عن النموذج الأفغاني في سوريا
منذ شهور طويلة رجحنا أن النموذج السوري سيكون أقرب للنموذج الأفغاني منه للنموذج العراقي، أعني ما يتصل بمشاركة المقاتلين الإسلاميين في مواجهة نظام بشار الأسد.
قلنا مرارا أيضا إن تدفق المقاتلين الإسلاميين إلى الساحة السورية لم يبدأ إلا بعد شهور طويلة من انطلاقة الثورة، فيما كانت العمليات المحدودة الأولى التي نفذت نتاج اختراق للنظام في المجموعات الجهادية التي خبر التعامل معها منذ أيام المقاومة العراقية ضد الاحتلال، وكان الهدف كما يعرف الجميع هو مغازلة الغرب الذي يخشى هذه المجموعات، إضافة إلى وصم الثورة بالإرهاب بدل أن تكون ثورة شعبية شعارها الحرية والكرامة مثل سائر الثورات التي سبقتها في اليمن ومصر وليبيا وتونس.
لقد اعتقد النظام أن عسكرة الثورة ستسهّل عليه قمعها بدل استمرار مشاهد قتل الناس العزل في الشوارع، مع العلم أن عاما كاملا منذ اندلاع الثورة لم يُقتل فيه من المسلحين سوى بضعة أفراد، بينما كان أكثر الشهداء من المتظاهرين العزل، فضلا عن عشرات الآلاف من المعتقلين الذين يرزحون في سجون النظام، بل مسالخه البشعة بتعبير أدق.
في الحالة العراقية كانت هناك موجتان من تدفق المقاتلين؛ الأولى هي تلك التي جاءت قبل الغزو وكان عمادها جحافل من الشبان المتدينين الذي أشعلت حماستهم موجة التعاطف الشعبي مع نظام صدام بسبب الخطاب الإسلامي الذي تبناه خلال مرحلته الأخيرة من جهة، والعداء للولايات المتحدة من جهة أخرى. أما الموجة الثانية فجاءت بعد الاحتلال؛ ليس مباشرة، بل بعد أسابيع وربما شهور قليلة بعد إطلاق تنظيم التوحيد والجهاد للمقاومة، وإلى جانبه عدد من الفصائل ذات اللون الإسلامي. وتصاعدت هذه الظاهرة بعد مبايعة زعيم التنظيم (الزرقاوي) لأسامة بن لادن الذي كان يحظى حينها بشعبية كبيرة في أوساط قطاع لا بأس به من الشبان الإسلاميين.
أسهم ذلك في تدفق أموال كثيرة وأعداد من الشبان للمشاركة في الجهاد في العراق الذي مثل احتلاله دون مسوغ قانوني أو أخلاقي إهانة ثقيلة للعرب والمسلمين عموما؛ هو الذي يعتبر من أهم حواضر الأمة. لكن ما ينبغي أن يقال هنا هو أن أكثر المشاركين في تلك المرحلة (الموجة الثانية) كانوا من المقتنعين بخطاب القاعدة والسلفية الجهادية.
يختلف ذلك كله عن المرحلة الأفغانية، ذلك أن تيار السلفية الجهادية لم يكن حينها قد أصبح رقما مهما في معادلة الصحوة، وكان المجاهدون العرب في أفغانستان خليطا من التيارات الإسلامية، بمن فيها المعتدلة ممثلة في الإخوان المسلمين، وكذلك أخرى مثل الجماعة الإسلامية والجهاد (مصر)، إلى جانب قطاع من المستقلين ومن بينهم شبان من ذوي التوجه السلفي العادي وليس الجهادي بطبعته التي تبلورت خلال النصف الثاني من التسعينات.
اليوم في الساحة السورية ثمة تشابه كبير مع النموذج الأفغاني، ذلك أن النموذج السلفي الجهادي لم يعد جاذبا كما كان من قبل. ثم إنه في طبعته القاعدية كان يركز على “العدو البعيد”، وهنا تنشب المعركة مع عدو قريب، بل إن الثورة ذاتها لا تحظى بمعارضة أمريكية غربية، وإن جرى حصارها بمنع التسليح الذي يحسم المعركة من خلال الضغط على تركيا والدول العربية الداعمة، وبالطبع من أجل المصلحة الإسرائيلية الكامنة في إطالة أمد المعركة من أجل تدمير سوريا وإشغالها بنفسها لعقود.
في الحالة الأفغانية كان هناك حشد إسلامي ضد الشيوعية، واليوم يستخدم الحشد ضد إيران والشيعة في تجييش المقاتلين، فضلا عن انحياز الشبان العرب للثورات عموما ومن ضمنها الثورة السورية، ولو استدعت النماذج الأخرى من الثورات قبلها مواجهات مسلحة مع الأنظمة لتكرر المشهد، مع فارق أن حضور الناتو في الحالة الليبية قد حال دون تدفق المقاتلين.
المقاتلون الإسلاميون في سوريا هم خليط من شتى التيارات، وكثير منهم متدينون عاديون أخذتهم الحماسة للثورة والانحياز لشعب يتعرض للقتل بلا حساب. وما يؤكد هذه الظاهرة هو ضآلة حضور النموذج “الانتحاري” في المشهد السوري، مقابل القتال العادي بالسلاح والقنابل والعبوات الناسفة أحيانا.
ما ينبغي أن يقال هنا هو أن إطالة أمد المعركة سيساهم في زيادة نسبة النموذج السلفي الجهادي على حساب التيارات الأخرى، وهي نسبة ليست بالضرورة من المقاتلين العرب والمسلمين، بل سيكون أكثرها من السوريين الذين يشعرون أن التيار المذكور يوجع العدو أكثر من سواه، كما أنه الأكثر تنظيما، وقد يكون تمويله أفضل بسبب دعم فعاليات خليجية تفضله على ما سواه، فضلا عن تصاعد التدين في صفوف الناس كحالة طبيعية في القتال الذي قد يفضي إلى الموت في أية لحظة.
أهم ما في هذا الملف هو ضرورة أن يتقيد المقاتلون الإسلاميون بالخط العام للثورة ولا يكرروا أخطاء النظام المجرم من جهة، والأهم عدم التدخل في السياق السياسي التالي الذي يمكن أن يتوافق عليه السوريون باعتبار أنها ثورة من أجل الحرية وتريد التعددية والتعايش بين فئات المجتمع ككل، وليست ثورة مسلحة يتسلم زمام وضعها التالي بالضرورة صاحب الدور الأكبر في ميدان القتال والسلاح؛ تماما كما كان الحال في ليبيا.
يبقى القول إن تشابه الحالة السورية مع الأفغانية يبقى محصورا في البعد المشار إليه، ربما إلى جانب إمكانية تورط إيران في المعركة مثل تورط الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. أما أمد المعركة فلن يطول كما طالت المعركة الأفغانية.
(الدستور)