الحيوان صاحب الصوت الأكثر صخبا في العالم؟
هناك العديد من الأدوات والطرق لقياس مستوى ارتفاع صوت ما، ولذا فإن الحيوان الأعلى صوتا على ظهر الأرض ربما لا يكون هو ذاك الذي تتوقعه.
بداية؛ الحوت الأزرق ليس الحيوان الأعلى صوتا والأكثر صخبا على وجه البسيطة، رغم ما يتعلمه البعض في المدارس في هذا الشأن.
فمع أنه يُقال إن نداءاته أعلى من صوت محرك طائرة نفاثة عند الإقلاع، إذ تصل إلى مستوى مذهل يربو على 188 ديسيبل، فإن صوت النقرات التي يصدرها حوت العنبر للتواصل مع أقرانه أعلى من ذلك في واقع الأمر، إذ تبلغ نحو 230 ديسيبل.
فرغم أن الأمر يبدو محسوما بشكل كبير إذا ما وضعنا هذين الرقمين جنبا إلى جنب، فإن الديسيبل - وهو وحدة قياس شدة الصوت - لا يمثل الأداة الوحيدة لقياس مدى ارتفاعه.
في الحقيقة، مسألة تحديد كون الصوت مرتفعا أم لا تتسم بطابع شخصي؛ أي تختلف من شخص لآخر، وتعتمد على كيفية إدراك المرء لذاك الصوت واستقباله له، وهو ما يعني أننا حين نناقش ذلك الأمر، يتعين علينا أخذ العديد من العوامل الأخرى في الحسبان.
وفي هذا الصدد، يقول ماغنس والبرغ من جامعة جنوب الدنمارك إن القدرة على سماع صوت ما تعتمد من وجهة النظر البشرية على ذبذبة هذا الصوت وتردده.
ولذا فإن فهمنا للكيفية التي يستطيع بها المرء السمع، يستلزم منّا أولاً فهم بعض الأمور الخاصة بطبيعة الصوت نفسه.
من بين هذه الأمور، أن نتعرف على الـ"هرتز"؛ وهو وحدة قياس تردد الصوت. فلكل نغمة تصدرها آلة موسيقية – على سبيل المثال – ترددٌ مختلف يصل إلى آذاننا، وكلما كانت النغمة أعلى صوتا كلما ارتفع ترددها، وهو ما يُعبر عنه بعدد أكبر من وحدات قياس التردد: الـ"هرتز".
وبوسع الإنسان سماع مجموعة متنوعة من الأصوات، تقع في حيز يتراوح بين تردديّ 20 هرتز وحتى 20 ألف هرتز (20 كيلوهرتز). ويشمل هذا الحيز العديد من الأصوات، بدءًا من "الأغنيات" منخفضة التردد للحوت الأزرق، وصولا إلى الصيحات العالية التي يطلقها الفأر من فرط الألم أو لطلب النجدة.
ولكننا لا نسمع كل هذه الأصوات بالشدة نفسها، بل تتباين قدرتنا على سماعها باختلاف تردد كل منها.
فكما يقول والبرغ؛ لا تزيد قوة ترددات نداءات الحوت الأزرق على 20 هرتز، بينما تصل قوة ترددات نقرات حوت العنبر إلى نحو 10 كيلوهرتز.
فحتى تتسنى لنا القدرة على سماع نداءات الحوت الأزرق – منخفضة التردد – لا بد أن تصل شدتها إلى 70 ديسيبل على الأقل. أما نقرات حوت العنبر، الأعلى ترددا من الأصل، فلا يحتاج المرء لسمعها سوى أن تبلغ شدتها نحو 15 ديسيبل.
ويعقب والبرغ على ذلك قائلا : "هذه العلاقة (ما بين تردد الصوت وشدته) تصبح أكثر تعقيدا بشكل ما بالنسبة للإشارات (الصوتية) العالية. ولكن عامة يصح القول إنه سيتم إدراك صوت الحوت الأزرق على أنه أكثر انخفاضا من صوت حوت العنبر".
ومن هنا، فإن حوت العنبر لا يزال في المقدمة. وإذا كان الحال كذلك، فلِمَ يُغفل هذا الحيوان بشكل عام في قوائم الحيوانات الأعلى صوتا والأكثر صخبا في العالم؟
يمكن العثور على إجابة لهذا السؤال لدى والبرغ، الذي يقول إن كيفية سماعنا لصوت ما "لا ترتبط فقط بشدته وإنما كذلك بمدته". فالنقرة التي يصدرها حوت العنبر تنتهي تقريبا قبل حتى أن تبدأ، إذ أنها لا تدوم أكثر من 100 ميكروثانية، أما نداءات الحوت الأزرق فتستمر ما بين 10 إلى 30 ثانية.
على أي حال، لا تقتصر قائمة الحيوانات المتنافسة على لقب الحيوان الأعلى صوتا على الحيتان وحدها. ففي الحلبة كذلك؛ حيوان الروبيان ذو المسدس (أو الجمبري ذو المسدس) والذي يُعرف أيضا باسم "القريدس العضاض"، وهو حيوان مشهور بـ"صرخاته" الحادة القوية.
فلكلٍ من هذه القشريات مخلب خاص قادر على الانغلاق بسرعة من شأنها تكوين فقاعة ذات ضغط منخفض للغاية، وهو ما يعني أن هذه الفقاعة سرعان ما تنفجر إذا ما لامست الماء المحيط بها، وهو ما يُحدِثُ موجة صدم تصل شدتها – بحسب القياسات - إلى نحو 200 ديسيبل.
ولا تدوم "الطلقة" التي تصدر عن "الروبيان ذو المسدس" سوى فترة شديدة القصر، فالفقاعة تتكون وتنفجر في أقل من "ملي ثانية". ولكنها تسبب ضجيجا مثيرا ولافتا للنظر، رغم الصغر الشديد لحجم المخلوق الذي يُكوّنها.
مع ذلك، فإن ثمة حيوانا مائيا آخر صغير الحجم يمكنه أن يستحوذ على لقب المخلوق الأكثر صخبا وأعلى صوتا إذا ما كان الأمر يرتبط بالعلاقة بين مستوى ارتفاع الصوت مقارنة بحجم المخلوق الذي يصدره. فبوسع ذكر حشرة "ملاح الماء" (واسمه العلمي ميكرونيتكا سكولتزي) إصدار صوت يصل تردده إلى 99 ديسيبل عبر حك قضيبه ببطنه.
ويثير هذا الرقم نقطة أخرى مهمة مرتبطة بارتفاع الصوت، ألا وهي اختلاف طبيعته، بحسب الوسط المحيط به، فقوة الديسيبل في الماء لا تساوي نظيرتها في الهواء.
وهنا يمكن الاستعانة برأي جيمس ويندمِل خبير الصوتيات الحيوية في جامعة ستريث كلايد البريطانية، وهو الرجل الذي اكتشف الصوت المميز الذي تصدره حشرة "ملاح الماء". إذ يقول ويندمِل إن "الماء أكثر كثافة من الهواء، ولذا ينتقل الصوت فيه بشكل مختلف، كما تختلف فيه سرعة الصوت".
ويوضح الرجل قائلا إنه إذا ما كانت لدينا قيمة مُقدرة بالـ"ديسيبل" لشدة صوت ما صدر تحت الماء وأردنا التعرف على طبيعة شدة هذا الصوت إذا ما صدر في الهواء، فسيتعين علينا طرح 61 ديسيبل تقريبا من هذه القيمة.
فالصوت الذي تصدره حشرة "ملاح الماء" تحت الماء يصل في ذروة ارتفاعه إلى 160 ديسيبل، وهي قيمة تصل إلى ما يوازي 99 ديسيبل، حالما حاولنا التعرف على شدتها إذا صدرت في الهواء.
ولذا يقول ويندمِل: "لا يأخذ الناس ذلك عادة في الاعتبار عندما يعقدون المقارنة" الخاصة بارتفاع الأصوات التي تصدر عن الحيوانات المختلفة.
ويعني ذلك أن الصيحات الأعلى صوتا التي تصدر عن أي حيوان، لابد وأن تُراجع جميعا لتقدير مدى الشدة التي تصل بها إلى أذن الإنسان.
حتى الآن – على أي حال – تبدو قائمة الحيوانات المرشحة للتنافس على لقب الحيوان الأعلى صوتا مقتصرة على تلك التي تحيا تحت الماء، وهو ما يشير - ربما - إلى أنه يتعين علينا البحث عن حيوان يعيش على البر، لأننا سنكون في هذه الحالة أقرب مكانيا إلى مصدر الصوت.
ففي نهاية المطاف، تؤثر المسافة، التي تفصل بينا وبين مصدر صوت ما، بدورها في إدراكنا لمدى ارتفاعه.
وفي هذا الشأن يمكن القول إن الكثير للغاية من الثدييات تطلق صيحات ونداءات بعيدة المدى. ويتوجب أن تكون هذه الأصوات، وهي من قبيل الزئير والدمدمة والعواء، عالية مدوية بحق، لكي تضمن الحيوانات التي تطلقها وصولها إلى أترابها التي تمت لها بصلة قرابة، والموجودة على مسافات بعيدة.
وبحسب جويس بوول - وهي من بين مؤسسي ما يُعرف بمهمة "إليفانت فويسس" وهو موقع إليكتروني يُعنى بدراسة الفيلة - فإن الأفيال تصدر مثل هذا الصوت الهادر المدمدم "الذي يجعل جسدك يهتز حرفيا". وهو صوت يمكن أن "يصم الآذان، أشبه بأن تقيس صوتاً تبلغ شدته 103 ديسيبل من على بعد 5 أمتار" عن مصدره.
وتضيف بوول بالقول: "يمكن للبشر أن يسمعوا تقريبا كل الأصوات الهادرة التي تطلقها الفيلة، حتى الأكثر خفوتا منها، طالما أنهم قريبون بما يكفي من الفيل" الذي يطلقها. وتمضي قائلة: "نحن فقط لا نستطيع سماع الصوت كاملا، إذ أن الترددات الأكثر انخفاضا منه تكون غير مسموعة بالنسبة لنا".
ما سبق يبدو أمرا مثيرا للإعجاب بالقطع، ولكنه لا ينفي أن حيوانا ثدييا آخر يمكن أن يتفوق على الفيل في علو الصوت، ألا وهو "خفاش البولدوغ" (نوكتيليو لا بورينس) والذي تفيد تسجيلات بأنه يصرخ بقوة تصل إلى 140 ديسيبل خلال اصطياده لفرائسه فوق بحيرات تقع في بنما.
ولكن بينما يمكن أن تصبح دمدمات الفيلة منخفضة للغاية بقدر يجعلها غير مسموعة بالنسبة لنا، فإن الصرخات الأكثر قوة لهذا الخفاش قد تصبح عالية أكثر من اللازم، لتصل قوة ترددها إلى 55 كيلوهرتز، وهو ما يجعلها تدخل في نطاق الموجات فوق الصوتية.
ومن صالحنا على أي حال أن نعجز عن سماع مثل هذه الأصوات، إذ أن وصول شدة الصوت إلى 120 ديسيبل يمكن أن يصيب من يستمع إليه بجروح فعلية. ولكن هناك فصيلة من الحيوانات، يمكن أن تصل أصواتها إلى مثل هذه الذروة، وتوجد "أناشيدها" في كل مكان في الدول الحارة؛ ألا وهي حشرات "السيكادا" أو "الزيز".
وتُحْدِث هذه الحشرات أصواتها باستخدام أجهزة موجودة على جانبي أجسادها يُطلق عليها مجازا اسم "الطبول"، وهي عبارة عن سلسلة من الأضلاع المرتبطة ببعضها البعض بفعل سلسلة عضلات متقلصة. ويصدر صوت هذه الحشرات مُضخماً نتيجة لكون بطونها مجوفة.
وعلى أي حال، فـ"السيكادا" هي الحشرات الأعلى صوتا في العالم. ففي تسعينيات القرن الماضي، تُوجت "السيكادا" الأفريقية (برافيسانا برافيس) بلقب الحشرة الأعلى صوتا في المتوسط، إذ يمكن أن يصل ارتفاع صوتها – المسموع من على بعد نصف متر - إلى 106.7 ديسيبل.
في السنوات التالية، سجل ماكس مولدز من المتحف الأسترالي في مدينة سيدني صوت حشرة محلية تُعرف باسم "البقال الأخضر" (سيكولاكيلا أوسترليجاري)، وهي تصدر صوتا يمكن أن تصل قوته إلى 120 ديسيبل بالنسبة لمن يستمع له من مسافة قصيرة.
وبالرغم من ذلك – حسبما تقول زميلته الخبيرة في حشرة السيكادا الأسترالية "ليندساي بَبل" – فإن هناك " 3500 من أنواع (حشرة) السيكادا من تلك التي جرى التعرف عليها في العالم، بالإضافة إلى أنواع كثيرة أخرى لم يتم التعرف عليها ويجري توثيقها في الوقت الحالي".
ونسبيا، فإن قلة من تلك الحشرات قد جرى قياس شدة صوتها بالفعل، وهو ما يعني أن ثمة إمكانية لكشف النقاب - في يومٍ ما مستقبلاً – عن حشرة جديدة تنافس على لقب الحشرة الأعلى صوتا في العالم.
وفي هذا الصدد، تقول بَبل : "فمثلا – وهو أمر مفاجئ بالأحرى – لم يتم التعرف بعد على مدى ارتفاع (الأصوات) التي تطلقها الأنواع الأكبر حجما من حشرات السيكادا الاسترالية. إنها (هذه الأصوات) تصم الآذان إلى حد بعيد، ولذا ستصبح (تلك الحشرة) مرشحة واضحة" لنيل لقب الحيوان الأعلى صوتا.
وبالمثل، فإنه لم يُسجل قط الصوت الذي تصدره حشرة "السيكادا الإمبراطورة" (بومبونيا إمبريتوريا)، التي تعيش في آسيا، وهي الأكبر على الإطلاق بين حشرات هذا النوع، إذ تصل المسافة بين جناحيها إلى 7.9 بوصات (20 سنتيمترا).
في نهاية المطاف، تمثل مسألة التحديد الدقيق للحيوان الأعلى صوتا على ظهر الأرض مهمة أكثر صعوبة مما قد تكون قد حسبت في السابق، فالأمر يرتبط بمن الذي يسمع، والمسافة الفاصلة بينه وبين مصدر الصوت، والمقياس الذي يستخدم لتحديد شدة هذا الصوت.
ولكن إذا ما اعتمدنا المقياس الذي يجري فيه استخدام الديسيبل وحده؛ فإن قصب السبق في هذه المنافسة سيكون لحوت العنبر بلا ريب.
بي بي سي