jo24_banner
jo24_banner

أمسية أنور الشعر في الرواد الكبار

أمسية أنور الشعر في الرواد الكبار
جو 24 :

أقام منتدى الرواد الكبار أمسية أدبية للكاتب أنور الشعر، بعنوان (الأدب والتراث/ الشعر أنموذجاً)، السبت 15 آذار الجاري، في مقر المنتدى الكائن في عمان/ أم السماق، بحضور أعضاء المنتدى والمهتمين.

كلمة السيدة هيفاء البشير
كلمة رئيسة المنتدى هيفاء البشير، ألقتها نيابة عنها نائبة رئيس المنتدى فيروز شقم، تاليا نصها:
أصحــاب السعــــادة والعطوفـــة
السيـــــدات والســـــادة
مساءً طيباً مليئاً بالفرح والمحبة والإنحياز إلى الحياة ، مساء الخير والرضى والشكر لله على نعمة المطر ، مساؤكم جميل إذ نلتقي هذا المساء ضمن برنامج المنتدى الثقافي للاستماع إلى زميل جديد في المنتدى هو الأستاذ أنور الشعر في محاضرة بعنوان : الأدب والتراث- الشعر أنموذجاً ، فمرحباً بضيفنا وبزميلنا في المنتدى أنور الشعر ومرحباً بكم جميعاً .
السيدات والسادة :
ولأن الحديث عن الشعر ، ولأننا نعد الخطى باتجاه يوم الشعر العالمي الذي يوافق 21/3/2014م حيث تكثر المناسبات لدينا فهناك يوم الأم ، ويوم الكرامة ، ويوم المعلم وهي كلها مناسبات غالية وعزيزة على قلوبنا ، لذا فاسمحوا لي أن أقول لكم ولكن جميعاً ، كل عام والشعر والشعراء بخير ، كل عام والأردن الغالي شعباً وقيادة بخير ومحبة .
الحضور الكريم :
ولأننا نجتهد أن ننوع في برامجنا بين الثقافي العام ، والإبداعي المتخصص وبين الأنشطة الإجتماعية ، فإنني أدعو عضواتنا وصديقاتهن بالمبادرة للحجز لدى الآنسة شروق العمر في قسم الإستقبال للمشاركة في رحلة غداء إلى دير علا في الأغوار حيث الدفئ والخضرة ، فمرحباً بكن عضوات وصديقات لإنجاح هذه الرحلة الربيعية الجميلة .
وفي الختام ، وإذ أحييكم جميعاً وأحيي ضيفنا مؤكداً الترحيب به مرتين ، الأولى باعتباره عضواً في المنتدى ، والثانية باعتباره باحثاً محاضراً ، فإنني أتطلع إلى أمسية رائقة متميزة تعالج آليات توظيف التراث في الشعر لتعطينا تصوراً شاملاً حول هذه القضية المعرفية الهامة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


محاضرة أنور الشعر الأدب والتراث: الشعر أنموذجا

الأمّة المنبتّة عن ماضيها، المنقطعة عن تراثها أمّة آيلة للسّقوط وسائرة في طريقها إلى الزّوال والاندثار، فالانسلاخ عن الماضي وعن التّراث هو رفض للواقع الّذي تستمدّ منه الأمّة وجودها ومسوّغ بقائها، وحكم عليها بالخواء الروحي إذ "إنّ تراث الأمة هو روحها ومقوماتها وتاريخها، والأمة التي تتخلى عن تراثها تميت روحها وتهدم مقوماتها وتعيش بلا تاريخ."(1) ويتواصل الشاعر مع تراثه في علاقة جدليّة يؤثر كل منهما بالآخر. فالتّراث يشكّل جزءاً رئيساَ من شخصيّة الشّاعر وتكوينه الثّقافي، إذ تتراكم مكونات هذا التّراث على مدى أعوام في مكنونات اللّاشعور لديه، فيستخرج من هذا المنجم الثّمين ما يتواءم مع تجربته الشّعريّة النّابعة من حالته النّفسيّة، وخلفيته الاجتماعية، والسياسية، والفكرية. ويختلف استدعاء التّراث وتوظيفه من شاعر لآخر، اعتماداً على فهم الشّاعر للمضامين التّراثية لأمّته، وعلى مستواه الفكريّ والثقافيّ، وانتمائه السياسي، وطبقته الاجتماعية، وقدرته على توليف أدواته الشّعرية وتوظيفها في قالب شعريّ.
مفهوم التراث
اشتقت كلمة "تراث" من كلمة (وَرثَ). وأورد ابن منظور صاحب لسان العرب قوله: وَرِثَهُ مالَه ومجدَه، ووَرِثَهُ عنه وِرثاً ووِراثةً، وإراثةً، وقال: وَرِثَ الرّجل أباه يَرِثُه، وأورث الرّجل ابنه مالاً. وجاء أيضاً في باب مادة "أرّث" قوله: الإرث هو الأصل. ويرى محمد عابد الجابري في كتابه "التراث والحداثة" أنّ كلمة التراث تشير إلى التّركة الفكريّة والرّوحيّة، وما هو مشترك بين العرب لتجعل منهم جميعاً خلفاً لسلف، وإذا كان "الإرث" أو "الميراث" عنوان اختفاء الأب وحلول الابن محله، فإن "التّراث" قد أصبح في الوعيّ العربيّ المعاصر عنواناً على حضور الأب في الابن... أي حضور السّلف في الخلف، ويعني ذلك حضور الماضي في الحاضر، وذلك هو المضمون الحيّ في النّفوس... الحاضر في الوعي.
أما "نديمة عيتاني" في كتابها "التراث في الحضارة العربية" فتتناول قضية التراث من منظور اجتماعي وأيديولوجي ، فتعرّفه باعتباره "انتقال السمات الحضرية أو الثقافية لمجتمع معيّن من جيل إلى جيل، عن طريق التعلم والتعليم، ويسمى بالتراث الحضاري أو الثقافي أو الاجتماعي ويتحدد التراث باعتباره مصطلحا اجتماعيا بالسمات الحضارية أو الثقافية أو الاجتماعية لأمة من الأمم. إنه تركة الأجيال الماضية من حضارة مادية ومعنوية يتلقاها الأفراد من المجتمع الذي هم أعضاء فيه...".
وقد ظلّت لفظة "التّراث" قليلة الاستعمال عند الشّعراء والمفكّرين القدماء إلى أن شاعت في العصر الحديث بمعنى البحث عن الماضي؛ ماضي التّاريخ، وماضي الحضارة، وماضي الفّنّ والأدب، وماضي العلم. والذي يعنينا من هذا الماضي هو التّراث الفكريّ والأدبي والفني. وليس هناك حدود معيّنة لتاريخ أيّ تراث فكل ما خلّفه مؤلف من إنتاج فكري بعد حياته طالت تلك الحياة أو قصرت يُعدّ تُراثاً فكريّاً(2).
وفي الغرب، طرحت قضية المعاصرة والتراث مع بدايات عصر التنوير في أوروبا، وكانت الاستجابة هي العودة إلى استلهام الموروث ومحاكاة الأعمال الفنية والأدبية الكبرى في التراث الإغريقي. وكان ذلك ردًا على الحركة الرومنطيقية التي أكدت أهمية العنصر الفردي في الأدب استنادا إلى موقفها الفلسفي الذي يعلي الفرد على المجتمع. وكانت النتيجة الحتمية لهذه النظرة الإيمان بأن الإبداع انقطاع عن التراث يحقق ذاتية الأديب أو الفنان ويكسبه شخصيته.
ولعل أول من ثار في وجه الرومنطيقية بشكل منهجي، وثبت نظرة جديدة في الأدب والشعر هو الشاعر والناقد الإنجليزي تي إي هيوم في مقالته التي كتبها عام 1913 بعنوان (الرومنطيقية والكلاسيكية) التي عدت بداية مرحلة أدبية جديدة هي مرحلة ما اصطلح على تسميته بحركة الشعر الحديث التي كان هيوم نفسه، وإزرا باوند ،وتي إس إليوت من أكبر دعاتها وشعرائها في الحياة الأدبية الغربية في القرن العشرين.
واستطاع هيوم أن يثبّت مبادئ جديدة أفاد منها تي إس إليوت في تأكيده ارتباط الإبداع الحديث بالتراث. كما أفاد منها إزرا باوند في وضع أسس المدرسة التصوبربة( (Imaginism ومنه أفاد إليوت في تطوير هذه المبادئ، بشكل أخص في مقالته (التراث والموهبة الفردية) التي كتبها عام 1919 وأكد فيها العلاقة الإيجابية بين الكتابة المعاصرة والتراث.
وكان تعريف إليوت للتراث حجر الزاوية في بنية النقد الأدبي الحديث إذ يقول: (إن التراث يتضمن أساسًا، الحسّ التاريخيّ الذي ينطوي على إدراك نافذ ليس لماضوية الماضي فحسب بل لحضوره، وهو يلزم الشاعر بأن يكتب لا بوعي الانتماء إلى جيله فحسب، بل بتأثير الشعور بأن أدب بلاده بأسره موجود بشكل متزامن ويؤلف نظاما متزامنا. هذا الحس التاريخي ـ على حد قوله ـ هو حس بالسرمدي وهو حس بالزمني أيضا، كما أنه حس بالسرمدي وبالزمني معا. وهو في الوقت نفسه ما يجعل الكاتب يعي بحدة مكانه في الزمن، أي كونه معاصرا). ويستنتج إليوت مبدأ أساسيا في النقد وهو أنه (ما من شاعر أو فنان، في أي فن من الفنون، يصل إلى معناه الكامل وحده. إن أهميته وإدراك قدره هما إدراك وتقدير لعلاقته مع الشعراء والفنانين الراحلين.. فما يحدث عند إبداع عمل فني جديد يحدث بشكل متزامن لجميع الأعمال الفنية التي سبقته، فالأعمال الفنية القائمة تشكل نظاما مثاليا فيما بينها يتحور بدخول العمل الفني الجديد إليها.. إن الماضي يجب أن يحل محله الحاضر كما أن الحاضر يوجهه الماضي، والشاعر الواعي لذلك يكون واعيا للصعوبات الكبيرة التي يواجهها ولمسئولياته العظيمة.
الشاعر المعاصر والتراث:
العلاقة بين الشاعر والتراث ليست علاقة قسرية، إنما هي اختيار واعٍ وفق رؤية الشّاعر وموقفه من التّراث ومن الواقع، فمعطيات الواقع تتفاعل مع مكونات التّراث في ذهن الشّاعر لتندغم حركة التّراث الدائبة مع سيرورة الحركة الفاعلة في المجتمع فتتولد رؤية وتجربة شعريّة معاصرة. ويقول عبد الوهاب البياتي: "إنني عندما اختار هذه الشّخصيّة أو تلك لأتوحّد معها، إنما أحاول أن أعبّر عما عبّرت هي عنه، وأمنحها قدرة على تخطّي الزّمن التّاريخيّ بإعطائها نوعاً من المعاصرة".(3)
ويمكن القول إن التّراث منجم طاقات إيحائية لا ينفد له عطاء، فعناصره ومعطياته لها من القدرة على الإيحاء بمشاعر لا تنفد وعلى التأثير في النفس البشرية، ما ليس لأية معطيات أخرى يستغلها الشّاعر، لأن هذه المعطيات التّراثية تعيش في وجدان النّاس وأعماقهم وتحفّ بها هالة من القداسة.
ونلمس أن توظيف الشّاعر المعاصر للتّراث يضفي على عمله الإبداعي عراقه وأصالة ويمثّل نوعا من امتداد الماضي في الحاضر وتغلغل الحاضر بجذوره في تربة الماضي الخصبة، كما أنّه يمنح الرؤية الشعرية نوعا من الشمول والكلية، فيجعلها تتخطى حدود الزمان والمكان، لذلك يحاول الشاعر العربي المعاصر أن يعيد النظر في التّراث ليستلهم ما فيه من قيم ذاتية روحية وإنسانية، وتوطيد الرابطة بين الحاضر والتراث عن طريق استلهام مواقفه الروحية والإنسانية في إبداع عصري.
وعلاقة الشاعر المعاصر بالتراث ليست علاقة عداء، فالمغايرة لا تعني المعاداة فإذا كانت التجربة الجديدة تختلف في منحاها الجمالي شكلا وموضوعا عن منحى الشعر القديم فينبغي أن لا نسرع فنستخلص من هذا أن أصحاب التجربة الجديدة يعادون التراث، فالشعر المعاصر وليد شرعي لكل ما سبقه من اتجاهات . 
ويشكل التراث مخزوناً منجزًا ومتجذراً في اللاوعي الجمعي للأمة، وهو بذلك يكون جسر تواصل وتفاهم بين الشاعر والمتلقي، فيقدم الشاعر رؤيته مدعمة بمعطيات التراث، وينقلها للمتلقي بشكل يعزز الثقة بينهما، فيدخل معه في حوار حضاري يهدف إلى فهم الحاضر وكشف المستقبل، فيشارك المتلقي الشاعر في توتره وأزماته وهواجسه وتناقضاته، وبذلك يلج الشاعر في توتره إلى ذوات الآخرين، ويتخلص من دائرة تمركزه الذاتي حول نفسه، فينقل وعيه إليهم ويتحقق التواصل الوجداني والذهني والثقافي والاجتماعي بينهم. ويسهم توظيف معطيات التراث في جعل النص الشعري نصّاً إبداعياً يحمل في طياته فكر الشاعر، وثقافة مجتمعه وعصره وبيئته، وبذلك تصبح القصيدة مادة تراثية للأجيال اللاحقة من الشعراء.
ويعد توظيف التّراث في الشعر المعاصر ظاهرة مهمة، فلا نكاد نجد شاعراً معاصرًا إلاّ ووظّف التّراث في جانب من جوانبه ، إذ إنّ عودة الشّاعر المعاصر إلى التّراث يستلهمه ويشكّله في أعماله الشّعرية تُمَثّل عودة إلى أكثر الينابيع خصوبة، وتمثل في الوقت ذاته إدراكاً واعياً للشّاعر وللجمهور بأنّ التّاريخ القوميّ والإنسانيّ في خير ما فيهما حاضرٌ حيث يكتب، ويستلهم، ويفعل. وبهذه العودة تغدو الأمّة كشجرة سنديان لا تهزّها ريح، ولا يعصف بها إعصار، أو كزيتونة طيّبة، لا شرقيّة ولا غربيّة، أصلها ثابت وفرعها في السّماء تؤتي أكُلَها كلّ حين.

دراسات وآراء في علاقة الشاعر بالتراث
تناول أسعد رزوق العلاقة بين الأسطورة والشعر المعاصر بالدراسة في كتابه (الأسطورة في الشعر المعاصر) الصادر في نهاية الخمسينات من القرن العشرين متخذاً من ت. س. إليوت نقطة انطلاقه في منهج البحث والدّراسة. وقد انتهى إلى أن هناك علاقة وثيقة بين الأسطورة والشعر من حيث نشأتهما التاريخية، وأن استحضار الشعراء المعاصرين للأسطورة، هو تعبير عن أزمة الإنسان الحضارية في القرن العشرين. وقد كان إليوت، ـ في نظره ـ نموذجاً رائعاً في تجسيد هذه الأزمة حين أعلن صراحة، أن لا خلاص من الأرض الخراب إلا بالعودة إلى أحضان التراث الشعبي بطقوسه ومعتقداته.‏
وتتبع أنس داود في أطروحته الموسومة (الأسطورة في الشعر العربي الحديث) ظاهرة توظيف الأسطورة، في الشعر العربي الحديث والمعاصر: بدءاً من مدرسة الإحياء إلى مدرسة التجديد ممثلة في بدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وخليل حاوي وغيرهم من رواد حركة التجديد في الشعر المعاصر.‏
ولعل الناقد والشاعر أدونيس من أكثر المتشددين في رفضه للتراث، إذ يقول في كتابه (الثابت والمتحول ـ صدمة الحداثة): (إذا سئلت الآن: كيف تحدد علاقتك، أنت الشاعر الحديث، بتراثك الشعري العربي فكيف تجيب؟
ـ أجيب اولا: لا معنى لهذا السؤال ـ ذلك أني لا أستطيع أن أحدد علاقتي مع شيء غائم غير محدد، وإنما أحددها مع شاعر معين. وأجيب ثانيا بتساؤل: ماذا تعني العلاقةهنا؟

إذا كان السؤال مطروحا بمنطق الثقافة السائدة فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مؤتلفا مع (تراثي)، أي أن لا آتي بشيء إذا لم يكن أسلافي من الشعراء عرفوه ومارسوه وأقروه. أما إذا كان السؤال مطروحا بمنطق الرؤية الإبداعية فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مختلفا عن أسلافي من الشعراء.. بل أكثر: لا يكون الشاعر العربي الحديث نفسه حقا إلا إذا اختلف عن أسلافه، فكل إبداع اختلاف."
ويرى أدونيس :"إن أشكال التعيير الموروثة لغة وبناء إنما هي بمثابة القشرة والسطح ولا بد من تمزيقها لكي نصل إلى لغة وبناء جديدين ." ويواصل قوله: " إن العلامة الأولى للجدة الشعرية هي في نفي السائد المعمم ورفض الاندراج فيه والانفصال عن الكلي، فالرفض أو النفي هو بهذا المعنى علامة الأصالة إلى كونه علامة الجدة".
وكتب علي عشري زايد كتابا وسمه (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر) عمد فيه إلى رصد هذه الظاهرة رصداً فنياً من خلال تحديد ملامحها وتجلياتها، وربطها بمرجعيتها العربية والإسلامية، مظهراً ثراء هذه المرجعية، وقدرتها على العطاء الدائم والمتجدد إذا أحسن استخدامها.‏
وتعرض الناقدة خالدة سعيد في كتابها البحث عن الجذور الذي تراجع فيه إشكالية قراءة التراث وعلاقته بالنص الشعري المعاصر؛ كيفية توظيف التراث في حد ذاته، وضرورة فهم التراث في سياق معالم تشكل الرؤية الفكرية والأيديولوجية لدى الشاعر أو الأديب، حيث تصبح المادة التراثية عجينة تتشكل بحسب قدرة الشاعر على فهم هذا الموروث، والعمل الأدبي- في رأيها- يمتد ليتقصى اللمحات الأسطورية والإشارات الرمزية، والصورة واللافتات الفكرية التي تعود بمجموعها إلى الجذور التراثية.
أما الناقد حسين مروة في كتابه دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي فتكلم عن مقاربة الموروث الفكري والأدبي، تجسيدا للحس الماركسي الاشتراكي في فهم التراث والدعوة إليه، فنادى بضرورة الكشف عن مستويات إدراك مفهوم الحرية لدى أدباء التراث العربي، ودعا الى مراجعة ماهية الحرية في الموروث الأدبي القديم باعتبارها حلقة من حلقات ربط الصلة مع الماضي، ويؤكد ضرورة ألا تخرج، أو تُحيد الدعوة إلى الحرية عن الأوضاع التاريخية لهذا التراث، لأن سياق الماضي بما فيه من موروثات يختلف جذرياً عن سياق الحاضر الذي ينطلق منه الشاعر العربي المعاصر.
وتحدث مارون عبود في كتابه "نقدات عابر" عن علاقة التراث بالشعر الحديث عن قضية الثورة على القديم، فيرى أننا، شئنا أم أبينا، موصولون ثقافياً وحضارياً وفكريا بالماضي، لهذا يصبح كل تجديد يخطط له عقيماً إذا لم ينطلق عن رؤية سابقة، فيقول: "إن الذين يتنكرون للماضي لفي ضلال، فهم لن يفلتوا من براثن الأمس، وبرهاني على ذلك أننا لا نزال نُحني الهام عندما يذكر راسين، وهوميروس، وشكسبير، وفرجيل، وامرؤ القيس وسليمان وداوود، ومحمد، وعيسى وغيرهم، ... فلنفتش عن الجديد في عقول النوابغ، أما هذه الدساتير: افعل كذا، فلا تؤتي ثمارها في إحياء الفن الحيّ الباقي...".
ويخاطب عبود دعاة التغريب، فيقول: "... فأنتم يا أتباع الشاعر العظيم إليوت، لم يقل لكم زعيمكم هذا بالتنكر للماضي كل التنكر، بل قال: المهم أن يحسّ الشاعر بالماضي إحساساً مستمراً، ولا يكف عن تنمية هذا الإحساس خلال أطوار حياته المختلفة، وعندي أن الشعر لا يكون في خلق الصور الغريبة البعيدة عن واقع الحياة، بل في التعبير عن مشاعر الحياة، العادية تعبيراً يستحلى ويستملح".
وكانت دعوته الى عدم التنصل من الموروثات دعوة انتقائية أساسها رفض تثبيت الثابت بدعوة القداسة، بل نادى بإقرار كل متحول. فنادى مثلاً "بضرورة التجديد في اللغة والوزن والقافية، لحاجة روح العصر الى هذا التجديد الذي لا يعني في أي حال من الأحوال الهدم من أجل الهدم فقط، فالثورة على الموسيقى الشعرية القديمة من وزن وقافية، لا تعني أن يغيب التشكيل الموسيقي عن الشعر، وإنما وجب تشكيله في أوجه جديدة ومختلفة بحسب الأبعاد النفسية للشاعر ذاته، لأن الكلام الشعري غير المقيّد بوزن لا يخرجه لذيذاً شهياً إلا من كان شاعراً وزّاناً في الأصل".(نقدات عابر)
ويرى الناقد إحسان عباس أن الثورة التي قام بها الشاعر المعاصر على الشكل اللغوي كانت خطوة تمهيدية لتوثيق علاقته بالتراث. إذ إن للماضي حضورًا حتميًا لا تستطيع أية ثورة أن تنفيه ومثال ذلك حضور اللغة، ذلك الحضور الذي لا يمكن لأي شاعر أن ينكره أو يفلت منه، فالشاعر لا يخلق اللغة مهما يحاول التحول بها وإفراغها من دلالاتها الثابتة، فاللغة – كما يقول دونالت بارت- "ليست أبداً بريئة، فالكلمات ذات ذاكرة ثابتة تظل تلح على مثولها من خلال المعاني الجديدة.
أما "عز الدين إسماعيل" فتناول في كتابه "الشعر العربي المعاصر"علاقة الشعر العربي المعاصر بالتراث تناولاً تطبيقياً راجع خلاله حضور الموروث في النص الشعري لدى كثير من الشعراء الرواد، فلاحظ أن التراث تجلى واختفى في الشعر العربي المعاصر في الوقت ذاته؛ تجلى عندما قرّر الشاعر المعاصر إعادة قراءة الموروث قراءة صادقة معبرة عن رؤية ذات صلات وثيقة بالماضي، واختفى عندما كُسّر إطار الشعر القديم فاختفى التشكيل المعماري الأنموذج، وعُوض بالتجارب التشكيلية المتفرّدة النابعة من الرغبة في بناء النموذج المتغير لا النموذج الثابت.
وأما الشاعر أمل دنقل فتمثل استخدام التراث في شعره بنحو واضح، بالإضافة إلي مكوناته الثقافية الخاصة، فقد قرأ كتب التراث منذ وقت مبكر وبحث عن القيم الجوهريه التي يوحي بها ذلك التراث. وتقول أرملته عبلة الرويني «....في تلك السنوات قرأ العديد من كتب التراث والملامح والسير الشعبية، ثم أعاد قراءتها بعد ذلك مرات عديدة، وفي طبعاتها المختلفة، يحركه حس تاريخي لاكتشاف الطبقات المتراكمة وراء الحكايات والمعلومات. ..... »
ويقول أمل دنقل: «إن استلهام التراث في رأيي ليس فقط ضرورة فنية. ولکنه تربية للوجدان القومي، فإنني عندما أستخدم التراث أُلقي الضوء على التراث العربي والإسلامي الذي يشتمل منطقة الشرق الأوسط بکاملها، فإنني أنمي في المتلقي روح الانتماء القومي وروح الإحساس بأنه ينتمي إلى حضارة عريقة، لا تقلّ إن لم تزد عن الحضارات اليونانية أو الرومانية».
ويرى الشاعر "خليل حاوي" أن العودة إلى التراث ليست عودة لإحياء الأنماط و النماذج التي استقرت في قوالب جادة بل هي عودة إلى الينابيع التي تفجرت منها روح حيوية ولدت أنماطًا جديدة ، ولعل "خليل حاوي" بوعيه وثقافته وتجربته الشعرية من خير من عبر عن مسألة التراث وعلاقته بالحداثة والتجربة الشعرية حين قال: "... حين أُعيد النظر في نهضة الشعر العربي أرى أننا كنا نحاول واعين أن نحدث ثورة تجعل الشعر الحديث ينفصل عن الشعر العربي بقدر ما يتصل به ،وكان كل منا يحاول الانطلاق مما يراه عناصر حية في التراث ، وأعتقد أن كل نهضة شعرية في أمة تحمل تراثا شعريا عريقا متراكما لا بد لها من العودة إلى الينابيع الأصلية التي كانت مصدر كل نهضة في الماضي".
ويرى صلاح عبد الصبور أن: التراث هو جذور الفنان الممتدة في الأرض والفنان الذي لا يعرف تراثه يقف معلقا بين السّماء والأرض. والتراث عنده هو ما يجد فيه غذاء روحه ونبع إلهامه وما يتأثر به من النماذج فهو مطالب دوما باختيار سلسلة من نماذج الأدباء والأجداد من أسرة الشعر. ومن هنا ذهب الشاعر العربي المعاصر إلى مثاقفة التراث وتفعيله "بوصفه مُعطى حضاريا وشكلا فنيا في بناء العملية الشعرية".

عناصر التراث الموظفة في الشعر العربي المعاصر:

أولاً: التراث الديني: ويتضمن التراث الديني الإسلامي بما فيه آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والأحداث والشخصيات البارزة في الياريخ الإسلامي. ويشمل أيضا التراث الديني اليهودي والتراث الديني المسيحي بما فيهما من أحداث وشخصيات
ثانيا: التراث الأدبي : ويشمل الأعمال الشخصيات الأدبية التي كان لها حضور في التراث الأدبي العربي.
ثالثا: التراث التاريخي: ويتضمن الأحداث التاريخية التي شكلت مفاصل بارزة في التاريخ العربي الإسلامي وكذلك وسير الأبطال والشخصيات التي كان لها تأير إيجابي أو سلبي في صنع الأحداث في التاريخ العربي والعالمي.
رابعًا:التراث الفلكلوري والأسطوري: ويرتبط التراث الشعّبي بمكوّناته المختلفة من أغان ومواويل، وحكايات، وشخصيّات، وأدوات وأمثال شعبية بالّلاشعور الجمعيّ للأمة إذ إنها ترتبط بحياة النّاس اليوميّة تتوارثها وتتناقلها من جيل إلى جيل. لذلك شكلت مكونات هذا التراث أداة للتعبير الأدبيّ تتسّق ومكنوناتهم اللاشعورية، وبنيتهم الفكريّة والثقافية.
وقد وظف الشعراء المعاصرون الأساطير العربية والأجنبية في قصائدهم، فوظفوا الأساطير الكنعانية بشخصياتها المتدفقة حيوية والغنية بالرموز مثل عناة، وبعل، وإيل ، كما وظفوا أسطورة العنقاء/ الفينيق، وأسطورة باندورا، وأسطورة جلجامش، وبروميثيوس، والملك أوديب.

دوافع توظيف التراث في الشعر المعاصر
أ - الدافع الوطني والقومي
تنتاب الأمة في بعض عصورها نوبات من الضعف والوهن، فتداعى عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فتتعرض للغزو، ويسوم الغزاة أبناءها أصناف التنكيل والتعذيب، وتتعرض لسلب أراضيها ومحاولات استلاب هويتها القومية. وقتئذ يشكل التراث القومي الجذر العميق الذي يمد الأمة بمقومات وجودها وبقائها، فيستلهم الشعراء منه عناصر قوة تساعدهم في الوقوف في وجه التحديات، فيكون الشاعر أقدر على الدفاع عن هوية أمته وشخصيتها.
ب - الدافع السياسي والاجتماعي
يتمثل الدافع السياسي لتوظيف معطيات التراث في استنفار عناصر التراث واستحضارها في القصيدة في ظروف سياسية، واجتماعية يسودها القهر والاضطهاد يحس بها الشاعر والمتلقي، فيعبر الشاعر عن وجدانه ووجدان متلقيه من أبناء شعبه بالعودة إلى الأصوات التي مرت بالتجربة نفسها التي يمر بها الشاعر ومجتمعه. وتبعاً لذلك ظهرت العديد من الأصوات الشعرية المعاصرة لتمثل حركة تمرد على الواقع، وتمثل هذا التيار في شعراء المقاومة داخل فلسطين وخارجها، وشعراء آخرين مثل السيّاب، وصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل.
ت - الدافع النفسي
يعيش الشاعر العربي المعاصر ظروفا في غاية القسوة والتعقيد، فمن احتلال يحاول بكل أدواته نزع الأراضي من أصحابها واستلاب هويتهم الوطنية والقومية، إلى ظروف سياسية قاهرة في دول المنافي والشتات، إلى ظروف اقتصادية متردية وبيئات اجتماعية يسودها الأمراض الاجتماعية من فقر، وجهل، وبطالة، وفساد اجتماعي واقتصادي وسياسي . كل هذه الظروف تدفع الشاعر لمحاولة الإصلاح، ومقاومة الفساد والتبعية الخارجية، فيواجه بآلات القمع السياسية والاجتماعية التي تحاول إجهاض محاولاته وغيره من المثقفين، وتنظم حملات شرسة لإخماد صوته، أو حتى تصفيته جسدياً، عندها قد ينتاب الشاعر شعوراً بالغربة، والمرارة، واليأس. في مثل هذه الظروف لا يجد الشاعر إلاّ تراث أمته حصنا قوياً يحميه من هذا الوضع النفسي المتأزم، ويجد فيه المتنفس الذي يمكنه من قول كل ما يريد والتعبير عن خواطره وخلجات نفسه دون وجل من سلطان.
ث- الدافع الفني
يعد الدّافع الفنيّ الوحيد المرتبط بأدبيّة العمل الأدبيّ والسّبب في "شرعيّة العمل الشّعريّ" أي مسوّغ وجوده، فالدّوافع الأخرى ترتبط بعوامل خارجيّة تسهم في الارتقاء بالعمل الشّعريّ، لكنها لا تشكل جانباً من عناصره الإبداعيّة. ويقصد بالدّافع الفنيّ توظيف التّراث واستدعاء أدواته، ورموزه، وأقنعته، وأساليبه البلاغيّة، وأحداثه، وشخصيّاته، وتراكيبه للارتقاء بالعمل الشّعريّ بالمواءمة بين الأصالة والمعاصرة، فيقدّم له مسوّغ استمراريّته، وإلاّ تحول إلى شعر مناسبات ينطوي على قيمة فنيّة محدودة.
ويمكن القول إن توظيف المعطيات التراثية توظيفاً فنياً إيحائياً للتعبير عن رؤية شعرية معاصرة يجعل من القصيدة نسيجاً شعريا متيناً. ويهدف التشكيل التراثي إلى تعميق صلة العمل الشعري بالوجدان الشعبي وتحقيق التواصل مع جماهير الأمة بتوظيف المعطيات التراثية المرتبطة بالموضوع ذي الصلة.
ويسهم الدافع الفني لتوظيف التراث في تقديم تفسير جديد للتراث برؤية جديدة، مستمدة من روح العصر بحيث تتواءم الأشكال التراثية للمضامين الجديدة التي تسهم في استمرارية الحياة وتطورها بأدوات فنية جديدة.
ويعد توظيف التراث تقنية فنية راقية تخلق تفاعلاً إيجابياً بين الماضي والحاضر وتربطهما بالمتلقي ليستشرف بهما آفاق المستقبل. وتعمل على تشويق المتلقي، ويجسد رؤية أعمق وأشمل للواقع وللحياة، ويولد طاقة إيحائية كبيرة، ويفضي إلى رموز ذات دلالات متنوعة. وظهر هذا التفاعل في أشعار الشعراء المعاصرين. فقد ربطوا معطيات التراث المستلهم من أحداث الأزمان الماضية وشخصياتها بواقع الحياة المعيشة، فتم تكثيف المعنى وتعميق الرؤية، والابتعاد عن لغة الخطاب الانفعالية، وإكساب النصوص مزيداً من الهدوء، والانسجام، والاتساق بين الشكل والمضمون.
ولقد وظف جلّ الشعراء المعاصرين معطيات التراث في أشعارهم، ووجدوا في النماذج العليا حافزاً للتواصل معها وتوظيفها في أعمالهم الشعرية، فهذه النماذج المستقاة من أعماق الماضي بعثت الماضي وجعلته قادراً على تقديم أفكار ورؤى متجددة للشاعر فهي – كما ترى سلمى الجيوسي- "النماذج العليا التي يصلح الكثير منها أقنعة ووسائط ورموزاً يعبر الشاعر الحديث من خلالها عن رؤاه للحياة والعالم بطريقة حسية تمور بالحركة وتمنح القارئ إحساساً بتتابع وحدة الزمن وتشابهها وتكرارها".
ومن أهم الدوافع الفنية وراء توظيف التراث لدى الشاعر المعاصر هو الارتقاء بقصيدته فنيا، وذلك بربط الماضي ممثلا بمعطيات التراث التي تتسق مع رؤيته بالزمن الحاضر وما فيه من متغيرات سياسة، واجتماعية، وثقافية، وحضارية بحيث يندغم الزمنان في عمل فني يستشرف أفاق المستقبل. ويتخير الشاعر ما يوائمه من التقنيات الفنية ويصهرها في تجربته الشعرية ليرتقي بها في عمل فني يوائم بين الأصالة المعاصرة. ولكن ما التقنيات الفنية التي وظفها الشاعر المعاصر في قصيدته؟
لقد وظف الشاعر المعاصر عدة تقنيات فنية(4) منها: القناع، والأسطورة، والرمز الفني، والصورة الشعرية، والصور اللغوية والبلاغية.
فقد وظف الشاعر المعاصر القناع(5) وتقمص شخصيات تراثية واستدعاها وحاورها وتقنع بأقنعة تراثية كثيرة، واتكأ على تعدد الأصوات الشعرية في النص. وقد وظف بعضهم توليفة من معطيات التراث المختلفة تتفاعل مع بعضها داخل الشاعر فأقام نسيجاً من العلاقات الخفية داخل نصه فأسهمت هذه التقنية في ارتقاء تعبير الشاعر عن رؤيته بعيداً عن بطش السلطة وتسلط الرقابة عليه، فالقناع هو "حالة من التماهي والتلبس بشخصية أخرى، تختفي فيها شخصية الشاعر، وتنطلق خلال النص بدلاً منه."
ووظف الشاعر المعاصر الأسطورة أداة فنية ارتقت بأشعاره ومكنته من تقديم رؤيته للمتلقي عن طريق بناء جسر ينتقل بالشاعر والمتلقي من الحنين إلى الماضي السحيق والطفولة الإنسانية المبكرة إلى ظلال الزمن الحاضر للوصول إلى فضاء المستقبل مزودين بظلال سحرية وطاقة خيالية جامحة، فالأساطير لها "قدرة على التشخيص والتمثيل، ومنح الحياة للأشياء الجامدة، أضف إلى ذلك هذه الطاقة الجامحة القادرة على ارتياد عالم الطبيعة والإنسان.
وقد استهوت الأسطورة الشاعر المعاصر في فكرة تجدد الخصب والحياة، إذ إن للأسطورة جاذبية خاصة، لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة وحركة الفصول، وتناوب الخصب والجدب، وبذلك تكفل نوعاً من الشعور بالاستقرار، كما تعين على تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية. ويرتقي توظيف الأسطورة بالقصيدة بالابتعاد بها عن التقريرية والمباشرة، فحضور الأسطورة في القصيدة يستدعي تقديم التجربة الشعرية بشكل رمزي.

الموقف من التراث
ظهرت ثلاثة مواقف متباينة من التراث في العقلية البشرية وتراوحت بين مؤيد متحمس ورافض وانتقائي.
أولاً : الموقف الرافض للتراث برمته من منطلق الثورة على كل ما هو قديم . ويعتقد أصحاب هذا الموقف أن المنهج الثوري يعني الثورة على كل ما هو قديم وهدمه، وإقامة كل شيء من جديد.
ثانياً: الموقف السلفي ، وهو موقف محافظ يدعو إلى الجمود عند التراث والاكتفاء بمواريث السلف وعدم الحيدة عنها قيد أنملة وتقديس هذا التراث وتعظيمه كماً وكيفاً دون تدقيق أو تمحيص .
ثالثاً: الموقف الانتقائي، ويعي أنصار هذا الموقف تماماً أن كل تراث إنساني يضم في داخله جوانب سالبة وأخرى إيجابية. وأن روح العصر تتطلب نظرة موضوعية وتمحيصية دقيقة في التراث لنأخذ النافع منه ونسقط الطالح منه وهم بذلك يفهمون أن المعاصرة بمعنى الارتباط الفعلي بالشرطين الزماني والمكاني أمر في غاية الأهمية.
إن الموقفين ( الرفض الكامل والقبول الكامل ) للتراث يدلان على ضيق الأفق وأحادية النظرة. وهذا لا يساير روح العصر. إذ يجب لتتحقق المعرفة الشمولية أن تكون النظرة لهذا التراث نظرة موضوعية وشمولية حتى يتأتى لنا الحكم حكماً صائباً.
أما الموقف الثالث وهو الموقف الانتقائي ، فأرى أنه موقف إيجابي وموضوعي ، يدل على عمق التفكير وشموليته وعلى الاستنارة وبعد النظر ؛ فهذا الموقف يدعو للتمحيص والتدقيق ، فيما هو صالح ، والأخذ بالأنفع من التراث ، وغربلته وعلى الشاعر أن يأخذ من التراث ما يتسق مع تجربته الشعرية، ويشكل لحظة وعي به ، ويستفيد منه في طرح قضايا معاصرة .
ورفض العديد من النقاد والشعراء والأدباء أن تكون العلاقة بين التراث والشعر علاقة وصاية أبوية، تحدد النهج، وتفرض الوسيلة، وترفض الخروج على القاعدة المطروحة منذ القديم. فعدّوا أسوأ الشعر ما كان صدى اتباعياً لأصوات الشعر الماضي. لكن مع ذلك قاموا بضبط العلاقات الأساسية التي يُسمح فيها بالتعامل مع التراث، فأجازوا العودة الى الماضي لا لتقليده بل للاهتداء بمعطياته واستخراج الدروس والعبر منه ليس إلاّ، دون نسيان أن ما مضى قد مضى، وأن الأمة جميعها يجب أن تحيا للحاضر والمستقبل وليس للماضي.
النظرة الشمولية للتراث
نظر محمد أحمد السيد في دراسته "عصرنة التراث" الى التراث نظرة شاملة دون حصره في رقعة معيّنة، أو لدى جنس من الأجناس، دون تحديد إطار زمني يبدأ وينتهي عنده موروث ما، فيقول: "التراث في معناه العام يشمل كل ما خلفته لنا الأجيال السابقة في مختلف الميادين الفكرية والأثرية والمعمارية والقيم والتنظيم والصناعة. وهو كل ما هو حاضر في وعينا الشامل مما ينحدر إلينا من التجارب الماضية في المعرفة والقيم والنظم والمصنوعات والحضور".
ويطرح محمد أحمد السيد فكرة احتواء الموروث العربي الإسلامي الموروثات الفكرية والحضارية والفنية والمعمارية قبل الإسلام، فيطالب بضمها إلى مجموع التراث العربي القديم، لأن ماضي الشعوب والأمم التي أسلمت ليس في الحقيقة إلا جزءاً من هذا التراث الجامع. إذ لا يجوز أن نقف بالتراث عند حد زماني ومكاني يحصره في نصوص الأدب الجاهلي وذخائر علوم العربية والتاريخ الإسلامي، بل تمتد أبعاده لتستوعب التراث القديم لكل أفكار وطننا العربي على امتداد الزمان والمكان، فمن بابل وأشور، ومن الفراعنة والبابليين وغيرهم من بُناة الحضارات القديمة، ومن الديانات السماوية وغيرها من الرسالات الروحية والاجتماعية والفكرية الكبرى، ينحدر إلينا تراث ضخم هو مجموع التاريخ المادي والمعنوي للأمة منذ أقدم العصور الى الآن".
وعبّر الشاعر السوري سليمان العيسى عن شمولية التراث العربي، فقال:
وأبعدُ نحن من عبسٍ
ومن مضر، نعم أبعد
حمورابي وهاني بعل
بعض عطائنا الأخلد
ومن زيتوننا عيسى
ومن صحرائنا أحمد
ومنا الناس - يعرفها
الجميع - تعلموا أبجد
وكنا دائماً نعطي
وكنا دائماً نُجْحَد!
ولكن هذا لا يعني ضرورة احتواء التراث كله باعتباره كتلة جامعة لكل ما سبق ذكره ، وإنما نتعامل مع التراث انطلاقاً من اختيار ما في التراث من نماذج صالحة للبقاء بإشعاع أفكارها وطروحاتها، فنعمد إلى التمييز والفرز والتبويب والتصنيف لنصل في النهاية إلى عملية التقويم المبنية على رؤية تحليلة لهذا التراث من خلال إدراك العلاقة بينه وبين الراهن المعيش في شتى تمظهراته.

أثر توظيف التراث في الشعر المعاصر
1- نهل الشعراء المعاصرون من التراث بشكل لافت لتوسيع أفقهم الثقافي، وتعميق فكرهم ، ووظفوا معطياته المختلفة في أشعارهم لإثراء تجاربهم الشعرية، فقد وظفوا الشخصيات الدينية، والأدبية، والتاريخية والفلكلورية، والأسطورية، بالإضافة إلى الأحداث والأماكن التاريخية للتعبير عن مواقفهم السياسية والفكرية. ويمكن القول إن استلهام التراث الأسطوري يعيد الشاعر والمتلقي إلى الينابيع الأولى التي استقى الأجداد منها معطيات وجودهم، فاستلهم الشاعر أساطيرهم وحكايتهم ووظفها ليستقوي بها على معطيات الشرط السياسي القاسي متكئاً على أدوات فنية دائمة التجدد في مدلولاتها ومعانيها، وهذا يسهم في بناء فن شعري يتسم بالأصالة والمعاصرة، إذ يساعد توظيف الرموز الأسطورية الشاعر على الغوص في أعماق الزمن ليستنهض من جذور أمته ما يمكنه من التحليق في فضاءات الشعر مرتقيا بقصيدته إلى آفاق واسعة بعيدة.
2- أفاد الشعراء المعاصرون من التراكيب والصور الشعرية الواردة في المصادر التراثية الأدبية، ووظفوا ألفاظ وتراكيب ومعاني النصوص الدينية، والأدبية، والأسطورية.
3- وظف الشعراء المعاصرون جوانب التراث الفلكلوري والأسطوري أشرعة في وجه رياح الاقتلاع من الأرض واستلاب الهوية الوطنية ومقاومة الاحتلال والأنظمة الحاكمة الدكتاتورية؛ الفردية منها والشمولية.
4- يسهم توظيف التراث في الشعر المعاصر في ربط المواطن العربي، (المتلقي) بجذوره، وبالتالي يسهم في تعميق انتمائه الوطني والقومي.
5- استند الشعراء المعاصرون في أشعارهم إلى تاريخ ثري بالأحداث والشخصيات، فوظفوا الصفحات المشرقة الناصعة منه لاستنهاض الهمم وللدلالة على إمكانية استرجاع هذا التاريخ بالعمل والإخلاص للوطن وللأمة. ووظفوا بعض الشخصيات السلبية التي ظهرت في التراث العربي كشخصيات بعض القادة والحكام الذين تعاونوا مع أعداء أمتهم لتحذير الحكام والقادة المعاصرين أن لا ينحوا نحوهم لئلا يلقوا المصير المهين نفسه الذي واجهه هؤلاء الحكام والقادة. وقد وظّف الشعراء المعاصرون معطيات التراث التاريخي بأحداثه وشخصياته، فخصّبوا قصائدهم بشخصيات كان لها دور كبير في صناعة التاريخ وبأحداث تاريخية تتسق وتجاربهم الشعرية والحياتية. فقد وظفوا شخصيات عربية وإسلامية، ووظفوا الأقوام والجيوش التي كان لها حضور وتأثير في تاريخ الأمة فاستطاعوا أن يعبروا عن رؤاهم الإنسانية، وفق رؤى شعرية تتساوق مع الحاضر. ولم يوظف الشعراء المعاصرون التراث التاريخي للزينة ولتجميل قصائدهم، إنما لربط الماضي بالحاضر لاستشراف أفاق المستقبل للوصول بالأمة إلى التغيير نحو الأفضل.
6- أسهم توظيف التراث في إثبات أن الشاعر المعاصر ليس متقوقعاً على ذاته؛ إنما هو منفتح على محيطه العربي، فقد وقف مندداً بالغزو الأمريكي على العراق واصفاً ما يعانيه العراقيون جراء ذلك. كما وقف إلى جانب المقاومة اللبنانية في تصديها للغزو الصهيوني عام (2006).
7- استلهم الشاعر المعاصر التراث العالمي للانفتاح على آفاق ثقافية عالمية، فقد وظف التراث العالمي ممثلاً بالأساطير الكنعانية، والبابلية، والآشورية، والمصرية القديمة، واليونانية. واستلهم الشخصيات الثورية العالمية، فقد استلهم "سميح القاسم" شخصية "جان دارك" بطلة الثورة الفرنسية وشخصية "سبارتاكوس" قائد ثورة العبيد الثالثة في روما وتوحد معهما في ثورة ضد قوى الظلم والطغيان.
8- وظف الشعراء المعاصرون عناصر التراث رموزاً وأقنعة يتكئون عليها للتعبير عن حاجاتهم النفسية في عصر تعاني فيه الأمة من نضوبها من القيادات القوية والمخلصة التي تقودها للعزة والنصر.
9- الدلالة على أن الشاعر العربي المعاصر مواكب لأحدث النظريات النقدية فهو شاعر حداثي وتتمثل الحداثة في ملامح ظهرت في قصائده منها:-(6)
أ- الخروج عن النمط الشعري المألوف، فقد نأى كثير من الشعراء العرب المعاصرين عن عمود الشعر العربي. وعمدوا إلى كتابة قصائدهم على شكل القصيدة المعاصرة (قصيدة التفعيلة).
ب- استعمال لغة الكلام اليومي في الشعر، فقد استخدم بعض الشعراء ألفاظا عامية في أشعارهم.
ت- وضوح الفكرة في القصيدة إذ تتكرر الفكرة بشكل متواتر لتقديم صورة متكاملة، وهذا واضح في كثير من القصائد ، وذات النفس الملحمي الطويل منها خاصة.
هـ- اتسام كثير من الشعراء العرب المعاصرين بالنظرة "الطليعية للفن" وهذه النظرة يعدها "مالكوم برادبري" من أسس الحداثة(7) ، فسعى الشاعر المعاصر إلى التغيير في مجالات الحياة المختلفة. وأهم نشاط سعى للتغيير به هو محاولاته الدائبة لمواجهة العدوان والعمل على تحرير أرضه من ربق الاحتلال ومحاولة مقاومة ظلم واستبداد الأنظمة الحاكمة، وبذلك تحول هذا الشعر إلى شعر ريادي ثوري، يحرض الأمة ويدفعها للعمل على ارتقائها وازدهارها.

رأي الباحث:
يشكل التراث بمعطياته المختلفة ركيزة ثقافية أساسية يسند الشاعر إليها آلته الشعرية ويختار منه ما يتساوق وتجربته الشعرية المرتبطة بتجربته الفردية والتجربة الجمعية للأمة ليرتقي بمنجزه الشعري بتوظيف أداة قادرة على إسناد الشاعر ومنجزه. وأرى أن الشاعر عندما يعود إلى التراث لا يرجع إليه القهقرى لينغلق على ذاته ويقبع في ركن قصي عميق منه بحيث تنحجب عنه الرؤى وتنسدل على بصره وبصيرته حجب الظلام وضبابية الوهم.، وإنما يستلهم التراث القومي والعالمي المنداح في الأزمان الماضية المتباينة ويصله بالشرط الراهن المعيش ليستشرف به آفاق المستقبل. وهكذا تكون علاقته بالتراث علاقة اتصال وانفصال في آن واحد.
* * * * *

سيرة ذاتية: أنور محمود خلبل الشعر
مكان وتاريخ الولاد: آريحا 1952
الشهادات العلمية:
1- بكالوريوس في اللغة الإنجليزية الجامعة الأردنية 1978
2- دبلوم التأهيل التربوي الجامعة الأردنية 1995
3- بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها جامعة الاسراء الخاصة
4- ماجستير في اللغة العربية وآدابها الجامعة الأردنية 2009
5- برنامج دكتوراه في اللغة العربية وآدابها الجامعة الأردنية ( حاليا )
الوظيفة:
1- معلم متقاعد للغة الإنجليزية
2- محاضر غير متفرغ للغة العربية الجامعة الآردنية (حاليا )
الإصدارات الأدبية:
1- وعود العاصفة للبرتقالة (مجموعة شعرية ) 2002
2- ما زال في كفي جحر (مجموعة شعرية ) 2003
3- عصفورتان على شرفة الأحلام (مجموعة شعرية ) 2006
4- إليها... في عليائها (مجموعة شعرية ) 2013
5- كتاب " توظيف التراث في الشعر الفلسطيني المعاصر 2000-2010" دراسة تحليلية نقدية

 

 

 

 

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير