات النزاع، تُمارَس فيه أنماط جديدة من العنف والترهيب ضد النساء، خاصة المدافعات عن حقوق الإنسان، والصحفيات، والناشطات السياسيات، وتتعامل المؤسسات الدولية مع العنف الرقمي بوصفه شكلاً من أشكال العنف الممنهج الذي يحدّ من وصول النساء إلى العدالة، ويقوّض دورهن في بناء السلام المستدام.
ورغم تطور تشريعات الجرائم الإلكترونية في العديد من الدول، لا يزال التطبيق العملي يواجه تحديات كبيرة، فالقانون وحده لا يكفي ما لم يُدعَم بوحدات متخصصة وفعّالة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، وإجراءات إبلاغ سريعة وآمنة تراعي خصوصية الضحايا، إلى جانب تدريب كوادر قانونية وتقنية قادرة على جمع الأدلة الرقمية، وتوفير حماية نفسية وقانونية شاملة للنساء المتضررات.
كما تؤدي الأدوار المجتمعية دوراً محورياً في مواجهة هذه الظاهرة الرقمية، بدءاً من الأسرة التي تُعدّ خط الدفاع الأول من خلال تعزيز الحوار الحر بين أفرادها، وتوعية الأبناء بالاستخدام الآمن للتكنولوجيا، ويبرز كذلك دور الإعلام في نشر خطاب مسؤول يرفع مستوى الوعي بخطورة العنف الرقمي، ودور دُور العبادة في ترسيخ القيم الأخلاقية التي ترفض انتهاك الكرامة الإنسانية وتحمي خصوصية المرأة، ولا يمكن إغفال دور مؤسسات المجتمع المدني في تقديم الدعم النفسي والقانوني، وتنفيذ حملات توعوية مستمرة، وممارسة دورها الرقابي في الحد من إفلات الجناة من العقاب، وإصدار التقارير الدورية ذات الصلة.
إن العنف الرقمي ضد النساء لم يعد مجرد تحدٍ تقني، بل أصبح قضية حقوقية وأمنية بامتياز، تتطلب استجابة شاملة تتكامل فيها التشريعات مع الوعي المجتمعي والسياسات الدولية، وفي عالم باتت فيه الحدود بين الواقع والفضاء الرقمي شبه معدومة، تصبح حماية النساء إلكترونياً جزءاً لا يتجزأ من حماية السلم المجتمعي والأمن الإنساني، فالمجتمع الذي يوفّر فضاءً رقمياً آمناً للنساء هو مجتمع يؤمن بأن الكرامة الإنسانية لا تتجزأ، وأن الأمن يبدأ من احترام الإنسان، في الواقع وعلى الشاشات على حد سواء.








