المسار الحزبي والسكة السليمة



يقترب مسار التحديث السياسي من أولى إختباراته والبلاد تتجهز لإجراء "الإنتخابات التشريعية" في الربع الثالث من العام القادم، التحديث السياسي الذي إمتدت ورشته على مدار عامين أفضى إلى تعديلات دستورية وأنتج قانوني أحزاب وإنتخاب يستهدفان مشهداً سياسياً جديداً يقدم دفعاً فاعلاً ودفقاً منتجاً للدولة وهي تمضي في مئويتها الثانية. الهدف المنشود لمسار التحديث ديمقراطية أردنية متجددة وحيوية ترسخ نهج الحكومات البرلمانية، وتعزز المواطنة الفاعلة وتمكن الشباب والمرأة. "مشروع الدولة" التحديثي يضع العمل الحزبي في قلب العملية السياسية بصفته بوابة المشاركة الفاعلة واداة العمل البرامجي المؤسسي، ورافعة تطوير الاداء العام: نيابياً وحكومياً ومجتمعياً.

إن البنية التشريعية - التي أنتجها مسار التحديث السياسي - تشكل اليوم تأصيلاً مُمَكِناً للفعل الحزبي في البناء السياسي الاردني وجوهر نظامه. لا شك أن مشروع التحديث قد حرك مياهً راكدة في المشهد الوطني، وأنتج حالة تفاعلية غير مسبوقة، على أن حالة "البرود السياسي" تبقى المهيمنة على المجتمع وفقا للدراسات واستبيانات الرأي العام، مما يستوجب الكثير من العمل لمعالجة أعراض هذا البرود وتفكيك أسبابه وبنيته، وهي بنية مركبة ومعقدة تستند إلى أزمات "الثقة" وأسئلة "الإرادة والمصداقية والجدوى والإنتاجية"، واستحضار "التجارب القديمة" والفزاعات والهواجس، ومرتهنة لتحديات الإقتصاد ومواجع "المعيشي" ومعضلات البطالة والفقر. وإذ يبدو أن خطاب التحديث لم يلامس بعيداً، فإن على الدولة أن تسابق الوقت لزراعة أساسات مقنعة وعملية أن ثمة أفق سياسي جديد.

تجاوز مشروع التحديث المرحلة التأسيسية من مساره بما هو أعلى من توقعات - ولا نقول طموحات - الشارع. نجح في احداث شروخات في "الشكوك" واطفاء جملة انتقادات وبعض الهواجس وانجز فتح النوافذ وتهيئة التربة. المرحلة التالية، والتي انتهى مخاضها بـ 27 حزباً وبضعة أحزاب قيد التأسيس، لم تأخذ ذات المنحنى الصاعد بالآمال. يمتلك كثيرون علامات استفهام على "ولادات حزبية"، وما بدى في ترتيبات المشهد الحزبي من ظلال ثقيلة. إن اعادة إنتاج الوضع القائم نفسه في المشهد "المجدد" وتدوير النخب ذاتها ملاحظة أخرى تسجل على المرحلة. أيضاً ترتيبات البيوت الداخلية للأحزاب شهدت غياباً لافتاً للصندوق ولم تعكس حضوراً شبابياً في المواقع القيادية في مفارقة لافتة وسباحة عكس أهداف "التحديث السياسي".

لم تنجح المرحلة، في قناعة كثيرين، في غربلة الأحزاب كما كان متوقعاً، فقد عبرت العديد من الأحزاب "توفيق" أوضاعها وفقا لمقتضيات القانون استنادا إلى الشبكات الاجتماعية والعائلية و "المونة" وتحالفات المصالح، ليفرز حالة من الأحجية الملفتة حيث "أحزاب ولا حزبيين" و"عناوين ولا برامج" و"إزدحام في القيادات وغياب للقواعد". إن الراسخ في الممارسة الحزبية أن تولد الأحزاب من رحم المجتمع، نتيجة حركة تفاعلية لشرائح داخل المجتمع حول رؤية وفكرة وصولاً إلى صياغة طرح سياسي – اقتصادي – اجتماعي وتطوير هوية حزبية متسقة ، هذه الصورة التفاعلية هي ما يمكن الأحزاب من بناء قواعد شعبية وتحقيق حضور جماهيري وتصعيد نخب جديدة في المشهد العام. وبخلاف ذلك ستبدو دائماً الحالة الحزبية هشة.

الطريق في أوله، وأزمات البلاد لا يمكن أن تنتظر طويلاً، واستجابة الشارع وتفاعله مع الأحزاب لا زال ضعيفاً، وتضارب رسائل الدولة ومؤسساتها يغذي هذا الضعف، المطلوب اليوم ضبط البوصلة وتوحيد النغمة، وتعزيز مسار التحديث من خلال مناخ يصون الحريات العامة ويكرس الانفتاح السياسي ويرمم تصدعات مصداقية العملية الديموقراطية برمتها. الأحزاب بدورها مطالبة بتبني رؤى متكاملة وبرامج واقعية تخوض في التفاصيل، وتقديم أجوبتها، تقترح الحلول ولا تكتفي بالشكوى مع المواطن. برامج مقنعة قابلة للتطبيق تشتبك إيجابياً مع الشأن اليومي للناس. من الضروري أيضا أن تطور الأحزاب من خطابها أداواتها وتواصلها، وتبني جسور ثقة بينها وبين المواطن من خلال تقديم قيادات ونخب تحظى بالقبول وتتسم بالكفاءة والنزاهة.

وكما أشار جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم في أوراقه النقاشية فإنه "ما زال أمامنا الكثير من العمل لبناء ديمقراطية مكتملة العناصر، وتحقيق هدفنا النهائي المتمثل في الحكومات البرلمانية"، العامل الحزبي شرط واجب لنجاح وصولنا إلى الاهداف الوطنية المنشودة، وانجازه مسؤولية الجميع بدءاً بالدولة وارادتها ومؤسساتها، مروراً بالأحزاب وبرامجها وديناميكياتها، وانتهاءً بالمواطن وتفاعله وإيمانه بمواطنته الفاعلة وقدرته على المشاركة في صنع القرار عبر أداوت العمل الجمعي. الإستحقاق الإنتخابي القادم ومناخاته وعدالة تنافسيته إختبار للجميع ومحك حقيقي لمسار التحديث ومحطة فلترة "شعبية" أولى للأحزاب. المرحلة القادمة مدماك ثقة مهم لمستقبل البلاد. أما "الحالية" فتحتاج إلى قراءة وتقييم ومراجعة ومعالجات كي يمضي المسار الحزبي على السكة السليمة نحو حالة حزبية صحية وناضجة.