بين الكلمة المطبوعة ... والمضبوعة !
الحرائق تشتعل في قلبي وأنا أرقب مظاهر التنافر والتلويح بالعقوبات والحبس والشد والجذب والغرامات بين طرفين متخاصمين حول موضوعة (مشروع قانون الجرائم الالكترونية).. الطرف الأول حكومة تملك كل أسباب القوة والتشريع والمناورة.. لكنها في الوقت ذاته تضيق ذرعاً بالكلمة الناقدة لذا جنّدت كل أسباب القوة لمحاصرة الكلمة المحاصرة أصلاً..! والطرف الثاني، وهو الطرف الأضعف في المعادلة لا يملك من أسباب القوة والحيلة، بعد الاتكال على الله عزّ وجل سوى سلاح الكلمة.. وهو سلاح مُسالم وسلمي بالمناسبة!!
وبدت المعركة والتي استعر أوارها فجأة بعد أن هبط مشروع القانون بالباراشوت الى مجلس النواب.. بدت وكأنها منازلة مفتوحة بين اللكمة والكلمة!!
كيف لا والمعركة تدور رحاها الآن بين الحكومة – ما غيرها – تساندها قوةٌ ضاربة خفية من المنافقين الجاهزينَ للانقضاض بمجرد كبسة زر وبين الآلاف من أحزابٍ وهيئاتٍ ومنظماتٍ وجمعياتٍ ونقاباتٍ وقنواتِ تلفزة ومحطات إذاعية وصحفيين ونشطاء وسياسيين واعلامين ومثقفين واللذين يريدون سلّتهم بدون عنب.. اقصدُ يريدون حرية التعبير وحرية الكلام وحرية الكلمة دون استهدافٍ او محاصرةٍ او غراماتٍ باهظة!
ومخافةَ ان يساءَ فهم ما أقول فأنني أؤكد بان الآلاف المذكورين وأنا أحدهم يشجبون بشدة اغتيال الشخصية والتنمر على الناس والذم والقدح والإساءة للآخرين أو توجيه النقد دون دليل أو وجه حق.. فنحن ملتزمون بالكلمة وحريتها المسؤولة!! وفي الوقت ذاته نعارضُ تنمر الحكومة على الصحافة ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيري مع ما يستتبع من حبسٍ وعقوباتٍ وغراماتٍ ذات ارقام خيالية وشتى أنواع المرمطة الواردة في التعديلات المعروضة على مجلس النواب!
أقول هذا وأنا أحد أبناء الدولة الموالين والمخلصين لها والحريصين على سمعتها الطيبة على صعيد العالم بأسره.. ولا يعنيني من قريب أو بعيد رضا أو غضب الحكومات المتعاقبة لأنها متغيرة وزائلة ولا يبقى الا وجه ربنا الكريم جلّ جلاله.. وتبقى دولتنا بحول الله مرموقة الجانب.. وتبقى الكلمة الصادقةُ والحقيقة الساطعة!
وأقول كذلك وأنا ابن الأسرة الإعلامية والصحفية التي تلتزم على الدوام بالحرية المسؤولة في التعاطي مع مهنة الكلمة ودورها مطبوعة كانت تلك الوسيلة أم مرئية أو مسموعة!! وهذه الكلمة التي تحاول بعض الجهات جاهدةً بأن تُبهدلها وتنقلها من خانة الكلمة المطبوعة (بالطاء) الى خانة الكلمة المضبوعة (بالضاد)!
فنحن مع اعلام الدولة وليس اعلام الحكومات.. ونحن أيضا مع أن تظل الكلمة بكامل ألقها وعظيم دورها كلمة مطبوعة وصلبة وصادقة لا كلمة مضبوعة ترتجف أوصالها لأدنى حركة من أدني مسؤول في الحكومة.
ويزعم اغلبيتنا من الآلاف المذكورة، ولعلي كنت ممن يزعمون، وأتمنى أن لا يكون الزعم صحيحاً، أن الهجمة الشرسة والتعديلات على قانون الجرائم الالكترونية المعروضة حالياً على مجلس النواب لها جملة أهداف اذكر منها على سبيل المثال للحصر: الجباية أولاً والطريف أن هذه الجباية تستهدف جيوباً فارغة. وثانياً تكميم الأفواه الأمر الذي من شأنه تحصين الفاسدين والمفسدين.. وثالثاً إسكات الأصوات لتمرير أمرٍ ما في قادم الأيام!! ورابعاً إدخال الصحفيين من ذوي المواقف الجريئة والناشطين الى بيت طاعة الحكومة عنوةً!! وهناك سبب آخر يأتي كتحصيل حاصل وهو اضفاءُ هالة من القدسية على المسؤولين في الحكومة وإلاّ كيف نفسر التفاوت في العقوبات الواردة بموجب التعديلات المذكورة بين من يهين الشعور الديني وغرامتها لا تتعدى ثلاثين ديناراً وبين غرامة انتقاد مسؤول في الحكومة وجزاؤها السجن ودفع مبلغ من المال يوازي أربعين ألف دينار!! فتصور يا رعاك الله!!
وإن أخشى ما أخشاه من وراء هذه التعديلات هو انعكاساتها السلبية لا بل الخطيرة على المنظومة السياسية والتجربة الحزبية في بلدنا العزيز ناهيكَ عن إعادة انتاج حقبة الاحكام العرفية من خلال "برشامة" التعديلات المذكورة!!
وأود أن أهمس في أذن الحكومة وعلى مسمع من الذين يقفون وراء التعديلات المذكورة وأسأل سؤال العارف وأقول: لنفترض جدلاً أنكم تمكنتم من اسكات الأصوات السلمية والهادئة المعارضة هنا وتكميم الأفواه وتدجين دور الكلمة ومفعولها فهل بإمكانكم اسكات الأصوات الأكثر حدة.. والأقسى نبرةً.. والأعلى جرأة.. والأشرس مخاطبة والتي تنطلق من خارج الحدود؟! انا لا اريد الجواب لأنه معروفٌ سلفاً!! فهل تدرون أنكم بفعلتكم هذه يا أركان الحكومة تدفعون الناس بوعيٍ أو دون وعي لأن يكونوا معارضين في الخارج لكي يعبروا عن آرائهم وأفكارهم!!
وأود أن أسال سؤال العارف ثانيةً وأقول: هل انتهت كل المشاكل والمعضلات والتحديات والمصائب التي تواجه الوطن والمواطن مثل: الفقر والبطالة والجوع والعوز والجرائم وتفشي المخدرات لكي تركز الحكومة جُل جهودها على تلك التعديلات وتفتح ملفات العقوبات والغرامات والحبس ومرمطة الصحفيين والإعلامين والنشطاء المسالمين مع ما يستتبع من انعكاسات خطيرة على مجريات منظومة التحديث السياسي والصحوة الحزبية المفاجئة والتحديث الاقتصادي والإداري في الأردن!!
فيا أيتها الحكومة الرشيدة.. دعينا، والحالة هذه، نضع يداً بيد ونعمل معاً قلباً واحداً وصفاً واحداً لمواجهة الأخطار والتحديات التي تواجهنا وفي المقدمة منها خطر اليمين الصهيوني المتطرف والنازية الجديدة التي تستهدف بلدنا الأردن وتسوم إخوتنا وأشقائنا في فلسطين العزيزة شتى أنواع التعسف والتعذيب والقتل وذبح الأطفال والشيوخ وهدم البيوت على رؤوس أصحابها كل ذلك يجري على مرأى ومسمع من العالم "المتحضر" جداً!!
دعونا نواجه معاً الصعوبات والتحديات والمشاكل على الصعيدين الإقليمي والدولي في وقتً غدا العالم فيه مثل مرجل يغلي وقابل للانفجار في أية لحظة!!
وبعيداً عن الاهتمام بصغائر الأمور والانشغال بأصغرها والانصراف عن عظائمها.. دعونا نعمل معاً متكاتفين لما فيه رفعة الوطن وخير المواطن بدل ان نعمل بوعيٍ أو دون وعي على تفتيت لُحمةِ بلدنا وتماسك بنيانه بحيث يغدوا – لا سمح الله – بمثابة حاراتٍ مثل حارة الحكومة.. وحارة الصحافة.. وحارة الموالاة.. وحارة المعارضة.. وحارة بطانة الفاسدين.. وحارة الأحزاب المدللة.. وحارة الأحزاب المظلومة.. وحارة الصلعان والخصخصة.. وحارة وأنا مالي.. وحارة هواتف أكشاك الشوارع وحارة المنافقين.. وحارة شوفيني يا بنت الخال.. وحارة كل من أيده له!!
تعالوا نترجم محبتنا وانتماءنا للوطن الغالي عملاً جاداً وفعلاً نافعاً لكي يظل الأردن كالعهد به قوياً منيع البنيان بحول الله بدل أن نتصيد هفوات بعضنا وكلمات بعضنا ونتفنن في اختراع أعتى العقوبات واعلى الغرامات وصنوف الجباية والحبس والمرمطةِ والتنكيل بالناس!!
ولعل أولى الخطوات على هذا الدرب تقتضي سحب مشروع قانون التعديلات على قانون الجرائم الالكترونية. فهل أنتم فاعلون؟! نأملُ ذلك.