موجة أفلام عيد الميلاد الأميركية.. رحلة سينمائية عمرها 125 عاما
جو 24 :
مع حلول الشتاء من كل عام، يجيء موسم أفلام الأعياد، أفلام عائلية تختلف تصنيفاتها ما بين الكوميدي والرعب والرومانسي لكن يجمعها ارتباطها بإجازات الأعياد ونهايات الأعوام، كان هذا الشهر مناسبا لتغيير الخطط أو خوض مغامرات غير متوقعة اعتاد المشاهدون متابعة أحداثها قديما على الشاشات الكبيرة في قاعات السينما ومؤخرا على شاشاتهم المنزلية عبر المنصات التي تستكمل موجة سينمائية مضمونة النجاح.
في الموسم الحالي، طُرح حتى الآن نحو 8 أعمال تتناول أجواء الأعياد الشتوية. فقد أطلقت منصة "نتفليكس" وحدها 4 أفلام ومسلسلا قصيرا، تدور جميعها في فلك الاحتفال بروح الشتاء والأعياد، متوزعة بين الكوميديا والرومانسية. وكان أحدثها المسلسل القصير "رجل في مواجهة طفل" (Man Vs Baby)، إلى جانب أفلام مثل: "سرقة في عيد الميلاد" (Jingle Bell Heist)، و"سانتا السري" (My Secret Santa)، و"عيد سعيد للمنفصلين" (A Merry Little Ex-Mas).
ولم تتخلف منصات الإنتاج والعرض الأخرى عن مواكبة موسم الأفلام السنوية المرتبطة ببرد الشتاء، إذ طرحت منصة "برايم" التابعة لأمازون 3 أفلام هي: "العثور على جوي" (Tyler Perry’s Finding Joy)، و"يا له من مرح!" (Oh What Fun)، و"فرح للعالم" (Joy to the World). كما قدمت منصة "ديزني +" فيلما واحدا بعنوان "كريسماس خاص جدا مع جوناس" (A Very Jonas Christmas Movie)، إلى جانب فيلم واحد طرحته منصة "+أبل تي في" هو "خطة العائلة 2" (The Family Plan 2).
ومع هذا الكم من الأعمال التي صدرت منذ نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وحتى منتصف ديسمبر/كانون الأول الجاري، يبدو الموسم الشتوي وكأنه حلبة سباق بين المنصات الكبرى لحصد أكبر قدر من المشاهدات خلال فترة الأعياد. غير أن هذه الظاهرة، التي تحولت اليوم إلى صناعة قائمة بذاتها، مرت برحلة طويلة ومعقدة، بدأت مع السينما الصامتة، مرورا بالحربين العالميتين، ثم طفرة التلفزيون، وانفجار الكوميديا العائلية في تسعينيات القرن الماضي، وصولا إلى عصر الإنتاج الغزير للمنصات الرقمية.
وفي بداياتها، لم تكن أفلام الأعياد سباقا بالشكل التجاري المعروف اليوم، بل مساحة للخيال ووسيلة لعرض قصص درامية تلامس وجدان المشاهدين، حتى في زمن السينما الصامتة، قبل نحو 125 عاما.
"كريسماس كارول".. أولى الاقتباسات
كانت أولى ملامح هذه الموجة مع إنتاج فيلم "ترنيمة عيد الميلاد" (A Christmas Carol) عام 1901، وهو أحد أقدم الاقتباسات الأدبية في تاريخ السينما، والمأخوذ عن الرواية الشهيرة للكاتب تشارلز ديكنز التي تحمل الاسم نفسه. ففي تلك المرحلة، شكّلت أجواء الكريسماس مادة جاهزة للسينمائيين: قصصا قصيرة، واضحة، مباشرة، ومشحونة بالعاطفة.
واعتمدت أفلام السينما الصامتة على سرد بسيط ومباشر يبرز عنصر "الخيال"، ويقدم رؤية أخلاقية مستمدة من أدب ديكنز الكلاسيكي. وعلى الرغم من أن مدة الفيلم لم تتجاوز 6 دقائق، فإنه أسس لـ3 أعمدة رئيسية ستقوم عليها أفلام الكريسماس لعقود لاحقة: البطل الذي يتغير نحو الأفضل، فكرة الخلاص القيمي، والحضور الرمزي للثلج والدفء والمشاركة العائلية.
الأربعينيات: "الصورة المثالية للعائلة الأميركية"
خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، احتاجت الولايات المتحدة إلى مشروع سردي يعيد الثقة بالمجتمع، ويصوغ صورة متفائلة للمستقبل. وكما ازدهرت صورة البطل الأميركي الخارق في الروايات المصورة، ازدهرت أيضا الكلاسيكيات الكبرى على شاشة السينما، من بينها فيلم "يا لها من حياة رائعة!" (It’s a Wonderful Life) سنة 1946، و"معجزة في شارع 34″ (Miracle on 34th Street) سنة 1947.
وخلال هذه المرحلة، قدمت هوليود 3 تحولات بارزة وحاسمة. أولها إعادة تعريف الكريسماس بوصفه عيدا عائليا أميركيا يرتبط بالقيم المدنية والاجتماعية، لا الدينية فقط. وثانيها ترسيخ البعد الاستهلاكي للأعياد، إذ بدأت المتاجر والمنتجات بالظهور كجزء من الحبكة الدرامية للأفلام. أما التحول الثالث فتمثل في تكريس خلفيات موسيقية وغنائية، مثل أغنية "White Christmas"، التي أسست لما يشبه الطابع الصوتي الثابت للاحتفال.
وفي هذه الحقبة، تشكلت "النبرة العاطفية" التي ستلازم أفلام الكريسماس لعقود لاحقة، مزيج من الحنين، والرسائل الإيجابية حول العائلة ولمّ شملها، إلى جانب إطار بصري مشبع بألوان الدفء، تحيط به خلفية من البياض الثلجي، بوصفه رمزا للسلام والبدايات الجديدة.
المشاهدة العائلية كطقس سنوي.. السر في التلفزيون
في الستينيات ومع انتشار التلفزيون في المنازل الأميركية، لم تعد أفلام الكريسماس مجرد عروض سينمائية موسمية، بل أصبحت طقسا سنويا يتكرر على الشاشة المنزلية. وقد ساهمت البرامج القصيرة الخاصة بالأطفال، مثل "رولدف: الرنة ذو الأنف الأحمر" (Rudolph the Red-Nosed Reindeer) سنة 1964 و"فروستي رجل الثلج" (Frosty the Snowman) سنة 1969، في ترسيخ عادة المشاهدة الجماعية. ليرتبط الكريسماس بـ "جدول بث" ثابت يعاد سنويا، ما خلق طلبا مستمرا على إنتاج محتوى بصري جديد كل عام. هذا التحول في عادات المشاهدة وسلوك الجمهور مهّد بدوره لمرحلة الثمانينيات والتسعينيات، حين سيطرت الكوميديا العائلية على النوع بالكامل.
التسعينيات: العصر الذهبي لكوميديا الكريسماس العائلية
شهدت هذه المرحلة التحول الأعمق في تاريخ أفلام الكريسماس، إذ باتت الأعمال تعتمد بشكل واضح على المزج بين الكوميديا والفوضى العائلية التي يفرضها زحام الأعياد، في محاولة لاستقطاب جمهور واسع خلال موسم الإجازات. وجاء فيلم "وحدي بالمنزل" (Home Alone) سنة 1990 ليعيد رسم حدود السوق السينمائي بالكامل، فقد حقق أرباحا غير مسبوقة لفيلم عائلي، إذ بلغت تكلفة إنتاجه نحو 18 مليون دولار، في حين تجاوزت إيراداته 476 مليون دولار حول العالم، منها أكثر من 285 مليون دولار في الولايات المتحدة وكندا.
جمع الفيلم بين كوميديا المواقف الساخرة والسحر الدافئ للبيت والعائلة، ليؤسس لفكرة مفادها أن موسم الكريسماس يمكن أن يكون موسما سينمائيا قائما بذاته. وعززت أفلام أخرى هذا الاتجاه، مثل "عطلة عيد الميلاد" (National Lampoon’s Christmas Vacation) سنة 1989، و"سانتا كلوز" (The Santa Clause) سنة 1994، و"جينغل أول ذا واي" (Jingle All the Way) سنة 1996، حيث بات التركيز أكبر على استهلاك الطعام، وأغراض العيد، والهدايا، وما يُعرف بـ"اللحظات الفوضوية" داخل الأسرة خلال الأعياد.
وغالبا ما كانت هذه الفوضى تقود إلى تصعيد كوميدي ينتهي بحل دافئ ولمّ شمل الجميع حول مائدة العشاء. وبهذه الصيغة، تحول الكريسماس إلى مادة تجارية مربحة، لا مجرد مناسبة اجتماعية أو احتفال رمزي.
الألفية الجديدة: عولمة وتنوع ومنصات رقمية
مع دخول الألفية الجديدة، وفي ظل العولمة وتراجع الحواجز الثقافية، شهدت أفلام الكريسماس توسعا نوعيا لافتا. فقد انتقلت الصيغة الأميركية إلى العالم، وتكيّفت مع ثقافات مختلفة، مع احتفاظها بالنموذج الأساسي نفسه: العائلة، السحر، والهدايا.
وفي الوقت ذاته، تنوعت الأنواع السينمائية، فظهرت أعمال رومانسية مثل "الحب حقا" (Love Actually) سنة 2003، وأفلام رسوم متحركة مثل "القطار القطبي" (The Polar Express) سنة 2004، إلى جانب كوميديات جديدة مثل "إلف" (Elf) سنة 2003. وهكذا، أصبح الكريسماس قالبا مرنا قادرا على توليد عشرات الصيغ السردية المختلفة.
ومع صعود منصات المشاهدة الرقمية، مثل نتفليكس وأمازون وغيرهما، تحول الكريسماس إلى موسم إنتاج مكثف، تُطرح خلاله سنويا عشرات الأفلام منخفضة الميزانية، والموجهة إلى جمهور يبحث عن محتوى خفيف، مألوف، وسهل المشاهدة. في هذا السياق، بدأت ملامح ما يمكن تسميته بـ"العالم السينمائي للكريسماس"، حيث تتقاطع العوالم والشخصيات في أعمال متعددة، تتفق جميعها على هدف واحد: تقديم فيلم بسيط يناسب عائلة تجتمع حول طاولة العشاء في ليلة عطلة.
المصدر: الجزيرة








