jo24_banner
jo24_banner

ميلاد الأردنّ الجديد

د. جمال مقابلة
جو 24 :

انطلاقًا من نظريّة العماء المُدهشة، سأعدّ يوم الخامس من تشرين أوّل(أكتوبر) الجاري، يوم ميلاد الأردنّ الجديد، فقد انتهى ذلك اليوم –يوم (جمعة إنقاذ الوطن) بحسب شعار المعارضة في أكبر مسيرة سياسيّة لها يشهدها الأردنّ في تاريخه الحديث- نهاية خلاّقة وسعيدة على الرغم من كلّ التخوّفات والاحتقانات والتعبئات التي كانت تستدعي المصادمة بشكل أو بآخر، وكانت تراها نتيجة طبيعيّة لما سبق من تحضيرات من الجانبَين الفاعلَين في المشهد العامّ؛ المعارضة الغاضبة بأطيافها العديدة، والدولة المأزومة بأجهزتها وموالاتها، حتّى بدا الإنجاز إنجازًا عبقريًّا من كلّ الجهات المشاركة فيه، وعلى رأسها جماعة المعارضة ممثّلة بالطيف الغالب فيها، وهي جماعة الإخوان المسلمين، وأجهزة الدولة الأمنيّة التي قدّمت أداء صار مفخرة لكلّ الأردنيّين.(النتيجة كانت بإيجابياتها أعلى من توقّع الجانبَين ومن فعلهم السياسيّ، وتكتيكهم المرحليّ، وسعيهم المشترك إلى المواجهة، أو إلى الحلحلة السياسيّة، أو إلى كسب الجولة على الأرض، ولو باتّجاهين متضادّين، وهذا من نواتج نظريّة العماء التي تحتّم بدورها الخلاّق فكرة الميلاد الجديد)


كنت مرعوبًا عشيّة يوم الخميس 4/10/ 2012 بوصفي مواطنًا أردنيًّا مُلزمًا باتّخاذ موقف واضح في اليوم التالي؛ فإمّا أن أنزل إلى الشارع مع المعارضة؛ لأعبّر عن موقف سياسيّ مطالب بالإصلاح الذي ينادي به الملك قبل غيره من المواطنين، مع جماعة الإخوان المسلمين والحراكات السياسيّة التي قرّرتْ النزول إلى جانبهم، وهم -بأطيافهم المتعدّدة جميعها- الذين لم أرتض أن أنضمّ إليهم يومًا ما؛ لأنّهم لا يمثلّون لي، وربّما لكثير من المواطنين غيري، الاتّجاه السياسيّ المقنع لإدارة المرحلة. وإمّا أن أنزل مع الموالاة التي تضمّ بين أخلاطها الشرفاء من المواطنين الذين يحبّون الوطن ويخافون عليه ويبذلون له الغالي والرخيص، إلى جانب الزعران والبلطجيّة والشبّيحة والمناطقيّين والطائفيّين والقبليّين والمُداهنين وأصحاب المصالح الخاصّة والمتنفّذين وأصحاب الأهواء، فكيف لي أن أكون بين هؤلاء أو أولئك؟ وأعرف من أنا؟ وماذا أريد؟
إذن كان الخيار السياسيّ الوحيد أمامي هو أن أكون من (القَعَدَة)، أو من (الأغلبيّة الصامتة)، أو من المواطنين السلبيّين الذين لا يَبِين لهم موقف في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يلبّوا نداء الوطن، وفي اليوم الذي يستصرخهم فيه ويناديهم؛ ليحافظوا عليه أو يحموه، في ظرف حاسم، وزمن دقيق. وليس أمامي من خيار آخر هو ما أسمّيه (الخيار الثالث) الذي أبحث عنه، ومعي قطاع كبير جدًّا من المثقّفين الأردنيّين.

حقًّا تنفّستُ الصعداء -وكذا كان حال المواطنين الأردنيّين جميعًا فيما أحسب- حين قرّرت الموالاة عدم النزول إلى الشارع مقابل المعارضة، فكان القرار حكيمًا بكلّ المقاييس، وكان أداء الأجهزة الأمنيّة مهنيًّا ووطنيًّا وعلى قدر عالٍ من المسؤوليّة، كما كان تنظيم المعارضة تنظيمًا حضاريًّا يفوق كلّ التوقّعات، فأكّدت الأطراف الثلاثة في هذه المعادلة قدرتها على ضبط نفسها، وإمكانيتها بأن تحكم أمرها، وتتحاور بأسلوب عصريّ وحسّ مسؤول. وعشنا جميعًا فرحة هذا الإنجاز الحضاريّ الذي استدعى الميلاد الجديد، وهو الذي لا بدّ من أن ترعاه الحكومة الحاليّة، وأن تصونه في هذا الظرف الدقيق، وأن تُهندسه بعقل الدولة وبمشاركة كلّ الأردنيّين من شتّى الأصول والمنابت، وعلى اختلاف مواقعهم وتطلّعاتهم وانتماءاتهم السياسيّة؛ لأنّه السبيل الوحيد أمامهم، بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، في ظلّ الظروف الراهنة.

وفي اختيار رئيس الوزراء الحالي د. عبد الله النسور يكمن جزء كبير من حلّ المعضلة السياسيّة في الأردنّ، سواء في طبيعة الاختيار ومحدّداته والظروف المُلجئة إليه، أو في المأمول من هذا الاختيار والأهداف المرجوّة منه ونتائجه المتوقّعة. فها نحن قد وجدنا أنفسنا في الأردنّ خلال زمن قصير جدًّا في ظلّ حكومة رئيسها برلمانيّ منتخب؛ نائبًا عن منطقته حقًّا؛ لكنّه يمثّل المعارضة أو الخيار الثالث المفقود، فلا هو مع المعارضة التي ذكرتُها آنفًا ورأيتها لا تشكّل الأمل المنشود لقطاع كبير من الأردنيّين، ولا هو بالرجل الذي بقي محسوبًا على الموالاة بوصفه واحدًا من الوزراء السابقين، أو من الأعيان أو من رجالات الدولة الذين يُشار إليهم بأصابع الاتّهام، فهو لم يتورّط يومًا بأكثر من فعل مارسه كثيرون بالسعي لإرضاء أبناء مناطقهم، أسوة بغيره ممّن يمسكون بدفّة الأمور في مجتمع ديموقراطيّ ناشئ، ما زال يعاني من ممارسات سابقة على الوعي الديموقراطيّ. لكنّ الرجل يشهد له تاريخه القريب، فقد امتنع عن إعطاء الثقة لأربع حكومات شُكّلت وهو تحت قبّة البرلمان، ووقف بقوّة في صفّ المعارضة المشهود لها بتغليب مصلحة الوطن على المصالح الأخرى. وهذا هو ما يجعله الخيار الثالث الذي بمقدوره أن يتفهّم المقصود بكيفيّة تنفيذ مطالبة الملك بالإصلاح، ويستوعب أبعاد مطالبة المعارضة المطلقة للإصلاح، وهو الأقدر على مواجهة قوى الفساد الجاثمة على كلّ مفاصل الدولة حتّى الآن.

إنّ وصول النسور إلى هذه المكانة، وشغله هذا المنصب في هذا الوقت بالذات، وهو الذي كان وما زال يؤمن باسترداد رئيس الحكومة للولاية العامّة، يجب أن يستغلّ لولادة أردنّ جديد؛ لأنّ الملك فيما أعتقد استنفد أداة التغيير الوزاري المتكرّر بشكل كبير –ولعلّ ذلك قد انعكس سلبًا على نظرة رعاياه إليه، وإلى القائمين على مراكز صنع القرار الحقيقيّة في الأردن؛ لأنّ نظر الناس لم يتعلّق بأشخاص رؤساء الحكومات المارّين كالشهاب الثاقب-، ولا بدّ أنّ الملك قد اقترب من مطالب الشارع الذي بات يغلي، وتلمّس هموم الناس الذين يوشكون أن يخرجوا عن صمتهم المعهود، وعرف نظرتهم النقديّة إلى السياسات المتعاقبة، التي سيق بعض كبار الذين تورّطوا فيها إلى المحاكم، وما زالوا موقوفين على ذمّة التحقيق في قضايا فساد عمّت البلاد، وأدرك بحسّه المسؤول خطورة المرحلة القادمة، المرهونة بتطوّرات الواقع الداخليّ، واحتمالات انفجار الأوضاع في دول الجوار، وتبدّل الأحوال المتسارع على الأرض هنا وهناك، بفعل أحداث الربيع العربيّ، وتفاقم الحالة السوريّة على وجه الخصوص، ومقدار ضغطها على الأردنّ، وعلى كلّ دول المنطقة.

وهذا هو ما يسمح - كما أرى- بإطالة عمر حكومة النسور الجديدة إلى أكثر من أربعة شهور،- ولو أدّى ذلك إلى عودة مجلس النواب المنحلّ بعد 4/2/2013 حُكْمًا، إذا ما جرى التوافق السياسيّ والاتفاق التصالحيّ على تأجيل الانتخابات النيابيّة القادمة-؛ وذلك حتّى تراجع هذه الحكومة أوّلاً التعديلات الدستوريّة بتسريع إرساء قواعد الملكيّة الدستوريّة التي نادى بها الملك ذاته، قبل سبعة أعوام، وهي التي باتت المخرج السياسيّ الوحيد للحفاظ على الشرعيّة.

ولتعمل الحكومة ثانيًا بجرأة على تعديل قانون الانتخابات؛ لتجذير الممارسة الديموقراطيّة، وإرضاء جميع الفرقاء الذين ظهر تأثيرهم في الشارع بوضوح، ولتعمل كذلك على إدارة العمليّة الانتخابيّة بشفافيّة عالية، ومصداقيّة حقّة، علّها تتجاوز السلبيّات التي علقت بالدورات الانتخابيّة المتعاقبة، وما اعتراها من أخطاء، وما اقتُرِف فيها من آثام، ألقت بثقلها على ثقة الناس بمصداقيّة تلك المجالس النيابيّة، وزعزعت إيمانهم بالحكومات التي أشرفت على انتخابها، ونالت الكثير من هيبة الدولة في نفوس رعاياها.

ولتعمل الحكومة أخيرًا على اجتراح وسيلة عبقريّة لإجراء الإصلاحات الاقتصاديّة الضروريّة والمصيريّة بمساءلة جادّة لأصحاب السياسات التي أغرقت البلد في المديونيّة، والضغط الفعليّ قضائيًّا وسياسيًّا على المسؤولين عنها، مهما علت مناصبهم، ومهما عظمت مقاماتهم، كلّ حسب دوره، وعلى قدّ مسؤوليته؛ ليقدّموا الجزء الأكبر من ثرواتهم غير المشروعة لتسديد القسط الأوفر من تلك المديونيّة، حتّى ولو خادَعَنا المُناخ الدوليّ العام بسهولة انفراج أزمتنا الاقتصاديّة، وساوَمَنا عرّابو السياسات الدوليّة العالميّة، إن نحن قدّمنا بعض الخدمات في خضمّ الصراعات المحيطة بنا، وعبقريّة هذه الوسيلة الإجرائيّة آتية من ضرورة إدراك كلّ الفرقاء خطورة المرحلة، وكارثية النتائج، إن لم تكن الحلول الداخليّة والوطنيّة الفعليّة والصادقة هي الموضوعة أمام صانع القرار السياسيّ، ورأس الدولة الفعليّ، وليست تلك الحلول الدوليّة العالميّة أو الإقليميّة التي قد تستغلّ الوطن وظيفيًّا وآنيًّا وتتخلّى عنه في لحظة الحقيقة -لا سمح الله-؛ لأنّ ما جرى ويجري في العالم العربيّ درس حيّ لنا جميعًا، يستحقّ أن نفكّر فيه بعمق، وأن نقرأه القراءة الحصيفة، حكّامًا ومحكومين، موالاة ومعارضة، حتّى يمكننا أن نعيش الواقع، ونعبر الأزمة الراهنة، ونصنع المستقبل الواعد، بأعظم المكاسب، وأقلّ التكاليف، على الصعيدين الماديّ والإنسانيّ.

jamaqableh@yahoo.com

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير