jo24_banner
jo24_banner

القدس في ضمير المجهول: لعبة المفاوضات والخيانة والتفريط

د. لبيب قمحاوي
جو 24 : كتب د. لبيب القمحاوي- تعتبر قضية القدس بالنسبة للبعض أمرا محسوما لصالح "اسرائيل"، لافائدة من محاولة تغييره أو حتى إضاعة الوقت في مناقشته. هذا الموقف يستند إلى عقلية الهزيمة التي تسيطرعلى البعض وتقود تفكيرهم نحو الاستسلام الكامل لواقع القوة القهري عوضاً عن رفض ذلك الواقع والنضال من أجل الحق.
المخطط "الاسرائيلي" للقدس يتجاوز مفهوم السيادة السياسية والجغرافية على القدس، وينطلق الى ما هو أخطر من ذلك بهدف تحويلها الى مدينة لليهود ولا مكان للإقامة الدائمة فيها الا لهم، وكل ما عدا ذلك بما فيه الوجود الفلسطيني العربي يعتبر، من وجهة النظر تلك، أمراً طارئاً ومؤقتاً وسائراً الى زوال ان عاجلاً أم آجلاً.
وانطلاقاً من هدا المفهوم، فإن الحديث عن أي تسوية عادلة للقدس هو أمر غير مطروح اسرائيلياً، لا للتفكير ولا للتفاوض، ويشمل ذلك كافة التيارات والمدارس السياسية والفكرية الاسرائيلية . فالقدس هي إحدى القضايا التي لا يمكن حلها بالمنظور التقليدي للمفاوضات، خصوصاً وأن تلك القضايا تصب في خانة الأولويات الاستراتيجية المتناقضة بين أطراف الصراع حيناً، وتصب في خانة المحرمات التي لا تقبل التفاوض حيناً آخر. الموضوع ليس موضوع سيادة يمكن تعريفها ومناقشة أسسها واخضاعها للتفسير والتحليل. فالقدس قد وُضِعَتْ على مسار أكبر من الإطار السياسي لدولة إسرائيل تمهيداً لأن تأخذ موقعها كعاصمة لليهود ولليهودية في العالم .وهنا تكمن المعضلة لأن القدس قد أصبحت عملياً بالنسبة لليهود خارج نطاق أي مفاوضات وأي ترتيبات لوضع نهائي آخر، وأن مفاوضات الوضع النهائي في المنظور الإسرائيلي تهدف فقط الى تكريس المخطط اليهودي للقدس وتحويله من أمر واقع بقوة الأحتلال الى أمر مشروع ومقبول فلسطينياً وعربياً وعالمياً.
وقد تتطور دولة اسرائيل في يوم من الأيام لتصبح دولة وطنية ليهود اسرائيل فقط وليس يهود العالم، وحتى لو حدث ذلك، فإن ما يتعلق بالقدس سيبقى شيئاً آخر مختلفا كونه يهدف الى إخراجها من النطاق الوطني الاسرائيلي الى النطاق العالمي اليهودي من خلال جعلها عاصمة ليهود العالم واليهودية العالمية في كل زمان وليس فقط عاصمة لدولة اسرائيل .
إن هوية القدس والسيادة عليها ليست دينية ولا يجب أن تكون كذلك. وهكذا فإن تحويل القدس الى مدينة لليهود فقط يتطلب اخراج الأماكن المقدسة من الإطار السياسي وإعطاء السيادة الدينية عليها لآخرين وبما يجعل من تلك الأماكن حدثاً طارئاً في تاريخ المدينة على اعتبار أن الواقع المستمر لها في الماضي والحاضر هو واقع يهودي. وهكذا، ابتدأ التفكير الصهيوني باختراع أنماط وحلول وسيادات تجيء من خارج القدس ومن خارج فلسطين لتتعامل مع تلك الأماكن باعتبارها مزارات دينية فقط وليس باعتبارها جزءاً عضوياً من تاريج القدس وواقعها ومستقبلها . ومن هنا جاء التفكير بتوزيع الولايات الدينيه للأماكن الأسلامية والمسيحية على جهات آخرى غير فلسطينية مثل الأردن والفاتيكان لفرض فك الارتباط السياسي والتراثي بين تلك الأماكن المقدسة والقدس.
التعامل مع الأماكن المقدسة في القدس يجب أن ينطلق إذاً من المنظور الأصلي والحقيقي بأن السيادة على القدس هي للفلسطينيين العرب، وبالتالي فإن السيادة على أي جزء من القدس ومنها الأماكن الدينية، هي بالضرورة للفلسطينيين العرب وليس لأي جهة آخرى عربية كانت أم إسلامية أم مسيحية أم دولية . والسيادة في هذه الحالة ليست سيادة دينية محصورة بل سيادة سياسية شاملة، ولا يجوز ولا يحق لأحد أن يدَعيها لنفسه، لأن من شأن ذلك المساعدة في المس بالسيادة السياسية للفلسطينيين على القدس، وبالتالي تكريس الأدعات اليهودية والمساهمة في تهويد القدس وتحويلها الى مدينة لليهود واليهودية .
أن مثل هذا التطور يعني في واقع الأمر أن اجراءات تهويد القدس مازالت غير مكتملة، وان عملية استكمال تهويدها سوف تأخذ أشكالا وأساليب لا تخطرعلى بال، وأن بعض أساليب التهويد قد تستفيد من إجراءات وسياسات قد تنبع من داخلنا ومن رحم أمتنا ومن صنع بعضنا سواء عن جهالة أو عن لؤم ووعي، والنتيجة ستكون على اي حال واحدة، وبالاً على الفلسطينيين وخسارة للعرب والمسلمين.

إن واقع الأمور يفترض استحالة استبدال حالة الصراع بحالة سلام حقيقي مع إسرائيل لأن متطلبات السلام لأحد الأطراف قد تشكل في حد ذاتها بذور الحرب للطرف الآخر. القدس لم تعد إحدى قضايا الصراع بين الفلسطينيين واسرائيل فقط، وانما دخلت أطراف آخرى في قضية القدس. فما تتعرض له القدس على يد البعض قد يتجانس ويتناغم في خطورته مع المخططات الاسرائيلية الهادفة الى تغيير معالم القدس العمرانية والديموغرافية وهويتها الفلسطينية وبما يؤدي الى ابتلاعها الى الأبد.

ومن هذا المنطلق، فإن عملية تسهيل استبدال هوية القدس للمواطنين الفلسطينيين العرب من سكان القدس بجواز سفر للسلطة الفلسطينيه أو اردني مع رقم وطني أو اسرائيلي أو كل هذا وذاك مقابل سحب الهوية المقدسية اجراء يصب، ضمن إجراءات أخرى، في مخطط تحويل القدس الى مدينة لليهود من خلال تحويل أولئك الفلسطينيين من مواطنين مقدسيين يحملون الأوراق الثبوتية لذلك، الى جالية فلسطينية عربية مقيمة في القدس وذلك حسب القوانين الجائرة المتعلقة بالقدس والتي سنتها سلطات الأحتلال الاسرائيلي. هذا مع العلم أن الهدف الإسرائيلي قد لا يركز الآن على طرد سكان القدس من الفلسطينيين، وانما على ازالة صفتهم وهويتهم المقدسية وتحويلها الى هوية آخرى . أما الخطوة الثانية والمتمثلة بالطرد والغاء الحقوق، فقد تأتي في مرحلة لاحقة، عندما تكون الظروف اكثر ملاءمة بالنسبة للأسرائيليين، وضمن إطار مفاوضات تهدف إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية وبما يرضي ويناسب اسرائيل.

ان الإطلالة العربية والإسلامية على قضية القدس كانت وما تزال إطلالة ضعيفة باهتة شكلية واعتذارية، دون مستوى الأخطار المحيقة بالقدس . والتعامل الفلسطيني والعربي والأسلامي قد فشل حتى الآن في صياغة موقف يُرغم اسرائيل على التفكير ولو لهنيهة في مخططاتها المتعلقة بالقدس وضروة إعادة النظر في تلك المخططات. بل ان العكس مازال، حتى الآن، صحيحاً، مما دفع اسرائيل واليهودية العالمية الى التمادي في مخططاتها المتعلقة بالقدس معتمدين على أن هذه الأمة العربية، وتلك الأمة الأسلامية، لا تملك من أمرها شيئاً وأنها سوف تخضع لواقع القوة كونه الأثبت بالنتيجة من الاجترار التقليدي اللفظي للحقوق والمقدسات والمحرمات الى غير ذلك من المسميات التي يتشدق بها حكام الأمتين العربية والأسلامية، اللذين وصل بهم الأمر الى حد عدم الشعور بوجود أي خطر أو سبب يستدعي اتخاذ أي إجراء حقيقي لدعم عروبة القدس وصمود أهلها .
الموقف الأساسي الذي يتطلب تأكيداً عربياً واسلامياً مستمراً واضحاً لا لبس فيه، وملزماً لا اجتهاد فيه، هو أن القدس مدينة فلسطينية عربية، السيادة السياسية عليها ملك للشعب العربي الفلسطيني فقط. وأي نوع أو نمط آخر من السيادة بما في ذلك السيادة الدينية غير مقبول وغير معترف به، بل وقد تستعمله إسرائيل واليهودية العالمية جسراً لتنفيذ مخططاتها المتعلقة بالقدس .
إن ممارسة الفلسطينيين لحقهم السيادي يأتي طبيعياً وفي سياق الأمور في حين أن ممارسة أي نوع آخر من السيادة بواسطة جهة غير فلسطينية أمر غير مقبول إطلاقاً وفي حال حدوثه فإن الثمن لممارسة سيادة دينية لا معنى حقيقي لها سيكون فاجعاً وهو الاعتراف بشرعية الأحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس كون سلطة الاحتلال سوف تكون عملياً مصدر ومنبع تلك السيادة الدينية المزعومة والتي تحتاج حكماً إلى موافقة سلطات الأحتلال الأسرائيلي .
ان التعامل مع قضية القدس، كقضية وليس كمشكلة كما يحلو للبعض أن يصفها، يجب أن يتم من خلال منظور استراتيجي واضح لا يسمح بالأنزلاق في التفاصيل الصغيرة وبما يسمح لتلك التفاصيل أن تصبح وكأنها هي القضية الأساس . وهذا نهج اسرائيلي تقليدي في التعامل مع الفلسطينيين والعرب، حيث يتم إغراقهم في التفاصيل بهدف إبعادهم عن القضايا الأساسية،خصوصاً في مفاوضات غير متكافئة كالتي تجري الآن بين الأسرائيليين والفلسطينيين وأطراف آخرى منها الأردن .
قضية القدس يجب أن لا تكون محصورة بنفق أو مسجد أو كنيسة. فالقدس قضية سياسية، حدودها مدينة القدس بغض النظر عن مساحتها الجغرافيه أوتركيبتها السكانية . وكل خطوة تكرس الحق السياسي الفلسطيني في القدس هي خطوة هامة مهما صغرت . إن المسؤولية الفلسطينية هي في ذلك بالتحديد، وليس في الدفاع عن مسجد أو كنيسة وجعلها قضية بديلة عن قضية القدس. لا يوجد بديل عن القدس سوى القدس، واذا كانت مسؤولية الفلسطينيين تكمن في الدفاع عن السيادة السياسية على القدس، فإن مسؤولية المسلمين والمسيحيين هي في التصدي للهجمه الدينية اليهودية، والدفاع عن حقوق المسلمين والمسيحيين الدينية في القدس ولكن ضمن مفهوم واطار السيادة السياسية للفلسطينيين وليس خارجها أو بشكل منفصل عنها أو حتى موازي لها. واذا كانت السيادة السياسية للفلسطينيين على القدس هي في صلب قضية فلسطين، فإن منع تحويل القدس الى مدينة لليهود واليهودية هو في صلب قضية القدس. ان المساهمة في الدفاع عن قضية القدس يجب أن تشكل مدخلاً لابراز الأهمية السياسية والدينية للقدس ومستقبلها تحت السيادة الفلسطينية العربية، لا أن تشكل مدخلاً لاقتناصها من الداخل وتوزيع الأسلاب والغنائم بإسم الدين وعلى حساب الفلسطينيين. وعلى كل المفاوضين في كل زمان ومكان سواء أكانوا فلسطينيين أم أردنيين أم غير ذلك أن يعوا هذه الحقيقة وأن يعلموا أن أي حل يتجاوز السيادة الفلسطينية على القدس هو تصفية للقضية الفلسطينية وهو خيانة للثوابت الفلسطينية، وأنه لا يوجد أي سيادة أو ولاية دينيه لأحد على القدس سوى السياده الفلسطينية والولاية الفلسطينية. وعلى القياده الفلسطينية أن تعلم بأن التآمر مع المطالب الأمريكية والأسرائيلية باستبدال القدس بضواحيها مثل أبو ديس كعاصمة لأي كيان فلسطيني وتقسيم السياده عليها إلى سيادات فلسطينيه وإسرائيليه وولايات ووصايات دينيه مثل الوصايه الأردنيه على الأماكن المقدسة الأسلامية هي خيانة للقدس وخيانة لفلسطين . لا أحد يفاوض عدوه وهو في أضعف حالاتة، والفلسطينيون سوف يكونون في حال أفضل بتجنب الانخراط في مفاوضات تهدف إلى انتزاع مزيد من التنازلات لصالح إسرائيل.

كاتب اردني lkamhawi@cessco.com.jo

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير