وقع العالم في الفخ الإيراني.. بإرادته غالبا
منذ الشهور الأولى للثورة السورية، وقبل أن تنطلق رصاصة واحدة في اتجاه الجيش والأمن، قلنا إن النظام يعمل على عسكرة الثورة. حدث ذلك حين بدأت أبواقه تزعم وجود مسلحين وإرهابيين بين المتظاهرين السلميين، والأرجح أن ذلك قد تم بنصائح من الإيرانيين الذين كانوا يتحركون بحرية لا سابق لها في البلد بطوله وعرضه.
يدرك النظام تمام الإدراك طبيعته الطائفية، تلك التي لا يخفيها أبدا وجود مكونات الشعب الأخرى في بنيته الأمنية والعسكرية والمدنية، وبالطبع نظرا لطول عمره. ومنْ كان يعيش في سوريا يدرك أن هيمنة العلويين على البينة الأمنية والعسكرية للدولة لا يغير في جوهرها وجود الآخرين، وأي شاب عادي كان يعلم أن عسكريا علويا صغيرا في أي جهاز أمني أو عسكري أو مدني كان أقوى عمليا من الأعلى منه رتبة بكثير. وجاء تطاول العمر ليضيف إلى هيمنة الطائفة على البنية الأمنية والعسكرية؛ هيمنة اقتصادية، وظهر بناءً على ذلك أمثال رامي مخلوف، ابن خال بشار، لا سيما أن تطورات البنية الاقتصادية من شركات اتصالات وتكنولوجيا، وانفتاح على الاستيراد قد جعل من تحويل القرارات السياسية إلى مال أمرا بالغ السهولة، وإلا فكيف تمكن رامي مخلوف، وكيل بشار العملي من مراكمة عشرات المليارات في غضون سنوات قليلة؟!
لذلك كله، أدرك النظام أن توالي الهبة الشعبية، سيجعل من انتصارها أمرا متوقعا، وبالطبع بعد توالي كسر حاجز الخوف في أوساط الشعب، وامتداد الثورة من الأرياف إلى المدن، وصولا إلى عصيان مدني محتمل، ورأى تبعا لذلك أن الحل يكون باستخدام أداته الأقوى، وهي الأمن والجيش، وذلك ما لا يمكن أن يتواصل فقط في مواجهة جماهير عزلاء تتحرك في الشوارع، فكان الحل هو عسكرة الثورة، ولم يكن إخراج معتقلي السلفية الجهادية من السجون، سوى تأكيد على هذا التوجه، مع بعض الانشقاقات التي ينطوي بعضها على اختراقات كي تطلق النار باتجاه الجيش وتضع الثورة في إطار الثورة المسلحة.
ربما لم يتخيل النظام (إيران بتعبير أدق) أن يصل الأمر حد فقدانه السيطرة على ثلاثة أرباع التراب السوري، لكنه بكل تأكيد أدرك أن العسكرة هي طوق النجاة بالنسبة إليه، وإن استمرار الثورة السلمية هو الأكثر خطرا عليه.
هكذا وبمرور الوقت، بدأت الثورة تفقد طابعها السلمي، حتى انتهى بشكل شبه كامل (عاد منذ أيام في ظل الهدنة)، ليتحول إلى مواجهة مسلحة لا مكان فيها إلا لقليل من الفعاليات الشعبية، بل إن جنازات الشهداء لم تعد تخرج ضمن إطار مسيرات بمرور الوقت؛ ربما لكثرتها وتراكمها، وربما لأن عنصر التفوق لديه ممثلا بالطيران، لم يعد يسمح بترف المظاهرات التي قد تتعرض للقصف.
ليست هذه إدانة لمن حملوا السلاح، فقد فعلوا ذلك مضطرين، لكنها المراجعة التي لا بد منها للوصول إلى النتيجة التي نريدها ممثلة في تداعيات تحويل الثورة إلى مسلحة، ومن ثم هيمنة الجهاديين عليها، وصولا إلى وصمها بالإرهاب، فيما يعلم الجميع أن للنظام خبرته الطويلة في التعامل مع أولئك الجهاديين حينما كان يتعاون معهم في إطار المواجهة مع الغزو الأمريكي للعراق؛ خوفا على نفسه بالطبع، وليس لأنه مقاوم أو ممانع.
بمرور الوقت نسي العالم آلاف الضحايا الذي سقطوا برصاص النظام قبل أن تنطلق رصاصة واحدة، ونسي دماء وأشلاء حمزة الخطيب، وحنجرة إبراهيم القاشوش، ومئات الأطفال الذين قتلوا بوحشية منقطعة النظير، وصار المشهد مواجهة بين نظام وجماعات مسلحة، يصنف أقواها في عداد الإرهاب والإرهابيين.
لا شك أن أمريكا والغرب، وتبعا للهواجس الاستعمارية وللهواجس الصهيونية أيضا، لم يكن يريد لهذه الثورة أن تنتصر، والسبب أنها كانت ستعني استمرار مد الربيع العربي ليصل كثيرا من الدول، ولم يكن للعبة الثورة المضادة أن تنجح لو مضت الثورة نحو النجاح، فكان القرار بمحاصرة الثورة بحرمانها من السلاح النوعي عبر الضغوط الجبارة، وصار المسار المؤمَّن عليه صهيونيا وأمريكيا وغربيا هو إطالة أمد الصراع، وتحويل سوريا إلى ثقب أسود يستنزف الجميع، ويوقف مسيرة الربيع العربي، ويستنزف من كانوا يصنفون محور مقاومة أيضا، فضلا عن تدمير سوريا، واستنزاف تركيا التي صارت تصنف عدوا سافرا بالنسبة للكيان الصهيوني أيضا.
اليوم، وربما منذ عامين كاملين، يمكن القول إن هذه الاستراتيجية التي رسمها النظام وأسياده قد نجحت، وقبلها نجحت عملية ضرب مسيرة الربيع العربي، بخاصة بعد إجهاضه في مصر، وتاليا اليمن، وتحويله إلى استنزاف في ليبيا، مع عبث في تونس أيضا، وها إن العالم يتعامل مع سوريا بوصفها ساحة صراع مع الإرهاب، وليس صراعا مع نظام دموي يقتل شعبه، ولا يجد سوى مسار إعادة إنتاج النظام. وهكذا، وبدلا من معالجة السبب الحقيقي لاندلاع موجة العنف الأخيرة بالتخلص من أسبابها، صار المطلوب هو التحالف مع من كانوا السبب في اندلاعها لكي يتم القضاء عليها. يحدث ذلك في العراق وسوريا، وإن بدا الأمر مختلفا بعض الشيء في اليمن نظرا لأهميتها لحلفاء يصعب إغضابهم، مع أن الموقف الدولي مما يجري هناك لا زال مخاتلا، وأقرب إلى العمل على إطالة النزيف وليس وقفه.
والحال أن هذه الوصفة لا يمكن أن تكون ناجحة، فهذا العنف الذي وصل باريس وسواها، هو نتاج ما يجري في سوريا والعراق واليمن، ومن دون أن تحل المظالم التي أنتجته، فإنه سيتواصل، وحتى لو فقد تنظيم الدولة مساحته الجغرافية، فإنه سيغدو أكثر خطورة، لأن الغضب سيتوزع على كافة أرجاء الأرض في زمن العنف الرخيص.
بعض العقلاء في الغرب يقولون ذلك، ويحذرون من محاربة تنظيم داعش وترك بشار، ويحذرون مما يجري في العراق، لكنها تحذيرات تتبخر بلا جدوى، وتستمر المظالم، وتبعا لها سيزيد العنف ويتصاعد، حتى يبزغ حل ما يرضي الشعب السوري.