يموت الوطن وتحيا داعش ، وتموت داعش وتحيا أمريكا
د. لبيب قمحاوي
جو 24 : بين كرﱢ وفرّ وانتصارات وهزائم، يموج الأفق العربي بملائكة الموت تحلق في فضاء دامٍ حيث لا عزاء لأحد إلا العض على النواجز حسرة على فـُرَص ٍ ضاعت، والندم على تقصير واضح في التضحية من أجل الوطن و رِفـْعَتـِهِ أملاً في مكاسب ذاتية أو خوفاً من مخاطر قادمة من أنظمة دموية قمعية لا ترحم.
الأوطان العربية الآن أقرب ما تكون إلى الأرض المَشَاع، والعرب في أوطانهم أقرب ما يكونوا إلى أمةٍ في المنفى، وحلفاء العرب في هذه الأيام السوداء هم أعداء العرب الحقيقـيين. وفي خضم هذه المتناقضات ابتدأت البوصلة العربية في إظهار مزيد من التخبط والفشل في القدرة على تحديد الاتجاه السليم. وابتدأ العرب في الانكسار أمام العواصف التي تضربهم ليلاً نهاراً ومن كل اتجاه. وأصبح العرب في واقعهم الحالي أقرب ما يكونوا إلى جسد يعانق الموت باستسلام قـَدَري لا يملك الارادة أو القدرة على مقاومة الاعتداء عليه من أي عابر سبيل .
لقد تقلصت قضايا الأمة من آمال وأهداف كبار عشناها و عاشتها أجيال كثيرة مثل الحرية والوحدة وتحرير فلسطين، إلى قضايا غامضة دموية تحمل أسماء غريبة طارئة مثل "داعش" لا يعرف أحد حقيقـة ً بداياتها وإلى أين منتهاها، سوى أنها تـُسْـتـَعْمَلْ الآن من قبل أعداء الأمة لانتهاك كل ثوابت الأمة ومقدساتها بل و وجودها الوطني والقومي والعقائدي.
إن استعراض مسيرة "داعـش" تؤكد على السرعة المذهـلة التي تطور بها هذا التنظيم الذي يشبه تنظيم القاعدة في نشأته وتطوره. فكلاهما ابتدآ كتنظيم باشراف وكالة الاستخبارات الأمريكية وبعض الدول الصديقة لأمريكا، وكلاهما تطورا ليصبحا "مفهوماً" "concept" أكثر منهما تنظيما. وهذا ما يجعل من التابعين لهذا التنظيم أو ذاك، مجموعات لا تنتهي من البشر الغاضبين أو المقهورين اللذين يريدون إما تغيير أوضاعهم المعيشية أو تغيير الأوضاع في الدول التي خرجوا منها.
الشباب في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا يبحثون الآن عن قضية تملأ الفراغ الكبير في حياتهم . فقضية فلسطين والعدوان الاسرائيلي الأخير على غزة حَرﱠكـا ضمير العديد من الشباب في أوروبا وأمريكا اللاتينية ولكن دون أن يحرك ذلك ارادتهم واستعدادهم للعمل والنضال. وحرب فيتنام التي شكلت محوراً للشباب الرافض لتلك الحرب في سبعينيات القرن الماضي هي مثال على قضايا تثير إهتمام الشباب وتتعدى الحدود لتضع بصماتها على العالم ككل . وقد يكون في هذا الوصف الكثير من الصحة في حالة "داعش" بل وأكثر بكثير مما يحاول البعض أن يصوره بشكل باهت وكأنه عملية غسل دماغ للشباب من خلال إيقاعهم في براثن فكر أصولي متزمت . الصحيح قد يكمن في أن الشباب يبحث عن قضية فيها قدر عالي من الرومانسية أو قدر عالي من العدوانية والجموح الصادم لاعطاء معنى لحياته الفارغة . وهناك العديد من القوى الخفية والاستخباراتيه التي قد تشجع على الخيار الأخير أملاً في تضخيم خطر داعش على المجتمعات الغربية وعلى السلم العالمي من أجل الوصول إلى أهدافها المنشوده و الخفية من خلال نشر حالة متفاقمة من الخوف الذي قد يدفع الكثيرين إلى أحضان أمريكا كوسيلة للخلاص من الخطر الداعشي المزعوم .
الاسلاميون كانوا الأسرع في التقاط الاشارات الصادرة عن مجتمع الشباب بالاضافة إلى قدرتهم على استغلال النزعة الانسانية الطبيعية في اللجوء إلى الله والدين تحت وطأة المعاناة والقهر والظلم . إن غياب خيارات أخرى او فشلها المزري في استقطاب خيال الأجيال الجديدة جعلت الأرضية جاهزة ومفتوحة أمام المد الاسلامي. إن هذه المعضلة تنخر الآن في الجسم العربي الممزق بين العلمانيين بصورهم المختلفة من قوميين ويساريين ووطنيين... الخ وبين الاسلاميين بمدارسهم المختلفة ومذاهبهم المتعددة واساليبهم المتباينة والتي تتراوح بين المتزمتين والتكفريين والأرهابيين وما بينهم. إن حقيقة كون الدروشة والاستغراق الديني أمور لا تشحذ خيال كل الشباب قد دفع تنظيمات مثل القاعدة وداعش إلى مزج الدين بالعقيدة الغامضة والعنف الدموي بالنضال لتشكل خياراً جديداً استحوذ على إهتمام العديد من أجيال الشباب العربي وغير العربي والمسلم وغير المسلم، وهذا ما نحن بصدده الآن وإن كان من سيدفع ثمن ذلك في النهاية هم العرب وأوطانهم.
نشاهد الآن فيضاً من اولئك البشر الساعين إلى الانخراط في صفوف داعش طواعية ودون أن يدفعهم أحد إلى ذلك . وهذا يتنافى مع ما تحاول العديد من الدول العربية إلصاقه بتنظيمات محليه أو بجهات تتبنى نهجاً اسلامياً من تهم باستعمال الدين للتغلغل في عقول الشباب في محاولة واضحة للالتفاف على الحقيقة وهي أن معظم الأسباب التي تدفع الأجيال الشابة للالتحاق بتنظيمات مثل داعش هي الغضب واليأس الذي يتملكها من ظلم وبطش وفساد الأنظمة العربية التي تدفع العديد من الشباب إلى سلوكيات أصبحت الصفة السهلة لها هي "ارهابية" مع العلم أن الارهاب الحقيقي هو الذي تمارسة الأنظمة الحاكمة على شعوبها ومنها أولئك الشباب.
إن ضخ أعداد كبيرة من الغاضبين والرافضين في صفوف داعش لا يعني بالضرورة الالتزام بالعقيدة التي تَدﱠعي داعش تمثيلها، وإن كان هنالك التزاماً أكبر وأكثر وضوحاً واستقطاباً بالأسلوب الوحشي التي إمتهنته داعش في القتل والاعدام. ولكن الخيوط الخفية التي تربط داعش بالاستخبارات الأمريكية ومخططاتها ما تزال هي الأقوى والأهم. وهكذا ابتدأت تلك المخططات ذات البعد السياسي الغامض في التقدم بوضوح على حساب العقيدة الدينية التي اقتصر استعمالها على حقبة التأسيس الأولى. وأخذت معالم دور داعش تتضح في تسهيل عملية تفكيك الدول العربية المعنية مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن وتجهيز الأرضية لتفكيك دول عربية واسلامية أخرى تحت غطاء الاسلام "الداعشي" أو بتعبير أدق المفهوم الداعشي للاسلام.
تفكيك العراق وسوريا وليبيا واليمن يسير الآن على قدم وساق وبخطى حثيثه لا تقتصر على تلك الدول ، بل يتم وضع الأساس لزج دول أخرى في هذا المسار أهمها تركيا. وقد يكون هذا هو السبب الأهم في تردد القياده التركية ورفضها للتورط المباشر في أعمال عسكرية على الجبهة السورية والتي قد تؤدي إلى إحياء مطالب انفصال اكراد تركيا وانضمامهم إلى اكراد سوريا في دولة كردية تتجاوز الحدود السياسية القائمة لكل من سوريا والعراق وتركيا. ولعل المطلب التركي بالاكتفاء بمنطقة عازله على الحدود السورية – التركية يفسر حقيقة الموقف التركي كون هذا المطلب يعني عملياً ضرورة توفر غطاء وتدخلاً دولياً لفرض ذلك وعدم الموافقة التركية على التدخل العسكري منفردة كيلا يؤدي ذلك إلى زج تركيا في الصراع الاقليمي وفتح أبواب جهنم عليها وبما قد يؤدي إلى تقسيمها.
الكثيرون يبحثون عن الحل لما أصبح يدعى بمشكلة "داعش". والكثيرون يُخـْطِئون في محاولتهم تلك بالاكتفاء بالنظر إلى الخارج وإغفال العامل الداخلي المتعلق بالعوامل والمسببات التي تدفع البعض إلى الانخراط في تنظيمات مثل داعش للتعبير عن سخطهم وغضبهم ورفضهم للواقع الذي يعيشونه. ان هذا لا يعني أن العامل الديني لا أهمية له، بل على العكس، فإنه كان المنطلق. كما أن البدايات استعملت الدين في صورته الداعشية كإطار عقائدي يجمع كل أولئك البشر بغض النظر عن أصولهم، خصوصاً وأن داعش قد قدمت نفسها كتنظيم يتخطى الحدود الاقليمية القائمة، وأن الهوية الداعشية هي في النهاية ما يربط أعضاء التنظيم ويعطيهم هويتهم السياسية ويحدد بعدهم الأخلاقي. وهكذا، فإن انقضاء حقبة الفطام بسرعة ملحوظة قد فتح الباب أمام تسييس الانتماء لداعش وتحويله من عقيدة دينية إلى إطار عمل للفئات الاحتجاجية والرافضة بالرغم من أن الأهداف الخفية لذلك التنظيم في تقسيم دول المنطقة مازالت هي الأهم وفي تطور وازدياد.
إن خلق حلف دولي بقيادة أمريكا من أجل التصدي لداعش هو الكذبة الأكبر حيث أن هذا الحلف لا يهدف في الحقيقة إلى القضاء على داعش بقدر ما يهدف إلى منع انفلاتها وتفلتها إلى ما هو أكثر من المسموح لها به. أي أن هدف الحلف في النهاية هو مساعدة داعش على الوصول إلى الأهداف المطلوبة منها بسلامة، وهذا ما يدعوه الحلف الدولي بالانتصار. إن انتصار الحليف الأمريكي بأي صورة كانت هو في حقيقته هزيمة للعرب. وأي إعتقاد بعكس ذلك لن يؤدي إلا إلى الدمار والخسارة المطلقة . فأمريكا لا تقاتل من أجل أحد ولا تدافع عن أحد اللهم إلا عن مصالحها ومدى تلاقي تلك المصالح مع مصالح الآخرين سواء جزئياً أو كلياً. ووضع العرب الآن بين مطرقة أمريكا وسندان داعش أمر لا يجوز معالجته بالأسلوب الكيدي الذي يحابي أحد الطرفين نكاية بالطرف الآخر. فداعش هي في نفس سوء أمريكا كونها أحد الأدوات التي تستعملها أمريكا لتنفيذ مخططاتها في المنطقة.
ما يجري الآن هو تطبيق صامت متعدد الأهداف لسياسة فرض "الأمر الواقع" بهدف خلق واقع جديد في أراضي دول عربية عديدة ضمن إطار زمني يعتمد مداه على مدى تماسك الهوية الوطنية لهذه الدولة أو تلك. وهذا قد يفسر التصريحات المتناقضة للمسوؤلين الأمريكيين للفترة الزمنية اللازمة للقضاء على تنظيم داعش أو بحديث أدق للوصول إلى واقع التقسيم المنشود لبعض دول المنطقة وآخرها كان التصريح الأمريكي بأن الفترة قد تطول إلى ثلاثين عاماً مما يعكس تصميماً واصراراً أمريكياً على المضي قدماً في عملية تقسيم دول المنطقة بغض النظر عن العامل الزمني المطلوب لتحقيق ذلك.
إن البحث عن علاج لما يجري في المنطقة أمر في خاطر المعظم حتى وإن لم يكن في قدرتهم. الأمر ليس بحاجة إلى وصفة سحرية وقد يكون أمام أعيننا دون أن نراه. العلاج الحقيقي يبدأ من الداخل. والداخل يعني بشـكل أساسي ثلاثة أطراف: نظـام الحكم، الشعب والعوامل الخارجية. وفي الحالة العربية، فإن الطرفين الأقوى هما نظام الحكم والعوامل الخارجية. أما الشعب فهو في الغالب الطرف المقهور والطرف الأضعف . وبحكم واقعه هذا، فإن العناصر الفاعلة داخل هذا الطرف، أي الشعب، غالباً ما تجنح إلى العمل بوسائل غير تقليدية، أي تحت الأرض، وتسعى إلى الانضمام لتنظيمات دموية بهدف توجيه ضربات عنيفة تهز النظام وتنقله من واحة الأمان إلى صحراء القلاقل والعنف. وهنا يجب التأكيد على أن عوامل القهر والغضب وفقدان الأمل التي تعصف بالمواطن العربي قد تكون أهم الأسباب التي تدفعهم إلى تأييد تنظيمات مثل داعش وحتى الانضمام إليها و تشجيعها على مزيد من الوحشية والارهاب. فالغضب والقهر يؤدي إلى التطرف، وهكذا تجري الأمور وهكذا يجب أن نحاسب المسببين لهذا التطرف. وإن الاصلاح السياسي والاقتصادي و مكافحة الفساد قد تشكل المدخل المناسب لتجفيف أهم منابع التأييد والدعم البشري لمنظمات مثل داعش .
* مفكر ومحلل سياسي
الأوطان العربية الآن أقرب ما تكون إلى الأرض المَشَاع، والعرب في أوطانهم أقرب ما يكونوا إلى أمةٍ في المنفى، وحلفاء العرب في هذه الأيام السوداء هم أعداء العرب الحقيقـيين. وفي خضم هذه المتناقضات ابتدأت البوصلة العربية في إظهار مزيد من التخبط والفشل في القدرة على تحديد الاتجاه السليم. وابتدأ العرب في الانكسار أمام العواصف التي تضربهم ليلاً نهاراً ومن كل اتجاه. وأصبح العرب في واقعهم الحالي أقرب ما يكونوا إلى جسد يعانق الموت باستسلام قـَدَري لا يملك الارادة أو القدرة على مقاومة الاعتداء عليه من أي عابر سبيل .
لقد تقلصت قضايا الأمة من آمال وأهداف كبار عشناها و عاشتها أجيال كثيرة مثل الحرية والوحدة وتحرير فلسطين، إلى قضايا غامضة دموية تحمل أسماء غريبة طارئة مثل "داعش" لا يعرف أحد حقيقـة ً بداياتها وإلى أين منتهاها، سوى أنها تـُسْـتـَعْمَلْ الآن من قبل أعداء الأمة لانتهاك كل ثوابت الأمة ومقدساتها بل و وجودها الوطني والقومي والعقائدي.
إن استعراض مسيرة "داعـش" تؤكد على السرعة المذهـلة التي تطور بها هذا التنظيم الذي يشبه تنظيم القاعدة في نشأته وتطوره. فكلاهما ابتدآ كتنظيم باشراف وكالة الاستخبارات الأمريكية وبعض الدول الصديقة لأمريكا، وكلاهما تطورا ليصبحا "مفهوماً" "concept" أكثر منهما تنظيما. وهذا ما يجعل من التابعين لهذا التنظيم أو ذاك، مجموعات لا تنتهي من البشر الغاضبين أو المقهورين اللذين يريدون إما تغيير أوضاعهم المعيشية أو تغيير الأوضاع في الدول التي خرجوا منها.
الشباب في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا يبحثون الآن عن قضية تملأ الفراغ الكبير في حياتهم . فقضية فلسطين والعدوان الاسرائيلي الأخير على غزة حَرﱠكـا ضمير العديد من الشباب في أوروبا وأمريكا اللاتينية ولكن دون أن يحرك ذلك ارادتهم واستعدادهم للعمل والنضال. وحرب فيتنام التي شكلت محوراً للشباب الرافض لتلك الحرب في سبعينيات القرن الماضي هي مثال على قضايا تثير إهتمام الشباب وتتعدى الحدود لتضع بصماتها على العالم ككل . وقد يكون في هذا الوصف الكثير من الصحة في حالة "داعش" بل وأكثر بكثير مما يحاول البعض أن يصوره بشكل باهت وكأنه عملية غسل دماغ للشباب من خلال إيقاعهم في براثن فكر أصولي متزمت . الصحيح قد يكمن في أن الشباب يبحث عن قضية فيها قدر عالي من الرومانسية أو قدر عالي من العدوانية والجموح الصادم لاعطاء معنى لحياته الفارغة . وهناك العديد من القوى الخفية والاستخباراتيه التي قد تشجع على الخيار الأخير أملاً في تضخيم خطر داعش على المجتمعات الغربية وعلى السلم العالمي من أجل الوصول إلى أهدافها المنشوده و الخفية من خلال نشر حالة متفاقمة من الخوف الذي قد يدفع الكثيرين إلى أحضان أمريكا كوسيلة للخلاص من الخطر الداعشي المزعوم .
الاسلاميون كانوا الأسرع في التقاط الاشارات الصادرة عن مجتمع الشباب بالاضافة إلى قدرتهم على استغلال النزعة الانسانية الطبيعية في اللجوء إلى الله والدين تحت وطأة المعاناة والقهر والظلم . إن غياب خيارات أخرى او فشلها المزري في استقطاب خيال الأجيال الجديدة جعلت الأرضية جاهزة ومفتوحة أمام المد الاسلامي. إن هذه المعضلة تنخر الآن في الجسم العربي الممزق بين العلمانيين بصورهم المختلفة من قوميين ويساريين ووطنيين... الخ وبين الاسلاميين بمدارسهم المختلفة ومذاهبهم المتعددة واساليبهم المتباينة والتي تتراوح بين المتزمتين والتكفريين والأرهابيين وما بينهم. إن حقيقة كون الدروشة والاستغراق الديني أمور لا تشحذ خيال كل الشباب قد دفع تنظيمات مثل القاعدة وداعش إلى مزج الدين بالعقيدة الغامضة والعنف الدموي بالنضال لتشكل خياراً جديداً استحوذ على إهتمام العديد من أجيال الشباب العربي وغير العربي والمسلم وغير المسلم، وهذا ما نحن بصدده الآن وإن كان من سيدفع ثمن ذلك في النهاية هم العرب وأوطانهم.
نشاهد الآن فيضاً من اولئك البشر الساعين إلى الانخراط في صفوف داعش طواعية ودون أن يدفعهم أحد إلى ذلك . وهذا يتنافى مع ما تحاول العديد من الدول العربية إلصاقه بتنظيمات محليه أو بجهات تتبنى نهجاً اسلامياً من تهم باستعمال الدين للتغلغل في عقول الشباب في محاولة واضحة للالتفاف على الحقيقة وهي أن معظم الأسباب التي تدفع الأجيال الشابة للالتحاق بتنظيمات مثل داعش هي الغضب واليأس الذي يتملكها من ظلم وبطش وفساد الأنظمة العربية التي تدفع العديد من الشباب إلى سلوكيات أصبحت الصفة السهلة لها هي "ارهابية" مع العلم أن الارهاب الحقيقي هو الذي تمارسة الأنظمة الحاكمة على شعوبها ومنها أولئك الشباب.
إن ضخ أعداد كبيرة من الغاضبين والرافضين في صفوف داعش لا يعني بالضرورة الالتزام بالعقيدة التي تَدﱠعي داعش تمثيلها، وإن كان هنالك التزاماً أكبر وأكثر وضوحاً واستقطاباً بالأسلوب الوحشي التي إمتهنته داعش في القتل والاعدام. ولكن الخيوط الخفية التي تربط داعش بالاستخبارات الأمريكية ومخططاتها ما تزال هي الأقوى والأهم. وهكذا ابتدأت تلك المخططات ذات البعد السياسي الغامض في التقدم بوضوح على حساب العقيدة الدينية التي اقتصر استعمالها على حقبة التأسيس الأولى. وأخذت معالم دور داعش تتضح في تسهيل عملية تفكيك الدول العربية المعنية مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن وتجهيز الأرضية لتفكيك دول عربية واسلامية أخرى تحت غطاء الاسلام "الداعشي" أو بتعبير أدق المفهوم الداعشي للاسلام.
تفكيك العراق وسوريا وليبيا واليمن يسير الآن على قدم وساق وبخطى حثيثه لا تقتصر على تلك الدول ، بل يتم وضع الأساس لزج دول أخرى في هذا المسار أهمها تركيا. وقد يكون هذا هو السبب الأهم في تردد القياده التركية ورفضها للتورط المباشر في أعمال عسكرية على الجبهة السورية والتي قد تؤدي إلى إحياء مطالب انفصال اكراد تركيا وانضمامهم إلى اكراد سوريا في دولة كردية تتجاوز الحدود السياسية القائمة لكل من سوريا والعراق وتركيا. ولعل المطلب التركي بالاكتفاء بمنطقة عازله على الحدود السورية – التركية يفسر حقيقة الموقف التركي كون هذا المطلب يعني عملياً ضرورة توفر غطاء وتدخلاً دولياً لفرض ذلك وعدم الموافقة التركية على التدخل العسكري منفردة كيلا يؤدي ذلك إلى زج تركيا في الصراع الاقليمي وفتح أبواب جهنم عليها وبما قد يؤدي إلى تقسيمها.
الكثيرون يبحثون عن الحل لما أصبح يدعى بمشكلة "داعش". والكثيرون يُخـْطِئون في محاولتهم تلك بالاكتفاء بالنظر إلى الخارج وإغفال العامل الداخلي المتعلق بالعوامل والمسببات التي تدفع البعض إلى الانخراط في تنظيمات مثل داعش للتعبير عن سخطهم وغضبهم ورفضهم للواقع الذي يعيشونه. ان هذا لا يعني أن العامل الديني لا أهمية له، بل على العكس، فإنه كان المنطلق. كما أن البدايات استعملت الدين في صورته الداعشية كإطار عقائدي يجمع كل أولئك البشر بغض النظر عن أصولهم، خصوصاً وأن داعش قد قدمت نفسها كتنظيم يتخطى الحدود الاقليمية القائمة، وأن الهوية الداعشية هي في النهاية ما يربط أعضاء التنظيم ويعطيهم هويتهم السياسية ويحدد بعدهم الأخلاقي. وهكذا، فإن انقضاء حقبة الفطام بسرعة ملحوظة قد فتح الباب أمام تسييس الانتماء لداعش وتحويله من عقيدة دينية إلى إطار عمل للفئات الاحتجاجية والرافضة بالرغم من أن الأهداف الخفية لذلك التنظيم في تقسيم دول المنطقة مازالت هي الأهم وفي تطور وازدياد.
إن خلق حلف دولي بقيادة أمريكا من أجل التصدي لداعش هو الكذبة الأكبر حيث أن هذا الحلف لا يهدف في الحقيقة إلى القضاء على داعش بقدر ما يهدف إلى منع انفلاتها وتفلتها إلى ما هو أكثر من المسموح لها به. أي أن هدف الحلف في النهاية هو مساعدة داعش على الوصول إلى الأهداف المطلوبة منها بسلامة، وهذا ما يدعوه الحلف الدولي بالانتصار. إن انتصار الحليف الأمريكي بأي صورة كانت هو في حقيقته هزيمة للعرب. وأي إعتقاد بعكس ذلك لن يؤدي إلا إلى الدمار والخسارة المطلقة . فأمريكا لا تقاتل من أجل أحد ولا تدافع عن أحد اللهم إلا عن مصالحها ومدى تلاقي تلك المصالح مع مصالح الآخرين سواء جزئياً أو كلياً. ووضع العرب الآن بين مطرقة أمريكا وسندان داعش أمر لا يجوز معالجته بالأسلوب الكيدي الذي يحابي أحد الطرفين نكاية بالطرف الآخر. فداعش هي في نفس سوء أمريكا كونها أحد الأدوات التي تستعملها أمريكا لتنفيذ مخططاتها في المنطقة.
ما يجري الآن هو تطبيق صامت متعدد الأهداف لسياسة فرض "الأمر الواقع" بهدف خلق واقع جديد في أراضي دول عربية عديدة ضمن إطار زمني يعتمد مداه على مدى تماسك الهوية الوطنية لهذه الدولة أو تلك. وهذا قد يفسر التصريحات المتناقضة للمسوؤلين الأمريكيين للفترة الزمنية اللازمة للقضاء على تنظيم داعش أو بحديث أدق للوصول إلى واقع التقسيم المنشود لبعض دول المنطقة وآخرها كان التصريح الأمريكي بأن الفترة قد تطول إلى ثلاثين عاماً مما يعكس تصميماً واصراراً أمريكياً على المضي قدماً في عملية تقسيم دول المنطقة بغض النظر عن العامل الزمني المطلوب لتحقيق ذلك.
إن البحث عن علاج لما يجري في المنطقة أمر في خاطر المعظم حتى وإن لم يكن في قدرتهم. الأمر ليس بحاجة إلى وصفة سحرية وقد يكون أمام أعيننا دون أن نراه. العلاج الحقيقي يبدأ من الداخل. والداخل يعني بشـكل أساسي ثلاثة أطراف: نظـام الحكم، الشعب والعوامل الخارجية. وفي الحالة العربية، فإن الطرفين الأقوى هما نظام الحكم والعوامل الخارجية. أما الشعب فهو في الغالب الطرف المقهور والطرف الأضعف . وبحكم واقعه هذا، فإن العناصر الفاعلة داخل هذا الطرف، أي الشعب، غالباً ما تجنح إلى العمل بوسائل غير تقليدية، أي تحت الأرض، وتسعى إلى الانضمام لتنظيمات دموية بهدف توجيه ضربات عنيفة تهز النظام وتنقله من واحة الأمان إلى صحراء القلاقل والعنف. وهنا يجب التأكيد على أن عوامل القهر والغضب وفقدان الأمل التي تعصف بالمواطن العربي قد تكون أهم الأسباب التي تدفعهم إلى تأييد تنظيمات مثل داعش وحتى الانضمام إليها و تشجيعها على مزيد من الوحشية والارهاب. فالغضب والقهر يؤدي إلى التطرف، وهكذا تجري الأمور وهكذا يجب أن نحاسب المسببين لهذا التطرف. وإن الاصلاح السياسي والاقتصادي و مكافحة الفساد قد تشكل المدخل المناسب لتجفيف أهم منابع التأييد والدعم البشري لمنظمات مثل داعش .
* مفكر ومحلل سياسي