«مستر تورنر» عن إنكلترا الفيكتورية وسينما السيرة المبهرة
جو 24 : ... والآن حان الوقت لننسى فيلم الافتتاح لمهرجان كان السينمائي، والذي يروي فصلاً من حياة الأميرة «غريس أوف موناكو»، وننسى كذلك وإن لبعض الوقت دخول السياسة ال المهرجان من «الباب الموارب». فيوم أمس كان يوماً فنياً بامتياز، يوماً أعاد تقويم الأمور، ولو عبر فيلمين فقط أعادا الى المهرجان أجواءه الفنية، أولهما آتٍ من تركيا (نترك الحديث عنه الى الغد)، والثاني من انكلترا... العصر الفيكتوري. ذلك أننا هنا أمام واحد من ثلاثة أفلام عرضت حتى الآن في إطار العروض الرسمية تنتمي الى أفلام السيرة، علماً أن الثاني هو فيلم الافتتاح الصاخب عن غير حق، «غريس أوف موناكو»، أما الثالث فيتناول جزءاً من سيرة مصمم الأزياء الفرنسي الشهير إيف سان - لوران، وهو ثاني فيلم عنه يُحقَق هذا العام. المهم هنا هو أن من الظلم للفيلم الإنكليزي «مستر تورنر» أن يوضع في خانة واحدة مع كل هذه الأفلام المذكورة، وليس فقط لأن مخرجه، مايك لي، هو بالتأكيد واحد من كبار سينمائيي العالم... بل لأسباب عدة أخرى.
أول الأسباب ان «مستر تورنر» أتى تحفة فنية أشبه بأن تكون مؤسّسة، على النمط الذي كانه في الأدب منذ قرون كتاب جيمس بوزويل عن السير بنجامين فرانكلين... فنحن هنا أمام ذهنية التفاصيل نفسها، وأمام رسم لبيئة ومجتمع من خلال شخص ينتمي إليهما، ويبدو في كل لحظة خارجاً عنهما. وهذا الشخص ليس أيّاً كان، بل هو الرسام تورنر، مجدّد فن الرسم الإنكليزي في القرن التاسع عشر وصاحب العدد الكبير من اللوحات البحرية التي نقلت الانطباعية المبهرة، مُزيحة الضباب اللندني الشهير حالّة مكانه بخار السفن والجنازات المائية.
لكن الفيلم الذي يبدأ برحلته التعليمية الى هولندا وعودته الى الوطن، ليس درساً في الرسم، بل هو درس في الحياة، ومن خلال هذا درس في السينما حيث من خلال سيناريو وازن تماماً وبميزان الجوهرجي الدقيق بين جوّانية حياة الفنان خلال الاعوام الـ25 من حياته، وبين جوّه الأسري، حيث علاقته بأبيه حلاق كوفنت غاردن السابق، وعشيقاته، بمن فيهن الرائعة مدبّرة منزله التي تُقدِّم الينا علاقته بها في شكل مدهش، ما يشكل تلك المسافة «البريختية» التي تلزم فيلماً من هذا النوع كي يبتعد عن فخّ التحليل السيكولوجي للشخصية، وأخيراً علاقته بالبيئة الفنية في إنكلترا الفيكتورية. اذ تمكن السيناريو، في مشاهد رائعة، من أن يضعنا على تماسٍ مع بعض أقطاب تلك البيئة، من كونستابل الى هايدن وصولاً الى جون راسكن ونظرته النقدية الباردة، مروراً بالعلاقة بين الفنانين والسلطة، والعلاقة بين الفن وطبقة الصناعيين الصاعدة التي لا تني تعلن أنها قادرة بثرائها الجديد على رعاية تلك الحركة الفنية. وسط هذا العالم كله، لا ينسى الفيلم وضعنا على تماسّ مع الحداثة ودائماً من خلال نظرة تورنر الفضولية والمتهكمة والمتواطئة في آنٍ.
وللإحاطة بهذا كله قدم صورة رائعة طبيعية واجتماعية لإنكلترا القرن قبل الماضي وأداء رائع ليس غريباً عن عوالم مايك لي... ثم بخاصة تصوير بديع لـ «أقنعة» الفنان وهو يجول بين منطقة وأخرى بحثاً عن مواضيعه والنور والعشيقات والحياة الاجتماعية. في اختصار، «مستر تورنر» هو واحد من تلك الأفلام الكبيرة التي لا يمكن نسيانها بعد أن تُنسى أفلام كثيرة. فيلم أضاء فضاء المهرجان وأعاد الاعتبار الى سينما السيرة، ولو أسفر الأمر في النهاية عن خروج صاحبه من مولد الجوائز بلا حمّص. فمايك لي اعتاد هذا الجحود من المهرجان الفرنسي حيث يُستبعَد من الفوز في اللحظات الأخيرة كما حدث قبل عامين حين كانت «المفاجأة» خروج فيلمه السابق «عام آخر» خالي الوفاض بعدما كانت المؤشرات تعطيه ما لا يقل عن جائزة النقاد الخاصة!
مهما يكن، بتوقع جائزة كبرى أو من دونه، يبقى أن مايك لي اعطى «كان» في يومه الثاني فيلماً كبيراً بكل المقاييس، فيلماً سنعود إليه كما سيعود غيرنا مرات ومرات، وفي مناسبات أخرى كثيرة.
"الحياة"
أول الأسباب ان «مستر تورنر» أتى تحفة فنية أشبه بأن تكون مؤسّسة، على النمط الذي كانه في الأدب منذ قرون كتاب جيمس بوزويل عن السير بنجامين فرانكلين... فنحن هنا أمام ذهنية التفاصيل نفسها، وأمام رسم لبيئة ومجتمع من خلال شخص ينتمي إليهما، ويبدو في كل لحظة خارجاً عنهما. وهذا الشخص ليس أيّاً كان، بل هو الرسام تورنر، مجدّد فن الرسم الإنكليزي في القرن التاسع عشر وصاحب العدد الكبير من اللوحات البحرية التي نقلت الانطباعية المبهرة، مُزيحة الضباب اللندني الشهير حالّة مكانه بخار السفن والجنازات المائية.
لكن الفيلم الذي يبدأ برحلته التعليمية الى هولندا وعودته الى الوطن، ليس درساً في الرسم، بل هو درس في الحياة، ومن خلال هذا درس في السينما حيث من خلال سيناريو وازن تماماً وبميزان الجوهرجي الدقيق بين جوّانية حياة الفنان خلال الاعوام الـ25 من حياته، وبين جوّه الأسري، حيث علاقته بأبيه حلاق كوفنت غاردن السابق، وعشيقاته، بمن فيهن الرائعة مدبّرة منزله التي تُقدِّم الينا علاقته بها في شكل مدهش، ما يشكل تلك المسافة «البريختية» التي تلزم فيلماً من هذا النوع كي يبتعد عن فخّ التحليل السيكولوجي للشخصية، وأخيراً علاقته بالبيئة الفنية في إنكلترا الفيكتورية. اذ تمكن السيناريو، في مشاهد رائعة، من أن يضعنا على تماسٍ مع بعض أقطاب تلك البيئة، من كونستابل الى هايدن وصولاً الى جون راسكن ونظرته النقدية الباردة، مروراً بالعلاقة بين الفنانين والسلطة، والعلاقة بين الفن وطبقة الصناعيين الصاعدة التي لا تني تعلن أنها قادرة بثرائها الجديد على رعاية تلك الحركة الفنية. وسط هذا العالم كله، لا ينسى الفيلم وضعنا على تماسّ مع الحداثة ودائماً من خلال نظرة تورنر الفضولية والمتهكمة والمتواطئة في آنٍ.
وللإحاطة بهذا كله قدم صورة رائعة طبيعية واجتماعية لإنكلترا القرن قبل الماضي وأداء رائع ليس غريباً عن عوالم مايك لي... ثم بخاصة تصوير بديع لـ «أقنعة» الفنان وهو يجول بين منطقة وأخرى بحثاً عن مواضيعه والنور والعشيقات والحياة الاجتماعية. في اختصار، «مستر تورنر» هو واحد من تلك الأفلام الكبيرة التي لا يمكن نسيانها بعد أن تُنسى أفلام كثيرة. فيلم أضاء فضاء المهرجان وأعاد الاعتبار الى سينما السيرة، ولو أسفر الأمر في النهاية عن خروج صاحبه من مولد الجوائز بلا حمّص. فمايك لي اعتاد هذا الجحود من المهرجان الفرنسي حيث يُستبعَد من الفوز في اللحظات الأخيرة كما حدث قبل عامين حين كانت «المفاجأة» خروج فيلمه السابق «عام آخر» خالي الوفاض بعدما كانت المؤشرات تعطيه ما لا يقل عن جائزة النقاد الخاصة!
مهما يكن، بتوقع جائزة كبرى أو من دونه، يبقى أن مايك لي اعطى «كان» في يومه الثاني فيلماً كبيراً بكل المقاييس، فيلماً سنعود إليه كما سيعود غيرنا مرات ومرات، وفي مناسبات أخرى كثيرة.
"الحياة"