مطارد بريء
د. عودة ابو درويش
جو 24 :
ابتسم ابتسامته المعهودة , وهو يلقي التحيّة على عمّه المسن الذي كان يجلس متكئا إلى الجدار , سلّم عليه وجلس , ساد صمت لبرهة , ثم بادره عمّه بسؤال , لم لا تسلّم نفسك للشرطة , ألا تريد أن تنهي هذه الحال التي أوصلت نفسك اليها ووضعت عائلتك بها , الحكومة لن تمسك بسوء , أنت مطلوب لهم , وان عاجلا أو آجلا سيتمكنون منك , ويأخذوك إلى السجن , ولن تستطيع أن تدافع عن نفسك , لأنك هربت منهم , وألصقت التهمة بنفسك , أنا وكثيرين يعرفون انّك بريء , وانك لم تقم بالعمل الذي ينسبونه إليك . سلّم نفسك وانهي الموضوع , أرجوك . أتعلم أنّ هذا الحي كان فيه من القصص المشابهة لقصّتك الكثير , ولكن لم يكن أبطال هذه القصص بمثل تهربّك من الواقع , وواجهوا من اتهمهم بدون خوف , وأثبتوا أنّهم بريئين مما ينسب اليهم .
يا عم , قال وهو يعدل من جلسته ويفرك يديه , تعال نمثّل أنا وأنت القاضي والمتهم , ها أنا أقف أمامك , وسأسرد عليك حجّتي , واحكم أنت بما تراه مناسبا, أتظن أنّي أحبّ حياة التشرّد , وأن أكون مطلوبا للدولة دائما , انّي أسألك أيّها القاضي , أين كانت الحكومة عندما لم أجد أنا وأخوتي قوت يومنا , وأين كان من يسمّون أنفسهم مسئولين , لمّا كنّا ننام من غير أن نعرف ان كنّا سنجد ما نأكله في اليوم التالي , كيف تريد منّي أن أتحمّل عيشا كريها , وأنا الذي لم يعتد أن يمدّ يده للناس , ولا أن يستجدي حسنة من حكومة ولا من غيرها . أنا لست من الذين يسمّون أنفسهم أبناء الوطن المخلصين , ولكنّي لم أفعل شيئا يضرّ بمصلحة هذا الوطن , وهم من أتوا ليتهمّوني بأشياء ما حصلت , ولم أقم بها , وكلّ ما يكتبونه في محاضر تحقيقيه لم أكن حاضرا عليها , كذب وتجنّي , وكلّ من أمسكت به الحكومة بجرم يدسّ اسمي بين من ساعدوه في جرمه , مع أنّي لا أعرف أحدا منهم , وأنا دائم التساؤل , أأنا الوحيد في هذا الكون الذي يريد أن يحيى حياة فيها شيء من الكرامة , ستقول كلّ الناس يريدون ذلك , ولكن كبار الناس الذين سرقوا مال الوطن وهربوا لهم من يحميهم ويدافع عنهم , وأنا لم أسرق في حياتي أبدا , ولم أكن خائنا لوطن أو لقيادة , كيف يتهمونني بذلك وأنا بريء , لن أسلّم نفسي حتّى ولو متّ دون ذلك , لأنّهم لن يخرجوني من السجن أبداْ .
أجاب العم القاضي , وهو يفرك لحيته , السارق يا بني من سرق قروش قليلة وعادة ما يكون من عامّة الناس , أمّا ان فعلها أحد كبار الناس , وسرق الملايين من مال الوطن , وغادره هاربا أو وجد من يساعده على الهرب , فيسمّونه رجل أعمال , ويتذرّعون بأنّه لم يقصد أن يسرق فلسا , فالتجارة ربح وخسارة , وسيعيد ما أخذه بعد أن تتم تسوية القضية معه , ويدافع عنه كلّ الذين كانوا يوما ما مستفيدين منه ومن سلطته , أمّا أنت فمن المستفيد منك أو من وجودك في هذه الدنيا , مطارد وستبقى مطارد , ولن ينفعك أنّك تحب وطنك على كلّ حال , والذين يزجّون باسمك في اعمالهم المشينة يعلمون أنّك ستبقى خارج السجن , انت متّهم ومدان ما دمت هاربا , سلّم نفسك ودافع عن براءتك .
عاد العم واتكّأ ونادى على زوجته بصوت عالٍ , سخّني لنا ما تبقّى من الشاي , ثمّ حوقل وقال , اللهم أصلح الحال .