التعليم العالي في مدينة المظاهر: كيف يصبح “نفخ الشهادات” سياسة غير معلنة؟!
جو 24 :
كتب أ. د. عبدالرزاق بني هاني -
في قلب فكرة رأس المال البشري كما صاغها عالم الاقتصاد الأمريكي غاري بيكر، توجد عبارة بسيطة لكنها مُزلزِلة: التعليم والتدريب ليسا زينة ثقافية ولا شهادة تُعلَّق على الجدار، بل استثمار، له كلفة، وله عائد، وله مخاطرة، وله سوق يقيّم نتائجه في الإنتاجية والدخل. بهذه العدسة، يصبح السؤال الحقيقي ليس كم عدد الجامعات؟ ولا كم عدد الخريجين؟ بل كم مقدار الكفاءة التي تولّدت فعلاً؟ وكم مهارةً أضيفت إلى قدرة المجتمع على الإنتاج والابتكار والخدمة؟
لكن، هنا تحديداً، تدخل فكرة الإشارة (Signaling) لتقلب المشهد. ومفاد هذه الفكرة أن المجتمع ينظر إلى الشهادات باعتبارها إشارات ضوئية، لا يُمكن أن يسير عبرها إلا من يحمل شهادة جامعية، من أي نوع، وكيفما اتفق.
حين يتحول التعليم من صناعة المهارة إلى صناعة الإشارة
في اقتصادٍ يعاني بشكل خطير جداً عدم تماثل المعلومات، ربّ العمل لا يرى القدرة مباشرة؛ يرى مؤشرات. والشهادة — خصوصاً في الأسواق التي لا تملك أدوات قياس دقيقة للكفاءة—تغدو مؤشراً سريعاً: هذا متعلم، إذن ربما هو أكفأ. وهنا يصبح التعليم، جزئياً أو كلياً، أداة فرز لا أداة تكوين. ليس المهم دائماً ما تعلّمته، بل ما تدلّ عليه وثيقتك. وهنا تقع المفارقة القاسية: إذا غلبت وظيفة الإشارة على وظيفة التكوين، قد يتورط المجتمع في الإفراط في الاستثمار التعليمي: سنوات إضافية، كلف مالية وأسرية، وقت مُهدَر، ومؤسسات تتضخم شكلياً — من أجل الحصول على إشارة أقوى في سباق المكانة، من دون مكاسب إنتاجية موازية.
في هذه الحالة، التعليم لا يرفع الإنتاجية الحدّية بقدر ما يرفع رتبة المتسابق في طابور التوظيف. والنتيجة ليست صفراً فقط؛ بل قد تكون سلبية اجتماعياً، لأن الموارد التي ذهبت إلى سباق الشهادات كان يمكن أن تذهب إلى تدريب مهني متقن، أو بحث تطبيقي، أو ابتكار، أو بنية تحتية معرفية حقيقية.
سباقٌ مظهريّ على المكانة: كيف يصبح "نفخ الشهادات” سياسة غير معلنة؟
حين تبدأ المؤسسات في تضخيم الشهادات (Inflate Credentials)، لا يحدث ذلك دائماً بسبب فسادٍ مباشر؛ بل أحياناً يحدث بسبب حوافز نظيفة لكنها مدمّرة، ومنها أن الجامعة تريد سمعة وعدداً أكبر من المنتسبين، فتُليّن المعايير كي لا تخسر السوق، والطالب يريد ورقة تفتح باباً، فيضغط نحو الامتحان الأسهل لا المهارة الأعمق، والأسرة تريد صعوداً طبقياً سريعاً، فتقيس النجاح بعدد الشهادات لا بجودة القدرة. والقطاع العام أو أرباب العمل يعتمدون الشهادة كاختصار إداري، فيكافئون الورق بدل الإتقان. ومع الوقت، ترتفع عتبة الشهادة المطلوبة للوظائف نفسها: ما كان يحتاج دبلوماً صار يحتاج بكالوريوس؛ وما كان يحتاج بكالوريوس صار يحتاج ماجستير، وهكذا، لا لأن العمل تغيّر، بل لأن الإشارة تضخّمت.
وهكذا تتكوّن حلقة مفرغة: كلما تضخمت الشهادات، قلّت قدرتها على التمييز، فيطلب السوق مستوى أعلى منها، فتزداد سنوات الدراسة، ثم يزيد التضخم. وينشأ اقتصاد كامل قائم على الورق، بينما يتآكل المحتوى.
معيار النظام السليم: المحتوى أولاً، والقياس الصحيح
المُفتاح هو المحتوى، . ومِحَكّ النظام السليم أن يتميز المتعلمون بقدرات حقيقية، وأن تُكافئ التقييمات الإتقان لا مجرّد الأداء، وأن تقاوم المؤسسات إغراء نفخ الشهادات بدل إكساب الجوههر. وهذا ليس شعاراً أخلاقياً؛ هو شرط كفاءة اقتصادية. فعالم الاقتصاد بيكر، حتى وهو يتحدث بلغة الاقتصاد، كان يرى أن قيمة الاستثمار تُقاس بالعائد الحقيقي، لا بالمظهر. والنظام السليم إذن ليس الذي يوزّع شهادات أكثر، بل الذي يضمن ثلاثة أمور؛ أولها تعليم يولّد قدرة قابلة للاستخدام، والتركيز على المهارة، والتحليل، والكتابة، والهندسة، والطب، والبرمجة، والحرفية. والمقصود هنا شيء يمكن أن تُقيمه في الواقع لا في الاحتفال. وثانيها تقييم يقيس الإتقان لا الأداء المسرحي. فالاختبارات لا تكفي إذا كانت قابلة للتلاعب، والمشاريع لا تكفي إذا كانت شكلية، والحضور لا يعني شيئاً إن كان معيار النجاح هو المرور. وثالثها مؤسسات ترفض التضخم حتى لو دفعَت ثمنه، لأن مقاومة نفخ الشهادات تعني أحياناً انخفاض الأعداد، وارتفاع الرسوب، وغضب السوق أو المجتمع. لكنها أيضاً تعني بقاء الشهادة ذات معنى.
خراب الدول التي "تُكثّر الجامعات” وتُقلّل الجودة
الدولة التي تتباهى بكثرة الجامعات دون نظام جودة صارم تشبه من يكثر من المطابع ويظن أن ذلك يصنع معرفة. فتكون النتيجة غالباً مزيج من أربعة أضرار استراتيجية: أولها بطالة متعلمة، وهم شباب يحملون أوراقاً لا مهارات، فيصطدمون بسوق عمل لا يثق بالشهادة، ولا يجد في الخريج قيمة إنتاجية تبرر أجره. وثانيها هشاشة الثقة، إذ حين تتكرر تجربة خريج بلا كفاءة، يفقد السوق ثقته بالمؤسسة كلها، فتخسر الشهادة وظيفتها حتى كإشارة، ويبدأ أرباب العمل بالبحث عن بدائل قاسية (شبكات، وساطات، خبرة مسبقة، أو هجرة). وثالثها نزيف الموارد، فالأسر تنفق على تعليم لا يرد لها عائداً، والدولة تنفق على مبانٍ وبرامج لا تُحسن الإنتاجية الكلية. ورباعها تحطيم معيار الاستحقاق، فحين يصبح النجاح متاحاً بالتساهل، يتحول المجتهد إلى أحمق اقتصادي لأنه يدفع كلفة الإتقان بينما غيره يحصل على الورقة نفسها بأقل كلفة. وهنا يُقتل الحافز من جذوره.
وهذا الخراب لا يظهر فوراً؛ بل يظهر كصدع بطيء: مؤسسات مكدسة، أوراق كثيرة، مهارات قليلة، ثم فجأة تجد الاقتصاد عاجزاً عن القفز—لأن محركه البشري مغشوش.
كيف نعيد التوازن بين رأس المال البشري والإشارة؟
ليس الهدف إلغاء الشهادات، بل إعادة ربطها بالجوهر. وعملياً، هناك مسارات واضحة؛ منها اعتماد تقييمات معيارية للمخرجات (Learning Outcomes) لا للمقررات، أي ماذا يستطيع الخريج أن يفعل بالفعل؟ وامتحانات كفاءة مهنية مستقلة في التخصصات الحساسة، تفصل بين المرور والإتقان. وتعلم قائم على المشاريع الحقيقية والتدريب العملي بشروط صارمة، لا تدريب صوري بتوقيع وختم. وشفافية نتائج البرامج: نسب توظيف حقيقية، اختبارات مهارة، مسارات خريجين، لا بروشورات دعائية. وإعادة اعتبار المسار التقني والمهني كاستثمار إنتاجي لا كخيار أدنى. وتحفيز الجامعات على الجودة لا العدد، فالتمويل والاعتماد والسمعة تُربط بالنتائج لا بالاكتظاظ.
أخيراً الجامعة ليست مصنع أوراق.. بل مصنع قدرة
إذا كان رأس المال البشري هو الثروة الكامنة في الإنسان، فالشهادة ليست تلك الثروة؛ الشهادة مجرد إيصال. والويل لاقتصادٍ تكثر فيه الإيصالات وتقل فيه البضائع. وحين تتغلب الإشارة، يتحول التعليم إلى سباق تسلّق اجتماعي، وتتحول الجامعة إلى منصة فرز، ويصبح المجتمع بارعاً في إنتاج المظاهر. أمّا حين يربح المحتوى، تصبح الشهادة أثراً جانبياً لشيء أكبر، وهوقدرة حقيقية تخلق قيمة.
هذا تحليل فكري مستند إلى الخط العام لأدبيات رأس المال البشري والإشارة لعالم الاقتصاد بيكر ومن جاء بعده)، وقد تختلف التفاصيل التطبيقية باختلاف كل دولة ومؤسساتها وسوق عملها، لكن هذه الملاحظة رصدتها في مدينو أوستنشيا التي تعشق المظهر على حساب الجوهر، وأرجو أن تصل الرسالة إلى المحترم السيد مومنتم!








