محمد القيق ... ملحمة المقاومة بالجسد المتهالك
جو 24 :
خاض معركته على ساحة جسده، اختار المقاومة بعضلِهِ وقلبه وعقله وكل الأعضاء. كان مدركاً أنه يتجه إلى الموت، لكنه لم يكن ينتحر، فهو يريد العيش ليقاوم أكثر. قد يصعب على البعض فهم دوافعه، لكنه فلسطيني. نعم، ببساطة. كأن الفلسطيني يولد ليناضل، يتحدى جدران الفصل وحواجز الذل، والحصار والاستيطان، والقتل لأي سبب كان.
94 يوماً قضاها الصحافي الفلسطيني #محمد_القيق (33 سنة)، مراسل قناة "المجد" الفضائية، مضرباً عن الطعام في فصل جديد مما صار يسمى معركة الأمعاء الخاوية التي ترد عليها سلطات السجون الاسرائيلية في بعض الحالات بالتغذية القسرية عبر الأمصال. مساء أمس قرر تعليق امتناعه عن الأكل في مقابل إطلاقه عند انتهاء مدة احتجازه في 21 أيار، على ألا يتجدد توقيفه، ويستكمل علاجه حتى ذلك التاريخ على أيدي طاقم طبي فلسطيني كما أصر.
صحيح أنه حقق مراده، باستعادة حريته ووقف توقيفه غير القانوني، لكنه خسر 30 كيلوغراماً من وزنه وبدا شخصاً مختلفاً عن الإنسان الذي كانه قبل الاحتجاز، كما يظهر في الصور. ونقلت شبكة "أجيال الإذاعية" عن وكيله أشرف أبو اسنية أن علاجه سيتمتد من ستة إلى عشرة أسابيع. وفي حديثه الأول مع صحافيين زائرين، كان القيق متماسكاً، متقد الذهن، فخوراً بما استطاع جسده الهزيل إنجازه، مُهدياً تحريره إلى زملائه في السجون الاسرائيلية، ورافعاً شارة النصر، عنهم ولهم.
وهو كان أوقف من منزله في بلدة أبو قش برام الله في تشرين الثاني 2015. غُلت يداه واقتيد إلى مركز تحقيق في مستوطنة بيت إيل حيث عُذب بشبهة الانتماء إلى حركة المقاومة الإسلامية #حماس والاتصال بمسؤولين عسكريين فيها، الأمر الذي تنفيه أسرته. وفي كل الأحوال لم تصدر يوماً أي لائحة اتهام بحقه.
بعد 94 يوماً طلب أن تطعمه زوجته فيحاء شلش، وهي أيضاً صحافية، على سريره في مستشفى العفولة لقمته الأولى. وهو كان خاض الإضراب تحت شعار "حراً أو شهيداً" رفضاً لسياسة الاعتقال الإداري الاسرائيلية الموروثة من القوانين البريطانية التي كانت سائدة في زمن الاننتداب قبل عام 1948 والتي تجيز توقيف أي فلسطيني من دون اتهامات لفترات تُجدد الواحدة تلو الأخرى. حارب بأمعائه الخاوية على خطى آخرين بينهم خضر عدنان وجعفر عزالدين وطارق قعدان وسامر العيساوي. لكنه سجل الإضراب الأطول، إذ لم يسبق أن امتد امتناع عن الطعام أكثر من 64 يوماً.
ويُقدر نادي الأسير الفلسطيني في رام الله وجود نحو سبعة آلاف في السجون الاسرائيلية، بينهم ألف مريض، و450 ولداً، و700 معتقل إداري، والعدد في ازدياد منذ قيام الهبة الشعبية الفلسطينية الأخيرة التي سُميت "انتفاضة الأقصى".
وفي حالة القيق، استرعى الانتباه أن المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الصحافيين لم تلتفت إلى ذلك الصحافي الفلسطيني الذي تُرك ليواجه مصيره، إذ قلما ذُكر في البيانات والتقارير التي ترصد القتلى والسجناء بين أبناء تلك المهنة.
حيال التوسع الاسرائيلي في اعتماد التوقيف الإداري، وعدم الالتفات الغربي إلى الانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان المتمثلة في تلك الممارسة، وحده الإضراب عن الطعام تحت شعار "الأمعاء الخاوية" يُسلط الضوء على قضية الأسرى الفلسطينيين المنسية على المستوى الدولي. إنها معركةٌ الصمود فيها مُكلف جداً، لكن حين يُجرَد الفلسطيني من كل حقوقه، لا يبقى أمامه إلا جسده يحارب به حتى استنزافه وصولاً إلى حافة الرمق الأخير.
الآن سيرتاح محمد القيق قليلاً ويداعب طفليه، بعدما أحاطه تعاطف شعبي كبير وخرجت تظاهرات لنُصرته في رام الله ونابلس. وفي المقابل، يواصل كايد أبو الريش إضراباً عن الطعام تجاوز يومه الخمسين. وفك عبدالله أبو جابر في كانون الثاني امتناعه عن الأكل بعد صمود دام 75 يوماً استطاع خلاله انتزاع حقه في زيارات عائلية منتظمة. ولا يزال كفاح حطاب يخوض إضراباً تلو الآخر.
وهذه الممارسة لم تعد تقتصر على الفلسطينيين، إذ لجأ إليها ناشطون مصريون. في مصر تكتظ السجون بشبان جريمتهم التعبير عن الرأي. هناك أيضاً يبدو أن لا سبيل لإسماع صوت الحق إلا بالأمعاء الخاوية وهزال الأجساد، إذ تتوالى الإضرابات عن الطعام لأشخاص مثل إسلام خليل ومازن حمزة وسواهم كثر، وإن تكن لا تصل إلى عدد الأيام التي يسجلها الفلسطينيون.
ولا ننسى أن النظام السوري فرض قسراً على مواطنيه أمعاء خاويةً حتى الاحتضار. فمن لم يمت بالبراميل المتفجرة أو الأسلحة الكيميائية ذاب جوعاً وعطشاً، والأمثلة كثيرة من مخيم اليرموك إلى مضايا...النهار