حوار المذاهب وحروب الدول
سليمان تقي الدين
جو 24 : دعا الملك السعودي في قمة المؤتمر الإسلامي التي انعقدت الأسبوع الفائت في المملكة إلى إنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية. كان ذلك بحضور رئيس الجمهورية الإيرانية ذات المذهب الشيعي، رسمياً. حدد الملك السعودي ثمانية مذاهب لهذا الحوار هي: الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي وهي المذاهب السنية الأربعة، والشيعي الجعفري، والزيدي والأباظي والظاهري، وهي المذاهب الموجودة في منطقة الخليج، في المملكة والإمارات والسلطنة وفي اليمن والعراق. الملك السعودي نفسه دعا منذ سنتين إلى الحوار بين الأديان في المؤتمر الذي انعقد في نيويورك وحضرته شخصيات يهودية إسرائيلية رسمية.
هناك مبادرات سابقة للحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية لكن الأهمية الخاصة الآن أن ترعى هذا الحوار المملكة العربية السعودية في وقت يتصاعد فيه التكفير حتى داخل التيارات السياسية في المذهب الواحد، ويشكل الصراع السني الشيعي عنواناً أساسياً لانشقاق العالم العربي والإسلامي.
من البديهي أن هذه المبادرة لن تعطي ثمارها سريعاً وتحتاج إلى مشروع متكامل وآليات وتلامس قضية أساسية هي الإصلاح الديني. إلا أننا نراها مهمة في دلالتها السياسية المباشرة كخطوة إيجابية تصدر عن مرجعية متشددة دينياً ومذهبياً، سنياً، تجاه طرف آخر متشدد شيعياً، ويقود كل منهما معسكراً سياسياً. من نافل القول إننا في عالم تجاوز منذ زمن بعيد مسألة الاعتراف بالآخر بين الأديان والثقافات، وأن المسلمين انخرطوا في هذا العالم ويعيشون معظمهم متصالحين معه ومندمجين فيه. بينما هم لم يتصالحوا بعد مع أنفسهم وتاريخهم وثقافتهم المشتركة وينبشون خصوصياتها وفروعها ويجعلون من ذلك مادة نزاع وشقاق. على أي حال هي خطوة متواضعة جداً وجزئية في الاتجاه الصحيح.
ماذا الآن عن العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة بين جمهور هذه المذاهب؟
من المعروف أن إيران قبل الثورة الإسلامية لم تكن عدوة لدول الخليج، وكان العرب يتعاملون معها على أساس سياسي، وكذلك كانت سوريا بنظامها نفسه دولة متعاونة وشريكة في إدارة العالم العربي وقضاياه. ولم تكن المذاهب التي أقر بشرعيتها الملك السعودي خارج السياق إلا المذهب الشيعي الذي له أتباع محرومون من حقوقهم في المملكة بصفتهم المذهبية.
وهؤلاء هم غالبية الشعب البحريني وجزء مهم من الشعب الكويتي وأكثرية موصوفة في العراق وثلث المجتمع اللبناني. لم تكن المملكة تتعامل مع هذه الشعوب والدول انطلاقاً من قاعدة مذهبية باستثناء فئة من شعبها. أما اليوم فتنظر إلى العراق والبحرين واليمن ولبنان وسوريا فضلاً عن إيران نظرة مذهبية. ولا يمكن للمملكة أن تصحح هذه النظرة إلا بدءاً من تعاملها مع الجماعة الشيعية فيها ومع حقوق الشيعة العرب بالسوية نفسها التي تقبل فيها مذاهب الإمارات الخليجية الأخرى.
لم يكن تاريخ العرب القريب محمولاً على النزاعات المذهبية. منذ الثورة العربية الأولى في العام 1916 كانت هوية شعوب المنطقة هي العروبة ولا شيء سوى العروبة. وفي مواجهة الاستعمار الأوروبي وفي مرحلة النهوض القومي يصعب فرز تاريخ الشعوب العربية على خارطة الأديان والطوائف والمذاهب. بل إن العروبة بما هي حركة فكرية منظمة استهوت «الأقليات» كلها أكثر ما استهوت السنة حتى الذين كانوا الجمهور الأوسع للحركة القومية. جذبت العروبة جميع النخب في جميع الأقطار بما في ذلك الخليج العربي. علينا أن نبحث مشكلة المذاهب بصفتها أوعية لمفاعيل اجتماعية وسياسية ناتجة عن أنظمة استخدمت الترسانة الثقافية الدينية لدعم وتسويغ شرعيتها وشرعية الامتيازات والحرمانات التي وزعتها على شعوبها. فلو كانت البحرين مملكة شيعية من قبل أو العراق تحت سلطة شيعية لما تبدلت كثيراً العلاقات العربية العربية. ولو كانت إيران كما قبل أربعمئة سنة دولة سنية لما تغير الموقف منها، كما كانت المملكة تتعامل مع مصر السنية بحسب خياراتها السياسية لا بحسب مذهبها الديني. وكذلك الحال مع تركيا.
لا ننكر طبعاً أن إيران اقتحمت العالم العربي بفكرة تصدير الثورة ثم بتصدير نفوذها، حتى صارت شريكة في منظومة المصالح العربية واقتطعت لنفسها مناطق جغرافية سياسية ومذهبية. وإيران اليوم تتصرف تجاه مشكلات العالم العربي وقضاياه على استثمار البيئة الشيعية ومصالحها في العراق واليمن والخليج وسوريا ولبنان. فإذا هي نجحت في تبرير إسقاط الحكم الفردي والفئوي في العراق وجنت ثمار ذلك فهي لا تستطيع تبرير استرهان مصالح أكثرية الشعب السوري وهي تدعم بلا هوادة النظام بذريعة دوره الممانع وهذا طبيعي ومنطقي، ولكن من دون أن تأخذ بنظر الاعتبار أنه لم تعد سياسة النظام الداخلية صالحة لدور ممانع. كما لم تعد الممانعة ممكنة أصلاً إلا بشروط تجديد التضامن العربي على قاعدة التعاون بين شعوبه الحرة القادرة على صياغة سياسات وطنية واجتماعية مترابطة.
هكذا تبدو إيران اليوم وكأنها قوة كابحة لمسار التغيير في العالم العربي، لأن هذا التغيير تحمله في الغالب أكثرية الإسلام السياسي السني.
وها نحن في لبنان نقع على موقف إيراني مركب ومتناقض بين دعم لدفاعنا الوطني، وهو جهد مشكور ثمرته «المقاومة» وسلاح المقاومة والإنجازات على هذا الصعيد، وبين محاولات وضع لبنان كجبهة أمامية متقدمة في صراع إقليمي عربي إسرائيلي وعربي عربي لا يسمح للبلد أن ينهض أو أن يستعيد وحدته ودولته واستقراره. فإذا نحن حاولنا عزل هذا الصراع عن بُعده المذهبي أو صراع النفوذ الإقليمي لما استطعنا ذلك.
ونكاد اليوم نلحق الصراع المذهبي السني الشيعي بالصراع السعودي الإيراني ولا نجد في حوار المذاهب ما يلجم هذا الصراع حتى لا نقول إنه يلغيه.
إن لبنان اليوم مسؤولية سعودية إيرانية بالدرجة الأولى، وما حصل فيه من تفكك للدولة الهشة خلال السنوات الماضية ليس إلا ترجمة عملية لوصاية مشتركة متناقضة أساسها الفعلي تصدير النزاع الإقليمي إلى لبنان مذهبياً وسياسياً. ولكم كان مجدياً وجليلاً لو أن الملك السعودي سعى إلى الحوار مع إيران من أجل حماية لبنان وتنظيم الاختلاف فيه وتوسيع هامش استقلاله عن الأزمة السورية، فلبنان ليس محلاً لهيمنة أي مذهب ولا طائفة مهما كانت مطامح الدول الإقليمية.
السفير
هناك مبادرات سابقة للحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية لكن الأهمية الخاصة الآن أن ترعى هذا الحوار المملكة العربية السعودية في وقت يتصاعد فيه التكفير حتى داخل التيارات السياسية في المذهب الواحد، ويشكل الصراع السني الشيعي عنواناً أساسياً لانشقاق العالم العربي والإسلامي.
من البديهي أن هذه المبادرة لن تعطي ثمارها سريعاً وتحتاج إلى مشروع متكامل وآليات وتلامس قضية أساسية هي الإصلاح الديني. إلا أننا نراها مهمة في دلالتها السياسية المباشرة كخطوة إيجابية تصدر عن مرجعية متشددة دينياً ومذهبياً، سنياً، تجاه طرف آخر متشدد شيعياً، ويقود كل منهما معسكراً سياسياً. من نافل القول إننا في عالم تجاوز منذ زمن بعيد مسألة الاعتراف بالآخر بين الأديان والثقافات، وأن المسلمين انخرطوا في هذا العالم ويعيشون معظمهم متصالحين معه ومندمجين فيه. بينما هم لم يتصالحوا بعد مع أنفسهم وتاريخهم وثقافتهم المشتركة وينبشون خصوصياتها وفروعها ويجعلون من ذلك مادة نزاع وشقاق. على أي حال هي خطوة متواضعة جداً وجزئية في الاتجاه الصحيح.
ماذا الآن عن العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة بين جمهور هذه المذاهب؟
من المعروف أن إيران قبل الثورة الإسلامية لم تكن عدوة لدول الخليج، وكان العرب يتعاملون معها على أساس سياسي، وكذلك كانت سوريا بنظامها نفسه دولة متعاونة وشريكة في إدارة العالم العربي وقضاياه. ولم تكن المذاهب التي أقر بشرعيتها الملك السعودي خارج السياق إلا المذهب الشيعي الذي له أتباع محرومون من حقوقهم في المملكة بصفتهم المذهبية.
وهؤلاء هم غالبية الشعب البحريني وجزء مهم من الشعب الكويتي وأكثرية موصوفة في العراق وثلث المجتمع اللبناني. لم تكن المملكة تتعامل مع هذه الشعوب والدول انطلاقاً من قاعدة مذهبية باستثناء فئة من شعبها. أما اليوم فتنظر إلى العراق والبحرين واليمن ولبنان وسوريا فضلاً عن إيران نظرة مذهبية. ولا يمكن للمملكة أن تصحح هذه النظرة إلا بدءاً من تعاملها مع الجماعة الشيعية فيها ومع حقوق الشيعة العرب بالسوية نفسها التي تقبل فيها مذاهب الإمارات الخليجية الأخرى.
لم يكن تاريخ العرب القريب محمولاً على النزاعات المذهبية. منذ الثورة العربية الأولى في العام 1916 كانت هوية شعوب المنطقة هي العروبة ولا شيء سوى العروبة. وفي مواجهة الاستعمار الأوروبي وفي مرحلة النهوض القومي يصعب فرز تاريخ الشعوب العربية على خارطة الأديان والطوائف والمذاهب. بل إن العروبة بما هي حركة فكرية منظمة استهوت «الأقليات» كلها أكثر ما استهوت السنة حتى الذين كانوا الجمهور الأوسع للحركة القومية. جذبت العروبة جميع النخب في جميع الأقطار بما في ذلك الخليج العربي. علينا أن نبحث مشكلة المذاهب بصفتها أوعية لمفاعيل اجتماعية وسياسية ناتجة عن أنظمة استخدمت الترسانة الثقافية الدينية لدعم وتسويغ شرعيتها وشرعية الامتيازات والحرمانات التي وزعتها على شعوبها. فلو كانت البحرين مملكة شيعية من قبل أو العراق تحت سلطة شيعية لما تبدلت كثيراً العلاقات العربية العربية. ولو كانت إيران كما قبل أربعمئة سنة دولة سنية لما تغير الموقف منها، كما كانت المملكة تتعامل مع مصر السنية بحسب خياراتها السياسية لا بحسب مذهبها الديني. وكذلك الحال مع تركيا.
لا ننكر طبعاً أن إيران اقتحمت العالم العربي بفكرة تصدير الثورة ثم بتصدير نفوذها، حتى صارت شريكة في منظومة المصالح العربية واقتطعت لنفسها مناطق جغرافية سياسية ومذهبية. وإيران اليوم تتصرف تجاه مشكلات العالم العربي وقضاياه على استثمار البيئة الشيعية ومصالحها في العراق واليمن والخليج وسوريا ولبنان. فإذا هي نجحت في تبرير إسقاط الحكم الفردي والفئوي في العراق وجنت ثمار ذلك فهي لا تستطيع تبرير استرهان مصالح أكثرية الشعب السوري وهي تدعم بلا هوادة النظام بذريعة دوره الممانع وهذا طبيعي ومنطقي، ولكن من دون أن تأخذ بنظر الاعتبار أنه لم تعد سياسة النظام الداخلية صالحة لدور ممانع. كما لم تعد الممانعة ممكنة أصلاً إلا بشروط تجديد التضامن العربي على قاعدة التعاون بين شعوبه الحرة القادرة على صياغة سياسات وطنية واجتماعية مترابطة.
هكذا تبدو إيران اليوم وكأنها قوة كابحة لمسار التغيير في العالم العربي، لأن هذا التغيير تحمله في الغالب أكثرية الإسلام السياسي السني.
وها نحن في لبنان نقع على موقف إيراني مركب ومتناقض بين دعم لدفاعنا الوطني، وهو جهد مشكور ثمرته «المقاومة» وسلاح المقاومة والإنجازات على هذا الصعيد، وبين محاولات وضع لبنان كجبهة أمامية متقدمة في صراع إقليمي عربي إسرائيلي وعربي عربي لا يسمح للبلد أن ينهض أو أن يستعيد وحدته ودولته واستقراره. فإذا نحن حاولنا عزل هذا الصراع عن بُعده المذهبي أو صراع النفوذ الإقليمي لما استطعنا ذلك.
ونكاد اليوم نلحق الصراع المذهبي السني الشيعي بالصراع السعودي الإيراني ولا نجد في حوار المذاهب ما يلجم هذا الصراع حتى لا نقول إنه يلغيه.
إن لبنان اليوم مسؤولية سعودية إيرانية بالدرجة الأولى، وما حصل فيه من تفكك للدولة الهشة خلال السنوات الماضية ليس إلا ترجمة عملية لوصاية مشتركة متناقضة أساسها الفعلي تصدير النزاع الإقليمي إلى لبنان مذهبياً وسياسياً. ولكم كان مجدياً وجليلاً لو أن الملك السعودي سعى إلى الحوار مع إيران من أجل حماية لبنان وتنظيم الاختلاف فيه وتوسيع هامش استقلاله عن الأزمة السورية، فلبنان ليس محلاً لهيمنة أي مذهب ولا طائفة مهما كانت مطامح الدول الإقليمية.
السفير