ناجي علوش الذي عرفته
سمعت عن ناجي علوش قبل أن أكمل الدراسة الثانوية في الكويت، وكنا ندرس في مدارس منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت أخبار فتح والصراعات التنظيمية والعمل الفدائي وجبة يومية في حياتنا.
ليس سهلاً أن تؤرخ للثورة الفلسطينية والحركة القومية في آخر ستة عقود بدون أن يكون ناجي علوش حاضراً وعلامة فارقة فيها، فـ"أبو إبراهيم" القيادي المؤسس لحركة فتح لم يدجن، وظل يشق عصا الطاعة، ولم يقبل بكل استحقاقات الانصياع والبراغماتية، وبقي ثورياً نقياً لا يأبه بالشعارات المرحلية، ولا بظلال العلاقة مع النظام العربي.
في فتح، ظل يخوض الصراع مع تيار التسوية، ولو أراد زعامة وجاهاً ومالاً لجنى وحقق ما يريد، لكنه اختار طريقاً صعباً ومختلفاً، فكانت تحركاته أولى الهزات الكبيرة داخل حركة فتح، حين أسس مع رفاق له تيار فتح "الخط الصحيح"، واستمر الصراع وتعمقت الهوة والخلاف بينهم، فأسس تنظيم فتح "المجلس الثوري"، وكتب أدبياته، واستقطب حوله خيرة المناضلين، ولكن المسيرة لم تكتمل، فأبو نضال "صبري البنا" سعى لاختطاف التنظيم، وزجه فيما أطلق عليه العمليات الخارجية، والتي أسست لعمليات القتل والاغتيالات، وعندها رفض علوش هذا الطريق واعتبره خروجاً على النهج الثوري، وأعلن في مؤتمر كبير "الطلاق" مع صبري البنا، طارده أبونضال وأطلق عليه لقب "ليخ فليسا" واصفاً إياه بأنه انشقاقي مثل الزعيم البولندي في ذلك الوقت، وأهدر دمه حتى مات.
عرفت علوش في أول الثمانينيات، وكان مختلفاً عن مناضلي الصالونات السياسية والمقاهي، كان بسيطاً متواضعاً لا يعرف الاستعراض والبروباغندا، ولم يكن يعشق الكاميرات والظهور.
لم يكن علوش سياسياً يحترف التنظير فقط، بل كان شاعراً، وناقداً أدبياً، ومفكراً، يزاوج بين القومي والماركسي ولا يجد بينهما تعارضاً.
ورغم ولعه بالعمل الإعلامي ورئاسته لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، فإنه كان من المقاتلين الشرسين الذين لم يفرطوا بالبندقية، وسجل صموداً بطولياً في "قلعة الشقيف" بلبنان في مواجهة الإسرائيليين عند تقدمهم لاحتلالها عام 1978.
ظل ناجي علوش مؤمناً أن الطريق لتحرير فلسطين، وبناء الديمقراطية ووحدة الوطن العربي، لن تتحقق بدون ثورة قومية ديمقراطية شعبية، وظل مسكوناً ببناء تنظيم عربي لا يعترف بحدود سايكس بيكو، ويتمرد عليها، فأسس عام 1979 تنظيم حركة التحرير الشعبية العربية، وبقي حارساً له، ومنظراً لأفكاره، ومكافحاً لبناء حركة ثورية عربية لا تكرس القطرية في فكرها وممارستها.
ناجي علوش ابن "بير زيت" لم تعرف حياته الاستقرار حتى أصابه الشلل، فمن عمان إلى بيروت إلى بغداد إلى دمشق إلى عمان مرة أخرى، لم يترك قلمه ولا بندقيته، وظل فيما يكتب وفياً لرفاقه الذين سقطوا في الطريق، فهو لم ينس أبداً حنا مقبل، ولم ينس أبداً ماجد أبوشرار وآخرين أضاؤوا سراج الثورة والمقاومة.
عرفت ناجي علوش وأحببته، فقد كان ثائراً هادئ الطباع، لا يدخن، ولا يشرب، وحتى أصيب بالشلل ظل يمشي على قدميه ويستخدم سيارات التاكسي في تنقلاته، ولم يقتن السيارات الفارهة، ولم يحشد حوله الحرس والبودي جارد.
عشت مع علوش وتعلمت منه المبادئ القومية، وعشقت الوطن العربي من البحر إلى البحر، وحلمت به بلا حدود، وبلا أنظمة ديكتاتورية، وتمنيت أن نغني سوياً نشيد "موطني" بعد أن يتحرر من الاستبداد والتبعية والطائفية والانقسام.
رحل ناجي علوش بعد أن افتقدناه لسنوات بسبب المرض، لكن صورته لم تتلوث في وجدان تلامذته في كل العالم العربي، وتراثه الفكري سيظل مشعلاً يشحذ هممنا لطريق الوحدة والديمقراطية.
مات علوش، وحتى آخر لحظة في حياته ظلت بوصلته مع الناس وخاصة الغلابى، ولم ينحز أبداً للأنظمة مهما كانت ومهما رفعت من شعارات!.
أيها الرفيق الغالي نم مطمئناً، فأنت باق، ونحن نحفظ العهد، ولن نضل الطريق إلى الحرية من بعدك.
(الغد)