التطرف الاقتصادي في الأردن
د. محمد تركي بني سلامة
جو 24 :
التطرف بأنواعه المختلفة الديني والفكري والسياسي والاقتصادي من الظواهر الخطيرة التي تهدد أمن المجتمع والدولة على حد سواء، فالتطرف هو المنتج والمغذي للعنف والفوضى والإرهاب، وقد شاع مؤخراً استخدام مفهوم التطرف الديني ولا سيما الإسلامي Islamic Radicalism بشكل غير مسبوق وذلك لارتباطه بمفاهيم وظواهر أخرى مثل التعصب والتشدد والطائفية والمذهبية والعنف والحرب الأهلية والإرهاب، وكذلك نتيجة تنامي وصعود الظاهرة الدينية في المجتمعات العربية والإسلامية، وظهور جماعات دينية متطرفة وخصوصاً التكفيرية منها، والتي يعتقد أفرادها بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الحوار والنقاش، وكل من يخلفها الراي يتم استباحة دمه، وهذا النوع من التطرف من أكثر أنواع التطرف خطورة، حيث يتم فيه تجنيد فئات من المجتمع، ولا سيما من فئة الشباب، لتحقيق أهداف ضد المجتمع وأمنه واستقراره وتقدمه وازدهاره، إلا أن التطرف الاقتصادي لا يقل خطورة عن التطرف الديني، فالتطرف الاقتصادي هو أب التطرف بكل أنواعه، حيث أن الآثار الناجمة عن التطرف الاقتصادي أو السياسات الاقتصادية الحمقاء هي التي تنتج الفقر والبطالة والحرمان والمعاناة والاستغلال والتهميش، وهذه تشكل بدورها بيئة حاضنة لكل أنواع التطرف والإرهاب، ولعل ما شهدته بلدان الربيع العربي من ثورات وانتفاضات وحروب طاحنة خلال السنوات الماضية خير شاهد على دور العامل الاقتصادي في خروج الجماهير إلى الشوارع والميادين العامة منادية بالحرية والعدالة الاجتماعية.
وفي الأردن، فقد شهدت البلاد خلال السنوات الماضية حراكاً شعبياً كبيراً حيث تنادي الجماهير بإصلاح النظام لا تغييره، وإعادة النظر بالنهج الاقتصادي الذي اتبع مؤخراً وكان له آثار كارثية على صعيد المجتمع والدولة .فيما لاتزال البلاد تحارب الارهاب دون ان تتمكن من تجفيف منابعه .
مفهوم التطرف
يعرف التطرف في اللغة بأنه مجاوزة الحد والابتعاد عن الوسطية والخروج عن المألوف والبعد عما عليه الجماعة، ويربط البعض بين التطرف والغلو والتعصب والإرهاب، إلا أن التطرف أعم واشمل من الغلو، أما التعصب فهو عدم قبول الحقيقة بالرغم من وجود الحجة والدليل الدامغ وذلك نتيجة الميل إلى جانب أو طرف في موضوع ما، أما الإرهاب فهو نتيجة مباشرة للتطرف.
والتطرف اصطلاحاً هو تجاوز حد الاعتدال سواء في العقيدة أو الفكر أو السلوك، هذا التجاوز يؤدي إلى اندفاع غير متوازن إلى التحمس المطلق لفكر أحادي يصبح معه صاحبه أحادي الشعور، وفي حالة اضطراب نفسي يفقده القدرة على التمييز بين الإيجابي والسلبي وبين السيء والأسوأ.
وفي ضوء ما سبق يمكن تعريف التطرف الاقتصادي بأنه المبالغة لدرجة الغلو والتشدد في التمسك بجملة من الأفكار الاقتصادية يرفض أصحابها الحوار والنقاش بشأنها، وذلك بالرغم من انفصالها عن بيئة وثقافة المجتمع والدولة، وذلك باعتبارها أفكار اقتصادية غريبة لا تمت بصلة للنسيج الاجتماعي للمواطن الأردني وهويته وثقافته، وماضيه وحاضره ومستقبله، وهي أيضاً غير منسجمة مع التاريخ الاقتصادي للدولة الأردنية، ولعل أخطر ما في هذه الأفكار الاقتصادية هي سعيها لفكفكة الدولة الأردنية وهدر مواردها الوطنية ولا سيما في غياب الشفافية والمساءلة واستشراء الفساد.
دولة القطاع العام في الأردن: قصة نجاح
للتجربة الاقتصادية الأردنية خصوصية نابعة من خصوصية نشأة الدولة الأردنية، حيث أن نشوء الدولة سبق نشوء المجتمع والمؤسسات الاقتصادية، فالدولة الأردنية وبالرغم من شح مواردها وإمكاناتها، فقد قامت في مرحلة التكوين بإنشاء البنية التحتية The Infrastructure والمرافق العامة في البلاد في مجالات التعليم والصحة والمياه والطاقة والمواصلات وغيرها، ولقد أحسن الأردنيون في إنشاء وإدارة هذه القطاعات وحقق الأردن ما يشبه معجزة اقتصادية، ومن هنا فإن الدولة لعبت دوراً حاسماً في عملية التنمية الاقتصادية التي شهدتها البلاد، والتي نقلت المجتمع من مجتمع زراعي بسيط إلى مجتمع حديث، وكانت الدولة عامل استقرار أساسي ساهم بشكل كبير في تكوين وبناء ورعاية المؤسسات الاقتصادية وتوفير البيئة الآمنة اللازمة لها، فضلاً عن دور الدولة في توزيع عوائد ومكاسب التنمية، الأمر الذي أسهم في تعزيز شرعية النظام السياسي، وبالمحصلة تحقيق درجة عالية من الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد في مرحلة كانت فيها المنطقة العربية تعاني من التوتر والفوضى والاضطرابات.
وبالمجمل يمكن القول أن الاقتصاد الوطني الأردني في ظل إشراف ورعاية وتدخل الدولة قد حقق درجة عالية من النمو والإنجاز انعكس على مستويات معيشة المواطنين، فلماذا يريد البعض إنهاء دور دولة القطاع العام، وهل يمثل هذا الموقف او الانحراف نوعاً من التطرف الاقتصادي؟!
جوهر التطرف الاقتصادي في الأردن
مع مطلع الألفية الجديدة، فقد ارتفعت أصوات مجموعة من السياسيين في الدولة الأردنية تطرح أفكارا اقتصادية تركز بشكل كبير على نحو مبالغ فيه، وربما خدمة لأجندة خفية، على تقليص دور الدولة في الاقتصاد أو رفع يد الدولة كلياً عن الشأن الاقتصادي، ووأد مفهوم دولة القطاع العام، وتجاهر هذه الأصوات بدعوتها إلى تبني برامج خصخصة كافة مؤسسات الدولة وتحرير السوق وإزالة كافة القيود والعقبات أمام تدفق الأفراد والسلع والأفكار والخدمات، وذلك بذريعة خلق بيئة استثمارية جاذبة وتوفير فرص العمل، وبالتالي مكافحة الفقر والبطالة.
وهذه أفكار قديمة جديدة وتعبر عما يطلق عليه علماء الاقتصاد اتفاق واشنطن Washington Consensus وهو مصطلح يطلق على السياسات التي أجمع عليها بل تفرضها على الدول النامية ثلاث مؤسسات دولية مقرها واشنطن هي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووزارة المالية الأمريكية وتتلخص هذه السياسات في عشر بنود هي:
1-الانضباط المالي للحكومة2-أولوية الإنفاق الحكومي
3-الإصلاح الضريبي4-تحرير سعر الفائدة
5-سعر صرف مناسب6-تحرير التجارة الخارجية
7-إزالة القيود على تدفق الاستثمارات الأجنبية8-الخصخصة
9-إزالة القيود عن الاقتصاد المحلي10-حقوق الملكية
وقد اصطلح على تسمية هذه السياسات بالليبرالية الجديدة، وذلك باعتبار الفكر الليبرالي التقليدي المتمثل بالمدرسة الكنزية قد ابتعد عن جذوره الليبرالية كونه فتح المجال للدولة للتدخل في الشأن الاقتصادي، وهذا يتناقض مع جوهر الفكر الليبرالي الذي يرتكز على مبدأ الحرية الاقتصادية المطلقة باعتبار الدولة أسوأ جهة يمكن أن تشارك في توجيه النشاط الاقتصادي.
إن المؤمنين بهذه الأفكار من تلاميذ واشنطن يلتقون مع مسؤولي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووزارة المالية الأمريكية ويعتقدون أن وصفة واشنطن للتنمية الاقتصادية في الأردن هي قدر محتوم ولا فرار منه، وعندما تسلل هؤلاء إلى مواقع القرار في الدولة الأردنية فقد حدث ما يشبه الانقلاب الاقتصادي في البلاد تمثل بالانقضاض على دولة القطاع العام، وإنهاء وجودها تحت شعار الإصلاح الاقتصادي حيث حدثت أكبر عملية (..) إهدار في تاريخ البلاد الحديث للثروات الوطنية. وتم خصخصة الكثير من المؤسسات العامة بأسلوب بعيد (في بعض الأحيان) عن الشفافية والنزاهة ودون وجود أية ضوابط وطنية أو أخلاقية مما فتح المجال أمام (..) الإثراء السريع لفئة قليلة من المتنفذين، فيما تبخرت أموال برنامج التحول الاقتصادي والاجتماعي التي تقدر بما يزيد عن نصف مليار دينار، وبيعت المنحة النفطية الكويتية، والشركات الاستراتيجية مثل الفوسفات والبوتاس والإسمنت والكهرباء وميناء العقبة بأبخس الأثمان، فيما (..) أُغلقت ملفات (..) الكثير من القضايا التي تم التحقيق فيها مثل الكازينو وسكن كريم وبيع شركة أمنية ووو فالقائمة طويلة، ولعل من المثير للاستغراب أنه تمت كل البيوعات السابقة في ظل غياب الشفافية والضوابط القانونية، كما أنه لم يتم الاستفادة من تلك البيوعات، فلا مستوى حياة المواطنين تحسن، ولا المديونية انخفضت، وببساطة يقول (البعض) أنه لا عملية البيع تمت بنزاهة ولا عملية الإنفاق تمت بنزاهة، وكان من ثمار هذه السياسة فقدان هيبة الدولة وتراجع ثقة المواطن بمؤسساتها (..)، ناهيك عن زيادة المديونية إلى مستويات غير مسبوقة، وهذه بمجملها بيئة حاضنة للتطرف والإرهاب، وقد جعلت من التطرف لدى فئة المستضعفين أمراً حتمياً تشكل عبر زمن طويل من المعاناة والحرمان والإقصاء والتهميش.
إن تلاميذ واشنطن هم غرباء عن الدولة والمجتمع في الأردن وهم يعتقدوا أن واشنطن هي مركز الكون وما على الآخرين سوى الاستجابة لإملاءاتها، وعندما تسللوا إلى موقع القرار في الدولة الأردنية كانوا يعتقدوا أن عمان هي الأردن وفيها الحل والربط وما على الناس في الكرك والطفيلة ومعان وعجلون والمفرق وإربد وغيرها من المدن الأردنية إلا أن يقولوا سمعاً وطاعة، متناسين و منكرين إن وصفات واشنطن سواء للإصلاح الاقتصادي أو السياسي لا يمكن أن تكون قدراً محتوماً لكافة شعوب الأرض، وإن تلاميذ واشنطن في الأردن لا يمكن لأفكارهم وبرامجهم أن تحدث إصلاحاً أو تنمية اقتصادية فـ "طبيخ الشحادين" لا يشكل مائدة وطنية.
غياب الرؤية الاقتصادية
هناك غياب واضح للرؤية الاقتصادية في الأردن، فالأردن اليوم لا هي دولة القطاع العام ولا هي دولة القطاع الخاص والاستثمارات، كما أن هناك فجوة كبيرة بين السياسات الاقتصادية والتطلعات الشعبية، فالغالبية الساحقة من أفراد المجتمع تحن إلى أيام دولة القطاع العام وتطالب الدولة بتحمل مسؤولياتها في التعليم والصحة والطاقة وغيرها، وتطالب الحكومة بالتدخل بشكل مباشر لمراقبة الأسعار ومكافحة الغلاء، وهناك أصوات تنادي بعودة وزارة التموين لحماية المستهلكين من جشع التجار، كما أن هناك دعوات لوقف نهائي لسياسات الخصخصة والعمل على استعادة الثروات المنهوبة، ومحاسبة المسؤولين الذين تحوم حولهم شبهات الفساد، الأمر الذي يكشف عن فجوة واسعة وانقسام واضح بين أنصار دولة القطاع العام، وأنصار الليبرالية الجديدة من تلاميذ واشنطن.
إن من يعرف التاريخ الاقتصادي للأردن والدور المركزي الذي لعبته الدولة في تحقيق معجزة التنمية والتحديث في البلاد، يدرك تماماً أن الأفكار التي تنادي برفع يد الدولة كلياً عن الاقتصاد هي أفكار دفنت في رمال الزمن، و تعد نوعاً من التطرف الاقتصادي، لا بل قد تم التخلي عنها بشكل تدريجي بعد أزمة جنوب شرق آسيا في عامي 1997 و1988 حيث ثبت عجز وعقم تلك السياسات، وقد تسببت بأزمات اقتصادية كبيرة لدول جنوب شرق آسيا مثل الفلبين وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايلاند وغيرها، وكذلك الحال في بعض دول أمريكا اللاتينية مثل تشيلي والأرجنتين، كما انكشف عوار هذه السياسات أثناء الأزمة المالية العالمية عامي 2007 و2008 والتي بدأت في الولايات المتحدة ثم امتدت إلى كافة البلاد التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأمريكي، وبالمجمل أدت هذه السياسات إلى نتائج اقتصادية وسياسية واجتماعية كارثية، فلماذا يصرّ تلاميذ واشنطن على التمسك بها؟
ما العمل وهل هناك ثمة أمل؟
إن مشكلة الاقتصاد الأردني تكمن في أن كثير من صناع القرار في الشأن الاقتصادي لا يعرفون أبجديات التاريخ الاقتصادي للأردن ويجهلون تماماً طبيعة وجغرافية الأردن، يجلسون في مكاتبهم الوثيرة في عمان ويخططون ويتخذون القرارات دون أن يكون لديهم أدنى تماس مع المجتمع الأردني في مدنه وأريافه وبواديه، فهم غرباء أولاً ومتطرفون اقتصادياً ثانياً، يتحكمون في مصائر البلاد والعباد رغم أنه كان ينبغي أن تتم محاسبتهم على ما اقترفوا من جرائم بحق الوطن دون أن يراعوا فيه إلاًّ أو ذمة.
ومن هنا فإنه لا بد من إعادة النظر بالنهج الاقتصادي في البلاد بإقصاء الغرباء المتطرفين اقتصادياً عن مواقع صنع القرار، ووضع حد لسياسات التطرف الاقتصادي التي تنادي بإقصاء الدولة عن النشاط الاقتصادي، من خلال إعادة النظر في تعريف دور الدولة في الاقتصاد وعلاقة الدولة بالسوق، بحيث ينظر إلى كل من الدولة والسوق كعاملين مكملين أحدهما للآخر ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما في العملية الاقتصادية. كما لا بد من وقف سياسات الخصخصة كلياً والعمل على تحديث مؤسسات الدولة لا بيعها وفقاً لقانون العرض والطلب انسجاماً مع الأفكار الليبرالية، حيث لا توجد علاقة بين معياري الكفاءة في الإنتاج ونوع الملكية عامة أو خاصة، وهنا لا بد من الاستفادة من خلاصة تجارب الشعوب في اندونيسيا وماليزيا والفلبين وفي تشيلي وكوبا والارجنتين وغيرها إذ لا توجد وصفات جاهزة لأي تنمية اقتصادية، فلكل دولة خصوصيتها ولكل مجتمع ظروفه.
إن الدعوات التي يتبناها التيار الليبرالي في الأردن من تلاميذ واشنطن والتي تطالب بعزل دور الدولة وفكفكة مؤسساتها والتعامل مع الدولة كشركة بمنطق الربح والخسارة، وفي النهاية ترك سفينة الاقتصاد الوطني تسير وفقاً لما تمليه رياح السوق او وفق اهواء ورغبات تلاميذ واشنطن هي بمثابة إنهاء للحلم الأردني والمشروع الوطني الأردني وهذه مغامرة غير محسوبة وقد تكون نتائجها مكلفة للدولة وباهظة للمجتمع.
وختاماً فإن النهج الاقتصادي الجديد يستلزم إدارة المال العام وثروات الوطن بواسطة فريق وطني على أسس جديدة من العدالة والمساواة، فالفقر والبطالة والفساد والاستبداد وغياب الحرية والمؤسسات الديمقراطية في البلاد العربية شكل البيئة الخصبة والمناخ الملائم لنمو وانتشار الأفكار المتطرفة ولا سيما لدى فئة الشباب التي تعاني من الإقصاء والتهميش والحرمان في ظل الاحتباس السياسي التي تعيشه البلاد العربية بعد وأد حركة الإصلاح السلمية بواسطة الدولة العميقة.