jo24_banner
jo24_banner

«الأربعاء الدامي» في بغداد

عريب الرنتاوي
جو 24 : مرة أخرى يدفع العراقيون من أرواح أبنائهم وبناتهم، الفاتورة الصعبة لصراعات القوى المحلية المندمجة إلى أبعد حد، مع صراعات الإقليم، والمتأثرة أكثر من غيرها، بتداعيات الأزمتين السورية والإيرانية...300 قتيل وجريح و42 تفجيرا في يوم واحد...أية صدفة شيطانية هذه؟!

في توقيت “اليوم الدامي” في العراق، أنه جاء غداة أحدث محاولة للإطاحة بالمالكي وحكومته، بل وأكثر المحاولات المشابهة جدية مذ أن تولى المالكي مقاليد السلطة في البلاد قبل سبع سنوات، لكأن المتضررين ببقاء المالكي على رأس الهرم السياسي/الأمني/ العسكري العراقي، وقد ساءهم بقاء الرجل في موقعه، قرروا توجيه “رسالة دامية” للرجل وحكومته، ومن وراءهما لداعميه الإقليميين.

مثل هذا “التكتيك” الذي يحكم علاقة السلطة بالمعارضة في العراق (والتخوم ليست واضحة بين سلطة ومعارضة هناك)، سبق وأن استخدم بذات “الوسائل الدموية”...هل تذكرون المحاولة لإحباط محاولة العراق استضافة القمة العربية وترؤسها في آذار الفائت، وكيف اشتعلت بغداد ومدن العراق بالقنابل والمفخخات والعمليات “الاستشهادية” عشية القمة، وبهدف قطع الطريق على التئامها.

هذه المرة، كما سابقتها، لا يمكن إلقاء اللائمة على “القاعدة”، أو على “القاعدة” وحدها، نمط العمليات (غير استشهادية في معظمها) وعددها وتوقيتها المتزامن، يشير إلى ضلوع قوى أكبر من القاعدة...قوى سياسية وأجهزة استخبارية على الأرجح، كانت وراء هذا المسلسل الدامي.

ليس المالكي هو التعبير الأكثر ملاءمة لمرحلة “التحوّل الديمقراطي” في العراق، فالرجل لا يخفي نزعاته الديكتاتورية والتسلطية، ولا الرجل بعيد عن المذهبية والانقسام المذهبي، فهو زعيم حزب لا يخفي هويته، وهو تصرف على هذا النحو قبل وبعد سقوط نظام صدام حسين، لكن الرجل في سنواته الأخيرة، بدأ يتصرف على نحو مغاير، ومُبتعد تدريجياً عن “خرائط المذهب وحدوده”، إلى خريطة العراق وحدوده، وهذا ما أثار عليه نقمة “التيار الكردي” وبشكل خاص تيار مسعود البرزاني.

لكن خصوم المالكي ليسوا أكثر ديمقراطية أو أقل “مذهبية” من الرجل...فهم “سادة اقطاعيون” في مناطقهم...وبعضهم موغل في “مذهبيته المقابلة” حتى الثمالة...بهذا المعنى فإن الصراع السياسي الدائر في العراق، هو في أحد وجوهه رجع صدى للصراع المذهبي المحتدم في الإقليم، والذي تشعله وتزيد في حدة أواره، قوى عربية وإقليمية معروفة.

والمالكي ليس رمزاً للوطنية العراقية السيّدة المستقلة، فارتباطاته بإيران ليست خافية على أحد، ولا هو معنيٌ أصلاً بإخفائها...بيد أن خصوم المالكي ليسو في المقابل من “طينة” أخرى، فارتباطاتهم بعواصم مجاورة ليست خافية على أحد، حتى أننا لا نبالغ إذا قلنا أن كثيرين منهم يُدارون بـ”الريموت كونترول”، وأن بعضهم بلغ به التواطؤ حد التماهي (إقراء عمالة) لبعض هذه العواصم، ودائما لدوافع مذهبية وانتهازية، قلما تلتقي أو تتقاطع مع مصالح العراق والعراقيين.

لقد نجح الحلف العربي / الإقليمي المناهض لإيران في إنشاء جبهة عريضة مناهضة للمالكي، أو بالأحرى مناهضة لإيران في العراق...جبهة تضم التيار الكردي (مع موقف متردد من الطالباني ذي “الهوى السوري” والعلاقة الطيبة مع إيران) فضلا عن القائمة العراقية بمن تبقى في صفوفها، والتيار الصدري المحكوم بهاجس المنافسة والمزاحمة على الدور والنفوذ والتمثيل و”الشرعية”...لكن دخول إيران السريع على الخط، وإحجام الطالباني على المضي حتى نهاية الشوط في لعبة إسقاط المالكي، ووجود تشققات في جبهة “العراقية” يمكن دائما النفاذ منها، مكّن المالكي، ثعلب السياسة العراقية وداهيتها، من الإفلات من قبضة “سحب الثقة”، أقله مؤقتاً.

إيران كما تقول المصادر المختلفة، ترى أن مستقبل المالكي وحكومته، بات مرتبطاً بـ”الصورة الأكبر”، بالصراع بين إيران ومحورها من جهة والغرب وحلفائها من عرب وأتراك من جهة ثانية...وأنه من غير المسموح إدارة هذه المعركة من موقع “التنافس” على السلطة والنفوذ في هذا الحي أو ذاك “الزاروب” العراقيين...وهي استنهضت كل أرث علاقتها وأوراقها لدفع الطالباني للقيام بدور “الوسيط” بدل تنطح دور “الطرف”، وهذا ما يلقى أصلاً صدى طيباً عند الطالباني بتوجهاته المعروفة...وقد ترتب على كل هذا وذاك، أن أفلت المالكي مجدداً من حبل مشنقة التصويت على الثقة.

لم يرُق هذا الأمر لخصوم المالكي وداعميهم في المنطقة...فكان “الأربعاء الدامي” محاولة يائسة للبرهنة على فشل حكومة المالكي، وعجز المالكي شخصياً عن توفير الأمن لشعبه وبلده...تماماً مثلما حصل عشية القمة العربية في آذار الفائت، عندما اشتعلت بغداد بالحرائق والتفجيرات للبرهنة على عدم أهليته لاستقبال القمة، واستتباعاً رئاستها.

المالكي يدفع اليوم ثمن “جنوحه التسلطي” و”مذهبيته” التي لم يتخل عنها تماماً، لكنه يدفع أيضاً ثمن علاقته بطهران ومواقفه من الأزمة السورية...إن المعركة ضده هي ذاتها المعركة ضد نظام الأسد في دمشق، ونظام “ولاية الفقيه” في طهران...المعركة ذاتها، والهدف ذاته، والقوى المنخرطة فيها هي ذاتها.

العراق كما لبنان من قبل، وكما سوريا من بعد، تحوّل إلى ساحة لحروب طاحنة بين أبنائه، وحروب الآخرين عليه...العراق ما زال ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
الدستور
تابعو الأردن 24 على google news