لماذا نحبه ؟!
عبد السلام الطراونة
جو 24 :
مع اطلالة خيوط الفجر الأولى من صباح يوم " ثلاثاء " من أيام الزمن الجميل وبالتحديد في ستينات القرن الماضي .. استفاق رجل ثمانيني من سكان احدى قرى الكرك .. وأشعل البلورة نمره (4 ) ذات الضوء الخافت و التي تعمل على الكاز .. ثم أدّى صلاة الفجر .. بعدها تفقد أغراض السفر اللازمة بكل تؤده كي لا يوقظ أهل بيته .. ثم ارتدى طقم جوخ ( الهيلد ) السكني الذي يدّخره للمناسبات الغالية .. ولبس الشماغ المهدّب والعقال المِرْعِزْ .. واستل عصا ( الباكور ) التي تعتبر بمثابة ساقه الثالثة التي لا يستغنى عنها اثناء المشي .. ثم تناول استدعاءً كتُب بخط يد ابنه خريج ( المترك ) والموجّه الى رئيس الوزراء السيد وصفي التل !!
وحرص أن يضع قطعاً صغيره من الجميد ( المريسة ) في الجيب اليُمنى للصدريه التي يرتديها لكي تعين معدته الحسّاسة على احتمال السفر عبر طريق الموجب الترابي ومنعطفاته الحاده التي تستفز المعَّده وتبعث على الغثّيان .. وفي الجيب اليسرى من الصدرية أودع الاستدعاء الممهور بخط يد ابنه الى رئيس الحكومة !!
وقال : بسم الله .. ميمماً وجهه شطر العاصمة (عمان ) للقاء حبيب قلبه دولة الشهيد وصفي التل .. فهذا يوم المُنى بالنسبة لهذا الشيخ الطاعن في السن !!
حاصله .. بعد بضع ساعات من وعثاء السفر عَبْر وادي الموجب ووادي الواله .. وصل الختيار الي دار رئاسة الوزراء .. وتصادف وصوله مع قدوم الرئيس التل ..!
وفي تلك الاثناء تطوّع أحد المرافقين وأشار بيده الى الحاج من أجل أن يخلي الطريق لكي يمر الرئيس بسهولة .. وما ان رأى ( وصفي ) تلك الحركة حتى زَجَرَ المتطوع وجحظهُ بنظرةٍ حادة قائلاً : دشّر الحاج .. واترك الأمر لي ّ !! ثم اقترب من الحاج مداعباً وأخذ بيده على امتداد درجات الرئاسة وهو يمشي الهوينا ويده بيد الرجل .. وسأله الرئيس التل : من وين مشوارك يا حاج ؟ فقال الختيار : من قِبْلِه يا ابن أخوي !!( أي من الجنوب ).. فرد وصفي على الفور يا مرحباً بك وبكل أهلنا في جنوب المملكة .. وظل ممسكاً بيد الرجل الطاعن في السن حتى أوصله الى القاعة التي يعقد فيها الاجتماع مع المواطنين كل يوم ثلاثاء !! وأجلسه بجانب وزراء الخدمات الذين كانوا في انتظار وصول الرئيس التل لترؤس الاجتماع .
وبدأ الاجتماع بكلمة ترحيب من رئيس الوزراء السيد وصفي التل .. ثم شرع المواطنون بعرض مطالبهم وقضاياهم على مسمع من الرئيس الذي أخذ يدوّن ما يلزم في دفتر جيب صغير (رَزْمايه) كافة الملاحظات المطلوبة .. وعندما حان دور " الختيار " الكركي التفت اليه رئيس الوزراء قائلاً : هاه .. يا حاج .. ما هو مطلبك ؟ فقال الرجل : والله يا ابن أخوي يا وصفي .. ابني نجح في المترك .. " و العيّل " يريد وظيفة حكومية لكي يصرف على عائلتنا .. وهذا استدعاء منه الى جنابك يا أبو مصطفى !!
قرأ الرئيس (وصفي) الاستدعاء وقال : ابشر يا حاج .. سيتم تعيين ابنك في وزارة التربية وفي الجنوب بالتحديد لكي يظل قريباً منك .. زين ؟! فقال الشيخ : زين سّويت يا الغالي .. بارك الله فيك وابطأ أيامك !
وظن الرئيس التل بأن الأمر قد قُضِىَ .. لكن الختيار ظل جالساً فسأله الرئيس : قل لي يا حاج .. في اشي ثاني بدك اياه .. اتفضل !! فشعر الختيار بالخجل وقال : أخشى يا دولة الرئيس أن تظن بأني لحوح وطماع .. لكن الأمانة تقتضي بأن أوصل رسالة شفوية الى مقامك من أهل قريتي ومن سكان الجنوب بشكل عام .. والذين قالوا لي : سلّم على وصفي .. وقل له ان صوت الجنوب غير مسموع في عمّان .. وكذلك صوت العاصمة ليس مسموعاً لدينا في جنوب المملكة !!
فاعترت الدهشة ملامح الرئيس وصفي التل والذي قال : لَهْ .. يا حاج .. لا تظلمنا فنحن موجودون لخدمة الناس وتلبيه طلباتهم وفي طليعتهم أهلنا وناسنا في الجنوب الذين يحظون بمحبة ومودة قائد الوطن جلالة الحسين .. فالحكومة يا حاج في خدمة الشعب وليس العكس .. فاستدرك " الختيار " وقال : يا ابن أخوي .. يا وصفي .. أنت فهمتني غلط !! أنا قصدي أقول انه خطوط الهاتف تعبانة .. و التلفونات لا تنقل الصوت بالشكل الصحيح ..!! وهذا ما قصدته !!
فابتسم ( وصفي ) وقال : مسألة التلفونات بسيطة ومقدور عليها يا حاج !! لذلك بلّغ أهلنا في الجنوب على لساني بأن شبكة هواتف جديدة " طَخْ " سوف تصلكم في غضون شهرين على أكثر تقدير !! وانصرف الحاج شاكراً بعد أن ذكّر الرئيس التل بتنفيذ الوعد الذي قطعه لهم لايصال التيار الكهربائي في مناطق الجنوب .. واضاف الختيار قائلاّ : والله .. يا وصفي ان سِناجْ وشُحبار بلّورة الكاز ذبح رئاتِ اهلك في الجنوب !!
فهز وصفي رأسه وربّت على كتف الحاج وقال له : وهذه مقدور عليها يا حاج ان شاء الله ..!!
وما هي الاّ أسابيع معدودة حتى انتخى جيشنا العربي وبالتحديد سلاح الهندسة الملكي بايعاز من جلالة الحسين القائد الأعلى للقوات المسلحة طيب الله ثراه ومتابعة واشراف من الرئيس وصفي التل وزير الدفاع وصاحب الولاية العامة .. رحمه الله وشرع جيشنا وبالتعاون مع وزارة المواصلات بورشة واسعة لاجراء اعمال الحفر وتثبيت الأعمدة الخشبية على طول الطريق المؤدي من جنوب عمان الى تخوم العقبة ..!
وقد رأيت بأم عيني أنا العبد الفقير لله كاتب السطور رأيت جنودنا والفنيين التابعين لسلاح الهندسة وهم يقومون بتسلق الاعمدة الخشبية وربط الاسلاك على أطرافها العلوية .. فيما كان الناس على طول الطريق الصحراوي يحتفون بأخوتهم رجال جيشنا العربي ويحضنوهم برمش العين .. ويقدمون لهم المناسف والحلوى والفواكه والشاي .. وكانت أفواج الناس تلّوح لهم بالمناديل وهذه أقصى درجات الترحيب والمودّه !!
وبعد الانتهاء من شبكة الهواتف جاء دور الانارة بالكهرباء .. فقد قام الرئيس وصفي التل يرافقه وزراء الخدمات بزيارة تفقديه للجنوب وانطلق العمل بمشاريع ايصال التيار الكهربائي والتي تم انجازها في غضون شهور معدوده !! وحلّت الكهرباء الساطعة محل بلّورة الكاز المعتمة ..والفِنْيار ردئ الضوء..والظواية الأردأ..!! وانتهى عهد بلّورة الكاز الى غير رجعة !!
وفي الختام .. وبمناسبة ذكرى استشهاد الرمز الوطني الكبير الشهيد وصفي التل طيب الله ثراه أقول : يسألونك سؤال العارفين لماذا يحب الناس (وصفي) دون غيره ؟! .وأنا أسأل أيضا معهم سؤال العارف : لماذا نحب ( وصفي ) الى هذا الحد ؟! ولعل لسان الجميع يبوح بالسّر .. ويجهر بالحقائق التي تقول :
نحب وصفي .. لأنه المخلص الذي أحب الوطن .. والقضية .. والناس !!
نحب وصفي .. لأنه السيف المصلت على رقاب الفساد .. والفاسدين .. والمفسدين !!
نحب وصفي .. لأن طموحه منذ بواكير شبابه كان منصباً على نيل شرف الانتساب لجيشنا العربي .. لكن (جون كلوب ) قائد الجيش قبل تعريب القيادة رفض انخراطه في سلك الجيش بحجة أن ( وصفي ) خريج جامعة !!
نحب وصفي .. الجندي الذي حمل السلاح محارباً في فلسطين ضمن صفوف جيش الانقاذ .. انقاذ فلسطين الغالية !!
نحب وصفي .. المفكر الاستراتيجي الذي قدّم مخططاً قتالياً مفصلاً ليكون أساساً للحرب العربية ضد اسرائيل !!
نحب وصفي .. الطالب الثائر الذي قاد تظاهرة طلابيه في السلط تأييداً للثورة الفلسطينية .. وتظاهرة مماثلة في بيروت لتأييد فلسطين عندما كان طالباً في الجامعة الامريكية ببيروت !!
نحب وصفي المعلم في مدرسة الكرك الثانوية .. الذي علّمنا الفيزياء الطبيعية .. مثلما علّم الناس جميعاً كيمياء التمرد على الظلم بشقيه الافقي والعامودي .. وكيمياء الانتماء الوطني والقومي .. وكيمياء الاستشهاد من أجل الوطن والقضية المقدسة !!
نحب وصفي .. الرئيس وصاحب الولاية العامة بحق وحقيق و الذي كان يقول ( لا ) كلما تطلب الأمر ذلك !!
نحب وصفي .. رئيس الوزراء العادل .. وعمرابن عبد العزيز القرن العشرين .. الذي أصر على دفع فاتورة ثمن وأجرة تركيب ثلاثة أعمدة من أجل ايصال الخدمة الهاتفية الى منزله في ( الكمالية) عندما أصبح رئيساً للوزراء في مطلع الستينيات !!
نحب وصفي .. فقير الجيب .. وغنى النفس .. الطاهر السيره.. ونقي السريره الذي وجدنا في جيبه بعد استشهاده فواتير الديون الزراعية ومسوّدة بخط يده لخطة مفصلة هدفها تحرير فلسطين !!
نحب وصفي .. الموظف في ضريبة الدخل في الخمسينات من القرن الماضي والذي كان يقتسم راتبه الشهري مع ثلاثة من رفاقه العسكر القدامى أفراد الفرقة الرابعة في جيش الانقاذ !!
نحب وصفي .. القومي الثائر الذي شارك في مسيرة من لبنان الى العراق لنصرة ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الوجود البريطاني في العراق الشقيق !
نحب وصفي .. المناضل القومي الذي اعتقله الرئيس السوري حسني الزعيم لأنه كان من أنصار مواصلة حرب المقاومة الفدائية ضد اسرائيل !!
نحب وصفي .. لأنه القومي الصادق الذي بعث الى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر برقية يعلن فيها تطوعة للقتال في صفوف الجيش المصري أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956
نحب وصفي .. شبيهنا القنوع .. والفقير مثلى .. ومثلك ومثل كل الحراثين الذي ارتحل الى الرفيق الأعلى وهو مثقل بديون الاقراض الزراعي والمنظمة التعاونية من أجل اعمار الأرض واستصلاحها والثبات فيها !!
نحب وصفي لأن له كيمياء وطنية وقومية مميزّه .. ومتميزة عن كل الآخرين .. بلا زُغْره !!
نحب وصفي .. الذي يعرف جيداً.. جوع المساكين .. ووجع المواطنين .. وعوج المسؤولين !! نحب وصفي .. الكاتب وعاشق فلسطين الذي كتب بعد عودته من حرب عام 1948 والتي اصيب خلالها في ساقه قصة بعنوان ( أمل ) والتي تروى مفهوم ( وصفي ) للقوة السياسية والمعنوية للأرض .. وقصة بعنوان (عَودة ) والتي تعبر بشكل رائع عن معاناة الفلاح الفلسطيني الناجمة عن فقدانه لأرضه !!
نحب وصفي .. الدبلوماسي العادل .. والاداري المبدع الذي ساوى بين أبناء الحراثين و المخيمات وبين أبناء الذوات والباشوات حين استنّ سُنْة حميدة في الستينات من القرن الماضي تقضى بضرورة اجراء امتحان للدبلوماسية كجواز مرور واحد ووحيد لولوج بوابة الدبلوماسية ووزراة الخارجية بحيث تكون مسطرة القياس هي الكفاءة والتفوق والفهم واتقان اللغات الأجنبية وليس التوريث والنزول بالباراشوت والمحسوبية والواسطة !!
نحب وصفي .. الغائب الحاضر .. ( أخو علياء ) .. ومؤسس صحيفة ( الرأي ) .. الذي استنجد به الزملاء العاملون في الصحيفة خلال اضرابهم في العام 2014 م حيث عقدوا الدبكه أمام خيمة الاعتصام واطلقوا العنان لأصواتهم للتغني بوصفي والاستنجاد به لانقاذها من المحنة التي تواجهها ..
نحب وصفي .. لأنه يجمع في اهابه السهل والجبل معاً .. فهو السهل الحنون ورقيق الحاشية تجاه الفقراء .. والغلابى .. والحراثين .. والمساكين .. وهو الجبل الشامخ والطود العنيد في وجه الحرامية والجشعين و الفاسدين .. وهوالصلب وشديد البأس ضد الهلافيت و السقطليه و المفسدين !!
نحب وصفي .. لأنه الصادق الأمين الذي عاش شجاعاً مرفوع الهامة من أجل الوطن والقضية والناس ... واستشهد مرفوع الرأس شجاعاً من اجل الوطن والقضية والناس !!
نحب وصفي .. لأنه الحلم القومي الكبير .. ولأنه المشروع الوطني والقومي العزيز الذي حال الأوغاد والمجرمون والسَفَله دون استكماله !!
نعم .. نحبه .. لأنه كان كذلك !! .. ونجهر بحبه لأنه .. ظل كذلك !! .. فأتوني يا ناس بواحدٍ مثله أو قريب من سجاياه واخلاصه وشجاعته لنضعه في سويداء القلب !!
يا وصفي ..!! أيها الرمز الغالي .. يا حبيب الأردن ..و القدس .. وفلسطين .. يا نصير الغلابى والمظلومين والمساكين .. ان أقسى انواع الرحيل .. وأصعب أنواع الوجع .. عندما يرحل الغالي عنّا .. ولا يرحل منّا.. فأنت يا شبيهنا .. وشبيه الوطن .. لم ولن ترحل مناّ ومن قلوب أحفادنا مهما طال الزمن !!
يا وصفي .. ما تزال باقياً في النفوس .. وحاضراً في الوجدان .. ومثلاً أعلى لنا ولأحفادنا ولكل شرفاء
الأمه !!
يا وصفي .. وحدهم العظماء الذين يرسمون حدود الوطن.. وآفاق المحبة !! وأنت العظيم الذي رسمت من خلال جهادك .. وجهدك.. واستشهادك حدود الوطن الكبير .. وأطياف المحبة الدافقة!!
اشتقنا اليك .. يا وطناً يرفد الوطن !!
اشتقنا اليك .. أيها الوطن " المزيون " من لحم ودم !!
اشتقنا اليك .. فقد ذبحتنا الغربة يا وصفي !!
وفي ختام الختام أقول :
يا وصفي .. يابن الأكرمين .. هلاّ أعرتنا دِرَتّك ليوم واحد فقط لكي نهوى بها على رقاب الفاسدين والمفسدين .. ورموز الفساد الذين سرقوا الوطن ولهفوا الأخضر واليابس ؟! أعرنا .. الّدِرَة .. يا أخو علياء !! أعرنا الّدِرَة .. يا الغالي !!