2024-04-24 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

ذلك السرير!

حلمي الأسمر
جو 24 : تتعدد روايات الكتاب والمثقفين حين يستدعون أسطورة بروكوست الإغريقية، لكن المحتوى الأصلي يبقى واحدا، فهي تحكي عن شخصية قاطع طريق يدعى بروكست، كان يسكن في مدينة كوريدال، وكان يخرج إلى الطريق الرابطة بين أثينا و إيلوسيس، فيقبض على المسافرين ليمارس عليهم تعذيبا بالغ الغرابة، وقد كانت أداته في التعذيب هي مقاس السرير، حيث كان يخدع المسافر بدعوى ضيافته، لكن بمجرد ما يدخله إلى بيته يبدأ في ممارسة عنفه السادي عليه، حيث كان لديه سريران واحد صغير الحجم جدا، والثاني كبير جدا؛ فإذا كان المسافر من طوال القامة يمدده على السرير الصغير، ثم يقطع رجليه حتى لا يبقى من الجسد إلا ما يماثل مقاس السرير. أما إذا كان من قصار القامة، فيمدده على السرير الكبير، ثم يمط جسده حتى يطول ويستوي على مقاسه. وكلتا العمليتين تكشفان عن فن «رفيع» من فنون التعذيب! هذه الأسطورة نجدها مروية في أمكنة أخرى بصيغة أخرى، وهي أن بروكست لم يكن لديه سوى سرير واحد، غير أنه كان سريرا خاصا لا مثيل له في شكله ومقاسه؛ ولذا فحتى جسد بروكست ذاته لا يناسبه. أما عملية التعذيب، فكانت هي ذاتها، حيث إذا وجد المسافرَ أقصر من السرير، فإنه يقوم بمط جسده .أما إذا وجده أطول منه، فإنه في هذه الحالة يقوم بقطع رجليه، حتى يكون الجسد على مقاس السرير بالضبط ! تكاثرت جرائم بروكست، لكن حظه العثر أوقعه يوما في مسافر من نوع خاص؛ إنه البطل الأثيني تيسي، الذي قام بقتله بنفس طريقة التعذيب التي كان يمارسها على ضحاياه؛ أي التمدد على السرير والبدء في بتر ما لا يتناسب مع مقاسه، أو تمطيط الجسد حتى يتماشى مع مساحة السرير! أسطورة بروكوست، في كنهها، تتمدد في غير مثال، في السياسة، كما في الاقتصاد، والحياة الاجتماعية، وفي الدين أيضا، ويمكن استحضارها حينما ترى كائنا يريد أن «يفصل» عقولا أو شخصيات على مقاسه هو، وهي أكثر تمثيلا في علاقة الرجل بالمرأة، فكل منهما يريد أن تتطابق شخصية شريكه مع مقاسات السرير المفترض، أو المرسوم في الذهن، وحتى الوصول إلى تلك المقاسات، ربما لن يكون هناك ما يُتفق عليه، أو ما يُختلف عليه حتى، فالحياة المشتركة التي تُبنى بمثل هذه العقلية مآلها إلى الخراب، فقد خلق الله الناس على أنماط وطبع معينة، ومن الممكن «تطويع» بعض الطباع، لكن ليس بالإمكان تخليقها من جديد، وكثير من علاقات البشر تفشل لأن كلا منهم يمتلك سريره الخاص الذي يريد أن يكون على مقاس الآخرين، ولو جبرا وقهرا، وهذا غير متيسر، وقد يكون مصير هؤلاء كمصير بروكوست نفسه، الذي جاءه من يعامله بالطريقة ذاتها، التي كان يعامل فيها البشر! الحياة المشتركة ليست تعذيبا، وحين تنحرف إلى هذا الدرك، تصبح مستحيلة، وتنفجر مخافة شظايا لكلا الطرفين، ولهذا، كثيرا ما نرى الانفجارات المتتالية في مقتبل حياة المتزوجين الجدد، لأن كل واحد منهم يريد أن يفصل شخصية الآخر على مقاس سريره، ثم ما يلبث القوم أن يدركوا أن عليهم التعايش مع ما هو موجود، ورمي السرير خارج الحياة المشتركة، ولعل من ألف أسطورة بروكوست، أراد أن يقول لنا، أن لكل جسد سريره، ولكل شخصية مميزاتها، وأي محاولة لتغييرها وفق معايير مفترضة، تؤدي إلى الهلاك، فليقنع كل منا بما هو ميسر له، أو ليعش وحيدا مع سريره الفارغ! الدستور
تابعو الأردن 24 على google news