بعد الخصاونة والطراونة ، لماذا النسور؟
جاء تعيين الدكتور عبدالله النسور رئيسا للوزراء الاسبوع الماضي لينهي موجة من الاشاعات والتخمينات حول خيار جلالة الملك لرئاسة الحكومة الانتقالية المكلفة بمواكبة العملية الانتخابية ، موضوع رهان الدولة الاردنية .
فقد غادر الدكتور فايز الطروانة الولاية الدستورية بعد تنفيذ قرارات حاسمة ومصيرية تتعلق بقانون الانتخاب وتحرير جزئي لأسعار المحروقات وقانون المطبوعات والنشر ، بينما عجز عن اطلاق حوار سياسي مع الاخوان وخسر فرصة حياد القوى السياسية الشرق اردنية كالمتقاعدين العسكريين واليسار بقرارين متتاليين بدأهما برفع الاسعار ، ثم بتعيينات عشوائية ابرزها تعيين ليبرالي حديث الجنسية رئيسا للوحدة الاستثمارية بمؤسسة الضمان الاجتماعي .
ومن الواضح ان اختيار الطراونة انطلق من حسابات اقتصادية لا تقل اهمية عن الاثار السياسية لما يسمى بالربيع العربي وانطلاقا من دقة المقارنة بين شخصية الطراونة وبين متطلبات الاشهر القليلة ما قبل اجراء الانتخابات ، ولم تشمل تشكيلة حكومة الطراونة وزراء سياسيين بالمعنى الحرفي وانما خبراء اقتصاديون من الطراز القادر على تشخيص الازمة واتباع تعليمات الاسعاف الاولي للخزينة بما يرضي مراقبي البنك الدولي .
اما على الصعيد السياسي ، فبالعودة إلى كتاب التكليف السامي لحكومة الطراونة فان محاوره اتسمت بالخطوط العريضة وما يسمى بديباجات الحكم ورؤاه نحو التنمية المستدامة والازدهار ، والتي لا تتحقق بليلة وضحاها ، في وقت خلا التكليف من اي مهام خاصة غير انجاز قانون الانتخاب ، ما يعني ان برنامجها الحقيقي تركز على مهمة وحيدة .
لكن خطأ الطراونة بدأ من فرديته في اتخاذ القرارات واحساسه بان جزءا كبيرا من حكومته حمولة زائدة ، رغم حاجته الماسة للعمل بروح الفريق في حكومة لا تملك برنامجا متكاملا وكان بإمكانها ان تعوض ذلك بأسلوب العمل الجماعي ، وهي نقطة لا اعتقد بانها ستفوت الرئيس النسور .
ولابد من الاشارة إلى ان اقالة حكومة عون الخصاونة (الربيع الماضي )لم تكن وليدة موقف مفاجئ بقدر ما جاءت وفق قراءة مبكرة لتغيير في المناخ السياسي الدولي المؤثر والمتأثر بتبعات الربيع العربي ، وتقدير صحيح وموفق لمجريات الاوضاع في سوريا ، وضرورة التحرك السريع للأمام نحو اجراءات الانتخابات لإجبار المعارضة على التحول من موقع قيادة الشارع إلى تابع ولاهث وراء استحقاق الانتخابات سواء بالمشاركة او بالمقاطعة ، اعتمادا على المنافسة الساخنة المتوقعة على النيابة والتوزير ، وقدرة اجواء الحملات الانتخابية على احتواء الاصوات المنادية بالمقاطعة.
ان خيبة الامل الكبيرة التي احدثها الخصاونة بأسلوبه في التعاطي مع الاخوان المسلمين ومبادراته البهلوانية اظهرت تقديرا خاطئا للدور الحقيقي المطلوب من حكومته ، وصولا إلى ما نُشر عن صفقته السرية مع الاخوان لإعادته رئيسا بعد الانتخابات مقابل قانون انتخاب يضمن سيطرتهم على مقاعد البرلمان المقبل .
الخصاونة وبلا اي شك ، جيء به مبكرا قبل اوانه بأربعة اشهر ، نتيجة ظروف الاجواء الساخنة التي رافقت الاعلان عن قانون البلديات في حكومة الدكتورمعروف البخيت والتمهيد لأجراء انتخاباتها ، بالإضافة إلى معلومات مضللة ومضخمة دفع بها المقربون إلى مسامع صاحب القرار ، وما لبثت حتى تحولت إلى سهام معاكسة اسفرت عن تغييرات في الديوان الملكي والاجهزة الامنية بعد ان ادرك جلالته حقيقة قدرات الخصاونة في الاسابيع الاولى من عمر حكومته .
ولا يختلف اثنان على ان اخطاء حكومة الخصاونة ادت إلى خلط الاوراق إذ ان مجيئها وذهابها المبكرين فرضا حكومة اضافية على جدول اعمال الدولة ، حيث كان مقررا ان تستمر حكومة البخيت حتى نهاية شهر اذار الماضي لتتولى حكومة واحدة الفترة المتبقية لحين حل البرلمان.
لكن لماذا عبد الله النسور للحكومة الحالية ؟
علينا ان نعترف بان مؤيدي ومعارضي النسور يحترمون سيرته الوظيفية ، بغض النظر عن الآراء المبنية على تجارب شخصية ، لكن المسالة لا تتعلق بكونه ابن السلط او ابن البلقاء او شرق اردني ، وانما بطبيعته وامكاناته السياسية المتمثلة بالمرونة والقدرة على المناورة والقدرة على الحوار وفعل الممكن لتحقيق الهدف.
الشارع الاردني بجديتهفيالذي لبس عباءة المعارضة واقنع انها ميزات حقيقية لعبد الله النسور السياسي (المطالبة بمكافحة الفساد ) و(تسريع خطوات الاصلاح السياسي ) (ومعارضته للصوت الواحد ) ، وبذل جهدا مميزا في مجلس النواب الاخير، ويبدو ان جلالة الملك على يقين تام بان المطلوب من رئيس الحكومة الجديدة هو قطع الطريق على جهود مقاطعة الانتخابات التي يقودها الاخوان المسلمون .
فالمطلوب من الدكتور النسور ، مواصلة الحوار مع القوى الوطنية للمشاركة (وتحفيز) الأحزاب الوطنية لزيادة فرصها في ملء الحيز السياسي سعيا لبرمجة العمل الانتخابي ومن ثم العمل النيابي الذي سيؤدي إلى تمتين قواعد الحكومة البرلمانية المنشودة .
والمطلوب ايضا من عبدالله النسور التأكيد على قانون الصوت الواحد الذي عارضه بنفسه ، باعتباره ، امرا واقعا ، والتأكيد على التعديلات الدستورية التي شارك مع زملائه النواب في المصادقة عليها ، والمناورة لأقناع الاخوان بعبثية المقاطعة وفتح الباب امام المشاركة وفق الاسس الموضوعية المتوفرة وبضمانات حقيقية .
غير ان التحدي الحقيقي للدكتور النسور لن يكون في قدرته على تنفيذ مصالح المتنفذين ،و لا في كسب تأييد الاعلام ، ولا في تخفيض الاسعار ، لان ذلك شبه مستحيل ، بل ان مهمته ستنطلق من جملة وهدف واحد : كيف يشارك القدر الامكن بالانتخابات مقتنعين بان نتائجها ستكون حقيقية.
ورغم محدودية تلك المهام ، نعتقد بان النسور يملك فرصة حقيقية في استثمار مرونته السياسية لإعادة انتاج كافة الانطباعات المسبقة عنه ، في حال نجاحه بجذب اهتمام الاطراف القادرة على التحالف كالأحزاب الوطنية المشاركة والمتقاعدين العسكريين .
كما انه سيبقى خيارا مفتوحا بعد اجراء الانتخابات النيابية ، في حال تسجيله انطباعات حسنة ، على اعتبار ان المجلس القادم سيتكون على الارجح من افراد وكتل ستواجه صعوبة كبيرة في التحالف لتحقيق الاغلبية ، ولعل ذلك سيزيد القناعة بإعادة تشكيل حكومة جديدة يرأسها النسور بمشاركة نسبة لا بأس بها من النواب الممثلين للكتل الاكثر فاعلية ، تجنبا لبناء حكومة هشة على قاعدة كتل نيابية هشة .
هنالك فرصة لدى النسور بالنجاح وانجاح الانتخابات واثبات حضور مميز ، ما لم يجبر على الدخول في التفاصيل وخوض معارك جانبية تتعب رجل الادارة والحكم ايا كانت قدراته وامكاناته ، ويبدو ان رواد الصالونات السياسية استانفوا الشد العكسي ضد حكومة النسور تدراكا للوقت الضيق المتاح قبل اعلان نتائج الانتخابات ،لاضعاف فرص استمراره في تشكيل وزاري لاحق.