"الا تنصروهم فقد نصرهم الله"
وحدها غزة دون انظمة منطقتها الهشة بحكوماتها وحكامها وعروشها وتيجانها ربحت صورتها التاريخية، وربحت رهانها على بارئها، وقد تماهت مع وعد ربها الخالد " ان تنصروا الله ينصركم"، وكانت في تجارة مع ربها، وتجارة الله لا تبور، وخسر هنالك المرجفون والمحرضون، والعملاء المزروعون في قلب الامة .
والخسارة لا تكمن في غزة، وهي التي ودعت بشموخ وبوجهها الوضاء الالاف من رجالها ونسائها واطفالها وشيوخها، وقد تهدمت فيها البيوت على قاطنيها من اثر الغارات الغادرة، وقضت الايام والليالي الموجعات تحت اهوال القصف والعدوان المشهود من كل الامة العربية، ومن العالم الذي فقد ضميره على الاغلب . ولكنها ما وهنت، وقد ربحت غزة، وربحت فلسطين، وربح الفلسطينيون انفسهم، فالموت قدر من الله محتوم، وهو يأتي بمواقيت محددة لا يمكن تغييرها، وحسبهم الراحلون من غزة انهم انما قضوا شهداء في سبيل الله ، ودفاعا عن ارضهم المقدسة وشرفهم الوطني، وزفوا الى جنات الخلد على اعناق الرجال.
وقد واجهت غزة العدوان الصهيوني ببسالة عز نظيرها في قصص الامم والشعوب الحرة الراسخة في التاريخ، ولم تتراجع امام هول الموت والدمار قيد انملة تماما كما هم الابطال في حياة الامم ، وقدمت اسطورة للفداء والتضحية، وزادت الدماء الطاهرة في رصيد فلسطين التي ارخص الفلسطينيون في سبيلها ارواحهم، وقدموا خيرة أبنائهم ليتدثروا بثراها الطاهر.
وهي وحدها الوطن الذي تتقدم فيه الأرض على الحياة، ومنه انطلقت قوافل الشهداء تترى، ومضى ليل غزة الجريح، وقد ادمت وجه المحتل برغم جيشه الجحفل ، والذي ارهب كافة انظمة المنطقة وابقاها مذعورة منه لعقود، وقد رسخت قاعدة تفوقه في اذهان الاجيال ، وبذلك تم اقفال ملف الصراع على الارض المقدسة المحتلة بالادعاء واقعيا باستحالة تحريرها، وهزيمة الجيش الذي لا يقهر، وجرى ادخال المنطقة في السلم كافة باتفاقيات منها ما هو معلن ، ومنها ما ظل طي الكتمان ينتظر اشهاره في غفلة من الشعوب، او تعاملت مع المحتل وكأنه امر واقع، وبقيت امانة الارض، والتحرير في اعناق الفلسطينيين وحدهم، وظلت دماؤهم واشلاؤهم مرهونة على شرف فلسطين.
انتصرت غزة بأسودها الأشاوس، وقد لقنت العدو درسا قاسيا مرده الى قوة الإيمان بالله ثم بالأرض والقضية، وظهرت عورة الأنظمة العربية ، وفقدانها لحسها القومي والإنساني عندما تقدمت بعض امريكا اللاتينية في مواقفها عليها، وأظهرت حسا إنسانيا ذكر هذه المنطقة بما يتطلبه الشرف من مواقف باتت مفقودة لدى غالبية الأنظمة العربية.
ربحت غزة برغم عمق الجراح ، وقد فقد الأخ اخاه، وودعت الزوجة زوجها، ودفن الأب طفله في التراب، وخرجت من قمة المأساة عزيزة تنتشي عبق العزة والنصر ، وسقطت أنظمة عربية كثيرة في أعين شعوبها، وبدت عارية تماما من الكرامة، واذهب رؤساؤها ماء وجوههم، وأهدروا مكانتهم، وانكشف زيفهم، وأباطيلهم، وقد لعبوا دور المتفرج في عز مأساة اخوانهم، وربما المحرض والداعم للعدوان، وما عاد بمقدورهم ان يعيدوا وجهة التاريخ الى الوراء. وليس اسوأ من خسران الذات، والبقاء رهينة انكسار مرآة الداخل.
غزة أضافت ألاف القبور المباركة لأرضها كي تحيا الأرض، اما الذين ماتت ضمائرهم فستتعفن ذواتهم ، وتفوح رائحة الخيانة من دواخلهم، وربما يخجلون من أدميتهم في يوم يواجهون فيه حقيقتهم المزيفة أمام التاريخ.
سقطت حكومات، وسقطت أنظمة، وسقط إعلام، وارتقت غزة بدمائها الحرة، وانتصر الفلسطينيون برغم هول الموت لأنهم تماهوا مع الشرف الوطني، والمتفرجون بدورهم غادروا دائرة الإخوة ، والإنسانية، وقد أداروا ظهورهم لإخوانهم، وناصروا عدو أمتهم على بعض شعبهم حتى فضحتهم الإحداث، وباءوا بغضب من الشعوب وستشيعهم بلعناتها الى قعر التاريخ.