التلفزيون الأردني والموت الإكلينيكي
قذى بعينيك أم بالعين عوار.. أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار
لا بد من ميتة في صرفها عبر.. والدهر في صرفه حول وأطوار
فبتّ ساهرة للنجم أرقبه.. حتى أتى دون غور النجم أستار
بهذا الأبيات وصفت الخنساء بيت أخيها صخر بعد مقتله، وأي وصف أبلغ من هذا لكي نستخدم لما آل إليه حال التلفزيون الأردني في هذه الأيام.
إن الحديث عن إعادة الهيكلة وتطوير مؤسسات القطاع العام قد أصاب الناس بالتخمة لكثرة ما تكرر في الأعوام المنصرمة، ومع ذلك لم نسمع أو نرى أحدا يشير بأصابعه نحو مؤسسة التلفزيون الأردني.
وحتى أطرق صلب الموضوع مباشرة فإن كل مشترك في التيار الكهربائي يدفع شهريا مبلغا وقدره (دينار) تحت بند (رسوم التلفزيون). وبما أن عدد المشتركين بالتيار الكهربائي في الأردن تجاوز المليون وستمائة ألف مشترك، فإن هناك حوالي 20 مليون دينار يدفعها الشعب الأردني سنويا، بموجب القانون، إلى مؤسسة التلفزيون الأردني. والسؤال: هل خطر ببال أي صاحب قرار مراجعة العوائد الحقيقية لهذه الملايين المتوالية وأثرها على كل المستويات؟ لست أدري ما السبب الحقيقي للتغاضي عن هذا الملف. هل أن التلفزيون الأردني رمز دستوري لا محل للبحث في شأنه أم أنه طوطم وطني مقدس والأخذ عليه من المحرمات ؟!
لقد أسقطت ثورة الاتصالات ورقة التوت التي يستر بها البعض مؤسسة التلفزيون الأردني القابع على مساحة ربما تفوق مساحة هوليوود، والذي يضم المئات من الموظفين. وها نحن نرى ونتابع قنوات القطاع الخاص التي يقوم على تشغيلها من الألف إلى الياء طاقم لا يتعدى عدد أفراده حمولة باص صغير، ومع هذا فهي تحظى بنسبة مشاهدة مميزة، ويملأ البرنامج الواحد منها مجالس الناس لأيام بالنقاش بين مؤيد ومعارض، ولا تكاد مساحة المحطة بأسرها تزيد عن شقة سكنية صغيرة وتكاليف تشغيلها بضع عشرات الآلاف أو -بتقدير أعلى قليلا- مئات الآلاف من الدنانير أو الدولارات سنوياً.
لقد انتزعت المحطات المستقلة مكانتها في مضمار الإعلام المرئي بإمكانيات مالية معقولة وهي في نظر أصحابها أعباء ثقيلة، ولكنها غير معقولة بالمقارنة مع ما ينهال على التلفزيون الأردني، فلا تكاد مصاريف عام كامل لمحطة خاصة تكفي لراتب مدير أو حتى مكياج أو ملابس مذيعة في التلفزيون الأردني! وبمقابل ذلك كله أين التلفزيون الأردني اليوم بين العشرات من ماكينات التلفزة والإعلام العملاقة في مساحة الفضاء العربي؟ أعتقد أن الجميع يعرف الجواب.
الحقيقة أنه لم يعد في جعبة التلفزيون ما يصطاد به من المتابعين شروى نقير! فما الذي يدعو الجمهور لمشاهدة مسرحية أو فيلم أو مسلسل أو برنامج وثائقي أنتج قبل عقود عديدة وسبق أن شاهده على نفس المحطة عشرات المرات إلى أن حفظ نصوصها عن ظهر قلب، حتى أن الألوان الباهتة للمواد المبثوثة تنم عن قدمها. لم يعد لدى الجمهور ما يُشبعُ نهمه في التلفزيون الأردني سوى خطاب للملك تارة أو أعضاء الفريق الوزاري عند تشكيل وزارة جديدة أو إعلان عطلة بسبب الأحوال الجوية، وقد أضحكتني عبارة قرأتها على موقع ويكيبيديا عن التلفزيون الأردني نصها كالآتي: (ويُسجل للتلفزيون الأردني أنه صاحب أكبر مكتبة أرشيف في التلفزيونات العربية) وتساءلتُ ما الذي أوقف التلفزيون الأردني عند تلك النقطة بلا حراك؟ ألا يكفي اجترار ذلك الأرشيف إلى درجة القرف؟ يا ترى هل من جديد غير غوار الطوشة والعلم نور وراس غليص؟ والله إن الملل ليصيب حتى من بقي حيا من ممثلي تلك البرامج لو أنه شاهدها بالتكرار الذي يمارسه التلفزيون الأردني. ألا تكفي تلك العشرات من ملايين الدنانير للتفكير في إنتاج ما ينافس مسلسل كيوسف الصديق أو عمر وتسجل بصمة له؟
إن جلّ ما يتحفنا به التلفزيون الأردني من جديد أنه يخرج علينا بين الحين والآخر –وخاصة في رمضان- ببرامج تافهة للمسابقات لا طعم لها ولا رائحة تعتليها مذيعات بلكنات مصطنعة وكلمات رخوة وتمنح كل متصل مبلغا يصل بالمعدل لمائة دينار لمجرد أنه أفلح في مسك الخط الهاتفي للبرنامج ثم تنهال بعدها جوائز عبثية لست أدري ما المأمول من منحها.
إحدى الفضائيات تصرح في إعلان لها أن لديها ما يزيد عن مائة مراسل في شتى بقاع العالم!!! أنظروا ماذا يفعل هؤلاء للمحافظة على مكانتهم بين الكبار. وبالمقابل كم مراسل لدى التلفزيون الأردني خارج أسوار الوطن؟ ألا تكفي كل تلك الملايين للتعاقد مع خمسة مراسلين فقط؟ وفي الحقيقة أنني لم أرغب بكتابة هذه الفقرة بالذات خوفا من فساد أعظم مفاده أن يتم استغلال هذه النقطة لصرف المزيد من آلاف الدنانير لمراسلين في الخارج يتم تعيينهم بالواسطة لتنفيعهم!
أذكر أن الناس كانوا يتطاولون فيما بينهم بهوائيات التلفزيون ودقة ضبطها لالتقاط إشارات قنوات من دول الجوار طلبا لتنويع ما يشاهدون وهربا من النمطية التي كان يزاولها التلفزيون الأردني تجاه جمهوره، وأذكر أيضا كيف اجتاحت الأطباق اللاقطة أسواقنا وصار لدى الجمهور قوائم لا حصر لها من القنوات بصنوف شتى من الميول والاتجاهات وكيف بدأت حينئذ الهجرة الجماعية عن المحطة الأردنية لدى الجمهور، كل ذلك حدث بسبب عدم استشعار المسؤولين في التلفزيون الأردني لمدى أهمية تعديل اتجاه البوصلة في بحر متلاطم جديد يدعى الاتصالات الرقمية.
ذكرت بعض التقارير بأن إحدى المحطات التلفزيونية لأحد المستثمرين الأردنيين وهي مخصصة للأطفال يدخل عليها ما معدله مائة ألف دينار شهريا فقط من عوائد الرسائل النصية التي يبعث بها المشاهدون. وفي تقرير آخر ورد أن محطة تلفزيونية عربية جنت ما يقارب المليار دولار من تصويت الجمهور العربي في واحد من البرامج الغنائية التي عرضت عليها.
التلفزيون الأردني صار عبئا ثقيلا ينافس على المراتب الأخيرة بين مؤسسات الإعلام المنتشرة، في زمن توفرت فيه لدى المشاهد آلاف الخيارات المجانية لاختيار ما يرضي ميوله سواء كانت وثائقية أو إخبارية أو ترفيهية أو رياضية أو غير ذلك من كل اتجاهات الأذواق والأمزجة. فلا بد للتلفزيون الأردني من إثبات جدارته بنفسه وأن يربأ القائمون عليه بأن يبقى عالة على الشعب، فإما أن يكون قادرا على الصرف على ذاته بجذب المعلنين أو جني الأرباح من الإنتاج أو فليعرف قدر نفسه فيلزم، وإلى حيث ألقت أم قشعم رحلها.
بناء على ما تقدم فإنني أتمنى على رئيس الوزراء أن يسجل سابقة نوعية في وقف هذه المهزلة العبثية، ولستُ أطالب بإلغاء ضريبة الدينار عن فاتورة الكهرباء بل بتغيير مسماها لتصبح (رسوم تنموية)، فمبلغ 1.6 مليون دينار شهريا كفيل ببناء مدرسة نموذجية جديدة كل شهر، أو إنشاء مركز صحي نموذجي كل شهر، أو ملعب جديد للشباب كل شهر، أو منتزه للعائلات كل شهر، أو إعادة النظر في قطع الإضاءة على الطرق الخارجية بعد منتصف كل ليلة عسى أن تتوقف مجازر حوادث الطرق عليها وهذا بحد ذاته يحتاج لمقالة منفردة. هناك الكثير الكثير مما قد يوظف له مبلغ شهري كهذا المبلغ والذي سوف يلمس أثره كل الناس بشكل مباشر ويجدد الأمل لدى كل منهم بأنه ما يزال فينا رجل رشيد.