حماس وبلير .. والمشروع الخطير
ياسر الزعاترة
جو 24 : يتصاعد الجدل حول مفاوضات بلير مع حماس، ومشعل تحديدا، وتكثر التسريبات، فمن قائل، إنها تقترب، ومن قائل إنها لن تكون.
من جهتنا نتمنى فشلها بكل تأكيد، لأن تجريب المجرّب عبث وأي عبث، وهذا المسار المعروض هو نفس المسار الذي اختطته حركة فتح، وانتهى بالقضية لهذا التيه الراهن، وأي كلام آخر ليس له قيمة، وهو كمن “يرشّ على الموت سكر”. وعموما، فنحن نكتب هنا في سياق التحذير، بخاصة لأمثال خالد مشعل الذي نربأ به أن يختم حياته السياسية بمثل هذا.
قلنا من قبل، إن الأخطاء الإستراتيجية مثل المشاركة في انتخابات سلطة أوسلو 2006، بعد رفضها عام 96؛ يصعب أن تمر دون تبعات كبيرة، وتأكد الأمر بعد الحسم العسكري الذي أخذ جزءا صغيرا من البيت، وترك الباقي لعبث محمود عباس.
يكفي أن يحضر اسم توني بلير في أي حوار يجري مع حركة حماس حتى يُصاب المرء بحساسية مفرطة. فليس لهذا الرجل أية سيرة تدفع لحسن الظن، ولو في الحد الأدنى، فهو حبيب الصهاينة المعروف، والعدو الألد لكل قضايا أمتنا، فضلا عن كونه مندوب الرباعية صاحبة الشروط الأربعة المعروفة، لكنه وهذا هو الأهم، المشرف الثاني (إلى جانب الجنرال دايتون) على المرحلة الجديدة بعد اغتيال عرفات، من دون أن يعني ذلك أن تغيير اسم الوسيط سيغير في جوهر اللعبة.
خلاصة الصفقة التي يحملها بلير، ودون الدخول في شيطان التفاصيل هي التهدئة (طولها لا يهم لأنها ستجدد تلقائيا، ولن يعلن القطاع حربا جديدة أصلا لأنه سيتحول إلى دولة “جوار” بشكل عملي وجو اعلاني)، وذلك مقابل رفع الحصار، وتسهيل مهمة الإعمار، مع منفذ بحري (بإشراف دولي).
سيقول البعض: وأين المشكلة؟ أليس من حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أن يعيش ككل البشر، ويعيد إعمار ما دمرته الحرب، ومن ثم يخرج من شرنقة الحصار؟
الجواب الطبيعي هو نعم، ولكن هذا الجواب يستدعي أسئلة بلا حصر، لعل أولها هو: إذا كان الأمر يتعلق بشروط الحياة وحسب؛ وليس مصلحة القضية برمتها، فلماذا كانت المقاومة من الأصل، ولماذا كان الدمار من قبل ومن بعد؟ ألم يكن أولى بالشعب الفلسطيني أن يقبل بمشروع روابط القرى (في السبعينيات) الذي لا يختلف عن واقع السلطة الحالي، ويوفر عقودا من المعاناة، أو يقبل بواقع السلطة في غزة كما كانت عليه أيام دحلان، ولا يتسلح ولا يحارب، ولا يجرَّ على نفسه هذا الدمار؟ ولماذا يتم رفض هذا المنطق في الضفة حيث يردده عباس دائما بقوله: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)؟!!
إنه منطق لا علاقة له بقضايا التحرر، ولا يمكن أن يكون مقبولا إذا أخرج المتحدث رأسه من الصندوق قليلا، وبدأ يفكر في عموم القضية والصراع التاريخي مع العدو، فضلا عن أن يكون من أولئك الذين يرفعون شعار التحرير من البحر إلى النهر.
ولكي لا يرى البعض المشهد من زاوية القطاع وحسب، فإن من الضروري التذكير بواقع الضفة التي تعيش وضعا مماثلا لما يَعِد به بلير القطاع، فهنا في ظل عباس، تمضي صفقة عنوانها الحياة المعقولة للناس (كانت تتحسن تباعا منذ 2004 كلما أثبت التعاون الأمني فاعليته)، وهيكل دولة مقابل تعاون أمني شامل، وأمن للاحتلال، أما المفاوضات على ما يسمى الحل النهائي، فيمكن أن تستمر لسنوات، وربما لعقود طويلة. والنتيجة هي أن ثمة شبه دولة تعيش نزاعا حدوديا مع جارتها، وستواصل التفاوض معها و”الضغط عليها من خلال المجتمع الدولي”، حتى يأذن الله بالفرج. متى؟ لا ندري.
هكذا يمكن القول إن الصفقة مع حماس في غزة هي محاكاة لمصيبة عباس في الضفة الغربية، أي صفقة عنوانها “الحياة المعقولة للناس مقابل ترك المقاومة وبيع القضية”، من دون الحاجة إلى إعلان رسمي لعملية البيع، ولا يطلب نتنياهو ذلك، وكما يقبل من عباس أن يواصل الحديث عن الدولة الفلسطينية كاملة السيادة في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وحتى عودة اللاجئين إذا أحب، فليست لديه مشكلة في أن تواصل حماس القول إنها تريد فلسطين كل فلسطين، أو أنها لن تتخلى عن خيار المقاومة، مع قدر من التنديد كلما تصاعد الاستيطان والتهويد واستهداف المقدسات.
ما ينبغي أن يكون واضحا هو أن مشروع التهدئة الجديد الذي يُعرض على حماس اليوم، إلى جانب ما يفعله عباس في الضفة الغربية هو الترجمة العملية لمشروع شارون المسمى “الحل الانتقالي بعيد المدى” (للتذكير قرار شارون بالانسحاب من غزة كان جزءا من المشروع وليس بسبب المقاومة فقط، لأن خسائره في الضفة كانت أكبر بكثير).
وخلاصة المشروع هي ترك القضايا الحساسة في الصراع إلى ما شاء الله، والتركيز على العيش والتنمية، وصولا إلى “تأبيد” النزاع، وجعله مجرد نزاع حدودي بين دولتين (أي تحويل المؤقت إلى دائم، ربما بتعديلات طفيفة).
وهنا في الوضع ليس مهما سؤال ما إذا كان قطاع غزة سيبقى منفصلا من الناحية العملية، أم سيتم إيجاد وسيلة لربطه بالضفة، مع العلم أن عباس، وبعيدا عن التباكي المعلن، لن تكون لديه مشكلة تذكر في انفصال القطاع تماما، لا سيما أن فرع فتح فيها يتبع خصمه دحلان، بخاصة إذا تم الأمر بتوافق مصري إسرائيلي، وأقله بسكوت مصري، لأن الرضا مستبعد هنا بسبب خروج القطاع عمليا من دائرة الهيمنة المصرية.
المطلوب من هذه اللعبة برمتها هو دفن حركة حماس كمشروع مقاوم، وبث الإحباط في صفوف الفلسطينيين، بإقناعهم أن الخل أخو الخردل، وأنه لا أفق لأي تحرير عملي.
سيرد البعض إنها استراحة محارب، وتخفيف لمعاناة الناس، وأن هناك تهدئة موجودة الآن، لكن الحقيقة أن المؤقت يصبح دائما، ومن يعمِّر ويعمّر لسنوات، لن يغامر بمسار يؤدي إلى الدمار من جديد. ثم إن من العبث الاعتقاد أن المشروع لن يتضمن “فيتو” صارخا على استمرار التسلح وحفر الأنفاق وتأكيد بقاء القطاع قاعدة للمقاومة، وقد يتضمن شروطا على نشاط الحركة في الضفة أيضا. وكما كانت الدول العربية المحيطة بفلسطين تسمى دول الطوق، ثم ما لبثت أن تحولت إلى دول جوار، سيكون هذا هو حال قطاع غزة، وقبله الضفة الغربية التي أصبحت كذلك عمليا، كما لن يكون بوسع حماس أن ترفع شعار المقاومة في الضفة، وهي تمنع أي مساس بالهدنة في قطاع غزة، مع العلم أن الوعود “الجميلة” التي ستبذل لاستدراج موافقة الحركة لن تتحول إلى واقع عملي، وستكون المسافة بينها وبين التطبيق كبيرة (ألم تبذل وعود مشابهة من قبل؟)، مع أن التغير سيحدث بقدر ما لتمرير المشروع، أقله في البداية.
ليست لدينا أية أوهام حول قدرات القطاع المحاصر على شن حرب ضد الاحتلال، إذ ندرك أن قدرته تنحصر في رد العدوان، لكن الصفقات الطويلة التي تصبح واقعا دائما؛ ليست من المقاومة في شيء، كما أنها لا تنسجم أبدا مع وقائع الصراع الذي نحن بصدده، وهي ستمنع عمليا أي أفق لانتفاضة جديدة تعيد الصراع إلى سكته الصحيحة.
سيخرج البعض ليسأل عن الحل من أجل رفع الحصار والإعمار؟ وهنا سؤال مقلوب، لأن الأصل أننا شعب يقع تحت الاحتلال، ويقاوم، ومن يقاوم لن يرشقه عدوه بالورود.
إن ما يحدث الآن هو تكرار لتجربة حركة فتح، وحيث تُضيَّع القضية لحساب حلول لمشاكل جانبية نتجت عن أخطاء وتراكمات (أوسلو كان حلا لمشكلة عناصر يبحثون عن مأوى وزعيم يريد استعادة حضوره، وقال إن سيؤسس دولته من خلال الاتفاق فانتهت سلطته حارسا للاحتلال، وحين تمرد قتلوه)، ما يجعل من الضروري رفض المشاريع الراهنة، من بلير أو من سواه، فلا وجود في قاموس المقاومة لهدنة طويلة مع محتل يواصل الاستيطان والتهويد، ويقضم حتى المقدسات، ويرفض الاعتراف بالقرارات الدولية التي تمنحه 78 في المئة من فلسطين، فكيف وهي تهدئة تمهد لمشروع هو الأخطر في تاريخ الصراع (أعني مشروع شارون الوحيد المتداول في الكيان الهصيوني). وحين طرح الشيخ الشهيد أحمد ياسين فكرة الهدنة، كان يتحدث عن 13 عاما مقابل انسحاب كامل من أراضي 67 وإفراج عن الأسرى دون اعتراف بأي شيء للعدو، فأين من ذلك هدنة طويلة ستتجدد تلقائيا، بحسب تعبير أحدهم، مقابل رفع حصار وإعمار ليس إلا، فيما الاحتلال جاثم على 98 في المئة من فلسطين، مع سيطرة على القطاع من البحر ومن الجو، وإنْ دون جيش على الأرض؟! إذا كان التفكير سيبقى منصبا على الإبقاء على الوضع الراهن بكل تفاصيله وتحقيق الإعمار ورفع الحصار، فستكون النتيجة هي هذا المشروع الذي يضيِّع القضية، بالتعاون الضمني مع عباس. ولا بد من تفكير خارج الصندوق، إما بحكومة توافق يقبل بها الطرف الآخر، ولا تتجرأ على السلاح، وإذا فعلت، فتلك معركتها مع كل الشعب وقواه، أو استمرار الصمود بالوضع الراهن حتى تصحيح مسار القضية برمتها، أو حتى اللجوء إلى النظام المصري الذي قد يفك الحصار خشية فقدان ورقة القضية، لكن الأهم من ذلك كله هو القول، إنه لا شيء أبدا؛ لا حصار، ولا إعمار يبرر تكريس مشروع شارون وتضييع القضية، فهذا المنطق هو منطق عباس، ولا ينبغي أن يصبح هو ذاته منطق حماس (كان الشيخ الشهيد أحمد ياسين يردد دائما: من لا يستطيع الزواج، لا يُباح له الزنا). الأمل الآخر هو تفجير انتفاضة في الضفة الغربية تقلب الطاولة في وجه الجميع، وتعيد تصحيح بوصلة القضية التي ضاعت في متاهة سلطة صُممت لخدمة الاحتلال، وغيّبت نصف الشعب الفلسطيني في الخارج. والجهد الحقيقي ينبغي أن ينصب في هذا الاتجاه (الانتفاضة) أكثر من أي شيء آخر. يبقى الأمل المتبقي في أن توقف كتائب القسام، والعقلاء من سياسيي حماس هذا المسار، والذي سيضيّع رصيد حركة عظيمة في مغامرة بائسة تكرّس تيه القضية وضياعها، وليعلم الجميع أن الجماهير لا تعطي أحدا شيكا على بياض. تبقى لفتة تتعلق بردح رموز السلطة لمفاوضات حماس مع بلير. وهنا نقول، إن من يتمرغون في أحضان المحتل ويستمتعون بجوائز التعاون الأمني معه، هم آخر من يحق لهم الحديث عن القضية ومصلحتها.
(الدستور)
من جهتنا نتمنى فشلها بكل تأكيد، لأن تجريب المجرّب عبث وأي عبث، وهذا المسار المعروض هو نفس المسار الذي اختطته حركة فتح، وانتهى بالقضية لهذا التيه الراهن، وأي كلام آخر ليس له قيمة، وهو كمن “يرشّ على الموت سكر”. وعموما، فنحن نكتب هنا في سياق التحذير، بخاصة لأمثال خالد مشعل الذي نربأ به أن يختم حياته السياسية بمثل هذا.
قلنا من قبل، إن الأخطاء الإستراتيجية مثل المشاركة في انتخابات سلطة أوسلو 2006، بعد رفضها عام 96؛ يصعب أن تمر دون تبعات كبيرة، وتأكد الأمر بعد الحسم العسكري الذي أخذ جزءا صغيرا من البيت، وترك الباقي لعبث محمود عباس.
يكفي أن يحضر اسم توني بلير في أي حوار يجري مع حركة حماس حتى يُصاب المرء بحساسية مفرطة. فليس لهذا الرجل أية سيرة تدفع لحسن الظن، ولو في الحد الأدنى، فهو حبيب الصهاينة المعروف، والعدو الألد لكل قضايا أمتنا، فضلا عن كونه مندوب الرباعية صاحبة الشروط الأربعة المعروفة، لكنه وهذا هو الأهم، المشرف الثاني (إلى جانب الجنرال دايتون) على المرحلة الجديدة بعد اغتيال عرفات، من دون أن يعني ذلك أن تغيير اسم الوسيط سيغير في جوهر اللعبة.
خلاصة الصفقة التي يحملها بلير، ودون الدخول في شيطان التفاصيل هي التهدئة (طولها لا يهم لأنها ستجدد تلقائيا، ولن يعلن القطاع حربا جديدة أصلا لأنه سيتحول إلى دولة “جوار” بشكل عملي وجو اعلاني)، وذلك مقابل رفع الحصار، وتسهيل مهمة الإعمار، مع منفذ بحري (بإشراف دولي).
سيقول البعض: وأين المشكلة؟ أليس من حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أن يعيش ككل البشر، ويعيد إعمار ما دمرته الحرب، ومن ثم يخرج من شرنقة الحصار؟
الجواب الطبيعي هو نعم، ولكن هذا الجواب يستدعي أسئلة بلا حصر، لعل أولها هو: إذا كان الأمر يتعلق بشروط الحياة وحسب؛ وليس مصلحة القضية برمتها، فلماذا كانت المقاومة من الأصل، ولماذا كان الدمار من قبل ومن بعد؟ ألم يكن أولى بالشعب الفلسطيني أن يقبل بمشروع روابط القرى (في السبعينيات) الذي لا يختلف عن واقع السلطة الحالي، ويوفر عقودا من المعاناة، أو يقبل بواقع السلطة في غزة كما كانت عليه أيام دحلان، ولا يتسلح ولا يحارب، ولا يجرَّ على نفسه هذا الدمار؟ ولماذا يتم رفض هذا المنطق في الضفة حيث يردده عباس دائما بقوله: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)؟!!
إنه منطق لا علاقة له بقضايا التحرر، ولا يمكن أن يكون مقبولا إذا أخرج المتحدث رأسه من الصندوق قليلا، وبدأ يفكر في عموم القضية والصراع التاريخي مع العدو، فضلا عن أن يكون من أولئك الذين يرفعون شعار التحرير من البحر إلى النهر.
ولكي لا يرى البعض المشهد من زاوية القطاع وحسب، فإن من الضروري التذكير بواقع الضفة التي تعيش وضعا مماثلا لما يَعِد به بلير القطاع، فهنا في ظل عباس، تمضي صفقة عنوانها الحياة المعقولة للناس (كانت تتحسن تباعا منذ 2004 كلما أثبت التعاون الأمني فاعليته)، وهيكل دولة مقابل تعاون أمني شامل، وأمن للاحتلال، أما المفاوضات على ما يسمى الحل النهائي، فيمكن أن تستمر لسنوات، وربما لعقود طويلة. والنتيجة هي أن ثمة شبه دولة تعيش نزاعا حدوديا مع جارتها، وستواصل التفاوض معها و”الضغط عليها من خلال المجتمع الدولي”، حتى يأذن الله بالفرج. متى؟ لا ندري.
هكذا يمكن القول إن الصفقة مع حماس في غزة هي محاكاة لمصيبة عباس في الضفة الغربية، أي صفقة عنوانها “الحياة المعقولة للناس مقابل ترك المقاومة وبيع القضية”، من دون الحاجة إلى إعلان رسمي لعملية البيع، ولا يطلب نتنياهو ذلك، وكما يقبل من عباس أن يواصل الحديث عن الدولة الفلسطينية كاملة السيادة في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وحتى عودة اللاجئين إذا أحب، فليست لديه مشكلة في أن تواصل حماس القول إنها تريد فلسطين كل فلسطين، أو أنها لن تتخلى عن خيار المقاومة، مع قدر من التنديد كلما تصاعد الاستيطان والتهويد واستهداف المقدسات.
ما ينبغي أن يكون واضحا هو أن مشروع التهدئة الجديد الذي يُعرض على حماس اليوم، إلى جانب ما يفعله عباس في الضفة الغربية هو الترجمة العملية لمشروع شارون المسمى “الحل الانتقالي بعيد المدى” (للتذكير قرار شارون بالانسحاب من غزة كان جزءا من المشروع وليس بسبب المقاومة فقط، لأن خسائره في الضفة كانت أكبر بكثير).
وخلاصة المشروع هي ترك القضايا الحساسة في الصراع إلى ما شاء الله، والتركيز على العيش والتنمية، وصولا إلى “تأبيد” النزاع، وجعله مجرد نزاع حدودي بين دولتين (أي تحويل المؤقت إلى دائم، ربما بتعديلات طفيفة).
وهنا في الوضع ليس مهما سؤال ما إذا كان قطاع غزة سيبقى منفصلا من الناحية العملية، أم سيتم إيجاد وسيلة لربطه بالضفة، مع العلم أن عباس، وبعيدا عن التباكي المعلن، لن تكون لديه مشكلة تذكر في انفصال القطاع تماما، لا سيما أن فرع فتح فيها يتبع خصمه دحلان، بخاصة إذا تم الأمر بتوافق مصري إسرائيلي، وأقله بسكوت مصري، لأن الرضا مستبعد هنا بسبب خروج القطاع عمليا من دائرة الهيمنة المصرية.
المطلوب من هذه اللعبة برمتها هو دفن حركة حماس كمشروع مقاوم، وبث الإحباط في صفوف الفلسطينيين، بإقناعهم أن الخل أخو الخردل، وأنه لا أفق لأي تحرير عملي.
سيرد البعض إنها استراحة محارب، وتخفيف لمعاناة الناس، وأن هناك تهدئة موجودة الآن، لكن الحقيقة أن المؤقت يصبح دائما، ومن يعمِّر ويعمّر لسنوات، لن يغامر بمسار يؤدي إلى الدمار من جديد. ثم إن من العبث الاعتقاد أن المشروع لن يتضمن “فيتو” صارخا على استمرار التسلح وحفر الأنفاق وتأكيد بقاء القطاع قاعدة للمقاومة، وقد يتضمن شروطا على نشاط الحركة في الضفة أيضا. وكما كانت الدول العربية المحيطة بفلسطين تسمى دول الطوق، ثم ما لبثت أن تحولت إلى دول جوار، سيكون هذا هو حال قطاع غزة، وقبله الضفة الغربية التي أصبحت كذلك عمليا، كما لن يكون بوسع حماس أن ترفع شعار المقاومة في الضفة، وهي تمنع أي مساس بالهدنة في قطاع غزة، مع العلم أن الوعود “الجميلة” التي ستبذل لاستدراج موافقة الحركة لن تتحول إلى واقع عملي، وستكون المسافة بينها وبين التطبيق كبيرة (ألم تبذل وعود مشابهة من قبل؟)، مع أن التغير سيحدث بقدر ما لتمرير المشروع، أقله في البداية.
ليست لدينا أية أوهام حول قدرات القطاع المحاصر على شن حرب ضد الاحتلال، إذ ندرك أن قدرته تنحصر في رد العدوان، لكن الصفقات الطويلة التي تصبح واقعا دائما؛ ليست من المقاومة في شيء، كما أنها لا تنسجم أبدا مع وقائع الصراع الذي نحن بصدده، وهي ستمنع عمليا أي أفق لانتفاضة جديدة تعيد الصراع إلى سكته الصحيحة.
سيخرج البعض ليسأل عن الحل من أجل رفع الحصار والإعمار؟ وهنا سؤال مقلوب، لأن الأصل أننا شعب يقع تحت الاحتلال، ويقاوم، ومن يقاوم لن يرشقه عدوه بالورود.
إن ما يحدث الآن هو تكرار لتجربة حركة فتح، وحيث تُضيَّع القضية لحساب حلول لمشاكل جانبية نتجت عن أخطاء وتراكمات (أوسلو كان حلا لمشكلة عناصر يبحثون عن مأوى وزعيم يريد استعادة حضوره، وقال إن سيؤسس دولته من خلال الاتفاق فانتهت سلطته حارسا للاحتلال، وحين تمرد قتلوه)، ما يجعل من الضروري رفض المشاريع الراهنة، من بلير أو من سواه، فلا وجود في قاموس المقاومة لهدنة طويلة مع محتل يواصل الاستيطان والتهويد، ويقضم حتى المقدسات، ويرفض الاعتراف بالقرارات الدولية التي تمنحه 78 في المئة من فلسطين، فكيف وهي تهدئة تمهد لمشروع هو الأخطر في تاريخ الصراع (أعني مشروع شارون الوحيد المتداول في الكيان الهصيوني). وحين طرح الشيخ الشهيد أحمد ياسين فكرة الهدنة، كان يتحدث عن 13 عاما مقابل انسحاب كامل من أراضي 67 وإفراج عن الأسرى دون اعتراف بأي شيء للعدو، فأين من ذلك هدنة طويلة ستتجدد تلقائيا، بحسب تعبير أحدهم، مقابل رفع حصار وإعمار ليس إلا، فيما الاحتلال جاثم على 98 في المئة من فلسطين، مع سيطرة على القطاع من البحر ومن الجو، وإنْ دون جيش على الأرض؟! إذا كان التفكير سيبقى منصبا على الإبقاء على الوضع الراهن بكل تفاصيله وتحقيق الإعمار ورفع الحصار، فستكون النتيجة هي هذا المشروع الذي يضيِّع القضية، بالتعاون الضمني مع عباس. ولا بد من تفكير خارج الصندوق، إما بحكومة توافق يقبل بها الطرف الآخر، ولا تتجرأ على السلاح، وإذا فعلت، فتلك معركتها مع كل الشعب وقواه، أو استمرار الصمود بالوضع الراهن حتى تصحيح مسار القضية برمتها، أو حتى اللجوء إلى النظام المصري الذي قد يفك الحصار خشية فقدان ورقة القضية، لكن الأهم من ذلك كله هو القول، إنه لا شيء أبدا؛ لا حصار، ولا إعمار يبرر تكريس مشروع شارون وتضييع القضية، فهذا المنطق هو منطق عباس، ولا ينبغي أن يصبح هو ذاته منطق حماس (كان الشيخ الشهيد أحمد ياسين يردد دائما: من لا يستطيع الزواج، لا يُباح له الزنا). الأمل الآخر هو تفجير انتفاضة في الضفة الغربية تقلب الطاولة في وجه الجميع، وتعيد تصحيح بوصلة القضية التي ضاعت في متاهة سلطة صُممت لخدمة الاحتلال، وغيّبت نصف الشعب الفلسطيني في الخارج. والجهد الحقيقي ينبغي أن ينصب في هذا الاتجاه (الانتفاضة) أكثر من أي شيء آخر. يبقى الأمل المتبقي في أن توقف كتائب القسام، والعقلاء من سياسيي حماس هذا المسار، والذي سيضيّع رصيد حركة عظيمة في مغامرة بائسة تكرّس تيه القضية وضياعها، وليعلم الجميع أن الجماهير لا تعطي أحدا شيكا على بياض. تبقى لفتة تتعلق بردح رموز السلطة لمفاوضات حماس مع بلير. وهنا نقول، إن من يتمرغون في أحضان المحتل ويستمتعون بجوائز التعاون الأمني معه، هم آخر من يحق لهم الحديث عن القضية ومصلحتها.
(الدستور)