بعد ربع قرن من برامج صندوق النقد الدولي ... المديونية تتضاعف والفقر يزداد
د. عبد الحي زلوم
جو 24 :
كتب اخو نابليون لاخيه حذار.. حذار من غضب الجماهير أن جاعت) .
بداية: هل حقيقة أن صندوق النقد هو إحد أدوات الاستعمار الحديث؟
هذا ما يقوله روبرت كوبر ، المستشار السابق لدى رئيس الوزارء البريطاني ، الذي عقد مقارنة بين اشتراطات صندوق النقد الدولي اليوم ، وبين اشتراطات إمبريالية الأنجلو- فرنسيين في القرن التاسع عشر ، عندما قرروا في سنة 1875 تولي السيطرة المباشرة على اقتصاد ومالية مصر لضمان سداد الديون ، فكتب قائلاً : ” كم تختلف اشتراطات صندوق النقد الدولي عما فعله اللورد كرومر وآخرون في مصر؟… يبدو شبيهاً وإلى حدً لافتٍ بواحد من برامج صندوق النقد الدولي المتشدد.”
شجعت الدول الأوروبية الخديوي إسماعيل على الاستدانة بلا حدود . عندما إستلم الحكم من الخديوي سعيد كانت ديون مصر 10 مليون جنيه إسترليني. عمل مشاريع انمائية عديدة في الصناعة والبنية التحتية من نظام ري وشبكة سكك حديد في مصر . فتح قناة السويس . كما أسس صناعة السكر، كان نتيجة الحروب والإصلاحات أن أصبحت مصر مدينه بــ 100 مليون جنيه إسترليني أي عشرة أضعاف المديونية في بداية عهده.
أرسلت الحكومة البريطانية بعثة دراسة سنة 1875 لدراسة اوضاع مصر الاقتصادية والمالية كما يفعل الصندوق الان فأوصت اللجنة في ابريل 1876 ان تقوم القوتين بريطانيا وفرنسا بالتدخل لاصلاح الاوضاع لتتمكن مصر من سداد ديونها . وفي اكتوبر للسنة نفسها اوصت لجنة اخرى بالسيطرة البريطانية الفرنسية على شؤون مصر المالية . وفي 1878 اوصى اللورد كرومر بأن يتنحى الخديوي اسماعيل ليصبح ملكاً دستورياً واجباره على قبول نوبار رئيساً لوزرائه وقبول اجنبيين لوزراتي المالية والاشغال العامة . واخيراً تم الطلب من الخديوي اسماعيل التنازل عن العرش الى ابنه توفيق . واستمر الامر كذلك حتى اعلان مصر محمية بريطانية سنة 1915.
منذ حوالي ربع قرن من إعادة هيكلة الاقتصاد الاردني تم إصلاح المديونية بمزيد من الدين حتى وصلت إلى أرقام فلكية تنوء تحتها ميزانية خدمة الدين فما بالك بأصول الديون نفسها. زادت معدلات الفقر فأصبح ثلث الاردنيين فقراء أو فقراء عابرين حسب تقرير البنك الدولي. في عمليات اعادة هيكلة الاقتصاد وتحريره في الاردن كما في غيره يطلب الصندوق من الدول بيع المؤسسات التي تم الاستدانة لبنائها ، تماما كما أجبر الانجليز الخديوي إسماعيل على بيع قناة السويس لهم بسعر بخس أقل من 4 مليون جنيه!!!
تتحول الدول المدينة هذه الأيام والتي تقع تحت رحمة الصندوق إلى محميات لا أكثر وفي أحسن الأحوال إلى دول حكم ذاتي مسلوبة السيادة السياسية والاقتصادية و الدفاعية بل يصل التدخل كما في اليونان إلى إعادة هيكلة القوانين التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتنسجم مع عولمة الاستعمار الجديد..
يستبشر المسحوقون من تبعات برامج الصندوق حينما تذهب حكومة وتأتي أخرى ولكن سواءً ذهب زيد أوجاء عمرو فبرنامج الصندوق واحد ! فما ان جاءت حكومة جديدة حتى استهلت اسبوعها الاول بفرض ضرائب جديدة على المحروقات ورسوم جديدة على السيارات والقادم أعظم .
من انشأ الصندوق ومتى ولماذا ؟
كان مخططوا سياسة الولايات المتحدة السرّيون لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وكانوا جميعاً متفقين أن دور الولايات المتحدة عندئذٍ هو قيادة عالم واحد . لكن اعضاء مجلس العلاقات الخارجية كان هو الاكثر وضوحاً . كتب اشعيا بومان المسؤول عن لجنة المناطقية في الدراسات السرّية الى زميله آرمسترونغ بعد اندلاع الحرب بأسبوع : "أن على المجلس وكذلك الحكومة الامريكية أن يفكروا بادارة العالم بطريقة مختلفة …. اما مقدار انتصارنا فسيكون بمقدار هيمنتنا … وعلى الولايات المتحدة أن تتقبل المسؤولية عن العالم”. وهنا جاءت المذكرة E-B49 للرئيس روزفلت ووزير خارجيته تتضمن فكرة انشاء مؤسسة لمراقبة النقد والتي تطورت لتصبح صندوق النقد الدولي وأخرى تطوير بنك دولي لتطوير الاستثمار وهنا جاءت بدايات البنك الدولي . وبعد استكمال كافة بنود المؤسستين من وزارة المالية الامريكية تمت الدعوة لعقد مؤتمر في بريتون وودز بولاية نيوهامشير سنة 1944 وتم اشهار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. تم ترتيب التصويت بالمؤسستين بالموافقة أو عدمها بأغلبية الاصوات . وحيث ان الولايات المتحدة كانت المساهم الاكبر فكان قرارها دائماً هو المرجح أو المخيّب لاي اقتراح مشروع يقدم للمؤسستين .
يتضح هنا أن هاتين المؤسستين هما من صنع الولايات المتحدة ولأجل خدمة الولايات المتحدة في هدفها لعولمة الاقتصاد العالمي تحت هيمنتها وبلا منازع . ولقد تمّ اقراض الدول النامية في كثير من الاحيان فوق طاقتها ، فأصبحت تحت احتلال اقتصادي لازمه احتلال للارادة السياسية والسيادية ، حيث تقوم هاتان المؤسستان بفرض الشروط التي تتدخل في أمور سيادة الدولة تحت طائلة إما شروطنا وإلا…وهكذا تم خلق مصائد للديون بحيث اصبحت ميزانيات العديد من الدول النامية تخصص جزءاً هاماً منها لسداد فوائد الديون لا اصولها وهو اسلوب من الاستعمار الجديد الذي تم تصميمه بعناية ولكن بتعاون من طبقة (النخب) المحلية والتي تم ربط مصالحها بمصالح خارج أوطانها.
توصيات الصندوق تتنافى مع مصالح البلاد والعباد!
كان شعار صندوق النقد الدولي وأخواته أثناء فترة ما أسموه بالتصحيح توجيه الصناعة و الاقتصاد إلى التصدير أو الموت EXPORT OR DIE) ) . ولقد تمّ توجيه الاقتصاد والصناعة بناءً على ذلك . اليوم، وقف التصدير. الحدود الشمالية المؤدية إلى سورية ولبنان وتركيا وأوروبا اغلقت. الحدود مع العراق اغلقت مع أن سوقها يمثل ركناً أساسياً في الاقتصاد الاردني. في معادلة التصدير أو الموت فإذا توقف التصدير ما بقي على الاقتصاد إلا أن يموت.
عندما قدم احد المستثمرين مشكلة اقفال الحدود والاسواق التصديرية في إحدى الجلسات الحوارية كان جواب أحد فقهاء إقتصاديي النظام والصندوق : لماذا لا توجدوا اسواق تصديرية بديلة ؟ وكأن إيجاد السوق البديل يتشكل في كبسة زر وليس خلال سنوات تكون خلاله الكثير من المؤسسات التي فقدت اسواقها فجأةً قد شبعت موتاً .
برامج الصندوق مليء بالمتناقضات وسينتج عنه مشاكل اقتصادية و إجتماعية خطيرة لا يتمناها أي غيورٍ على بلده.
عندما ذكر رئيس الوزراء الاردني السابق عبد الله النسور هذه الحقيقه لرئيسة الصندوق لاجارد في مؤتمر البحر الميت فقدت صوابها . والمعروف عن وزارته انها كانت الاكثر التزاماً ببرامج الصندوق وبالتالي الاعلى مديونية. فإذا كان السياسيون يعلمون حقيقة الظلم الاجتماعي لبرامج الصندوق فلماذا يفعلون ذلك؟ ربما لان الاساطيل الحربية في أعالي البحار وحاملات طائراتها والقواعد العسكرية المنتشرة عبر العالم هي الاذرع العسكرية لنظام العولمة وأصحابه أما صندوق النقد الدولي وتوأمه البنك الدولي فهما أداتان هامتان من ادوات الهيمنة الامبريالية الاقتصادية لصالح اصحاب نظام العولمة الجديد .
عندما هبت أزمة جنوب شرق آسيا في اواخر تسعينات القرن الماضي نتيجة مضاربات قام بها اصحاب المصارف والمؤسسات المالية وهم اصحاب النظام العالمي الجديد رفضت ماليزيا قبول شروط صندوق النقد الدولي فسلمت. ولما حاول سوهارتو أن يفعل الشيء نفسه في أندونيسيا اتصل به الرئيس الامريكي كلينتون قائلاً له بالحرف الواحد حسب مجلة نيوز ويك: "عليك أن تتقبل تعليمات صندوق النقد الدولي وكأنها قادمة من السماء .” فأنهار الاقتصاد الاندونيسي . بعد فوات الاوان اعترف الصندوق بأن وصفاته لاندونيسيا كانت قاتلة .
كشف وزير المالية الاردني في 11 كانون الثاني / يناير 2016.
"أن الاقتصاد الأردني ينتظر إصلاحات اقتصادية صعبة في المرحلة المقبلة يشترطها صندوق النقد الدولي للبدء ببرنامج إصلاحي جديد معه. وقال : إنه "بالرغم من أن نسبة نمو الاقتصاد منخفضة إذ حقق 2.7 % العام الماضي، إلا انه في الوقت ذاته يتأهل إلى سوق العمل سنويا ما لا يقل عن 100 ألف شخص، ولمواجهة تحدي تأمين وظائف لهم، فإن النمو يجب ان لايقل عن 5 %. وقال ” ان اقتصاد الأردن كان يعتمد بشكل كبير على دول محيطة منها العراق والخليج، كما كان يعتمد بشكل كبير على التصدير من خلال سورية، مبينا ان القطاع الخاص له دور إلى جانب الحكومة في ايجاد بدائل تصديرية” .
ملخص القول بالعربي الفصيح: ما يطلبهالصندوق لا يمكن تحقيقه تحت الظروف الراهنة . حتى لو تمكن الاقتصاد الاردني من النمو الى 5ٍ% وهو امر مشكوك فيه تحت الظروف الحالية فستبقى نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي فوق 90%.
في كل عصر وحقبة من الزمن نجد بأن أصحاب النظام العالمي قد لمعو أحد كهنتهم من الاقتصاديين ليضفو عليه هالة القداسة ، وأنه إذا "قال فصدقوه”. وكذلك الأمر مع بعض إقتصادي الدول النامية ليكونو لهم شهود الزور.عند انهيار النظام الامريكي الرأسمالي كما حصل أيام الكساد الكبير ، كان هناك جون مينارد كينز John Maynard Keynes والذي نظر بضرورة تدخل الدولة لتقليم أظافر السوق وكذلك بالانفاق عن طريق العجوزات أثناء الأزمات إلى أن يتم إنقاذ النظام .
وما فتئ النظام بعد ذلك إلاّ أن أخرج كبير كهنة جديد، فجاء ملتون فريدمان يقول :إن تدخل الدولة هو أبو الشرور والشر المستطير، فتم فكفكة ما تم وضعه من قوانين معتمدة على الأرذوكسية الكينزية خصوصاً في عهد ريغان ثم جاء رئيس البنك المركزي بول فاولكر ومن بعده آلان غريسبان والذي حكم النظام المالي الأمريكي ومن ثم العالمي 16.5 سنة ليقول لنا أمام لجنة تقصي حقائق في الكونغرس عن أزمة سنة 2008 "انني مصاب بالذهول … فأنا أعرف بأن هناك خطأ ما في النظام … لكني لا أعرف ما هو…”.
لكني أنا أعرف أين الخطأ في هذا النظام. لقد جعلت عولمته من حكومات العالم حكومات جباية لا تملك من أمرها شيئاً سوى جباية فوائد القروض وتسليمها إلى أصحاب النظام العالمي عداً ونقداً ، والويل لمن يتخلف عن الدفع عندها ستتم إنهيار عملته وتخريب اقتصاده بل ومحاولات تغيير نظامه. هذا النظام هو توأم لنظام المافيا المعروف بنظام المرابين المفترسين (loan sharks).
هناك طريقاًن للدول المغلوبة على أمرها. إما الاستمرار في هذا النهج الجارف والذي سيقود إلى زيادة خط الفقر وزيادة البطالة وزيادة الديون سنة فسنة وقلاقل إجتماعية وهذا هو الأسهل على المدى القصير لحكومات همها أن تحكم حسب مبدأ (اليوم خمر وغداً أمر ) واما أن تقبل التحدي ضد مظالم هذا النظام وتنضم إلى دول صاعدة كدول البريكس تقاوم هذا الاستعمار السرطاني الجديد وهو خيار مليء بالتحديات لكنه هو المستقبل على المدى البعيد. فالعالم اليوم بين أمرين أحلاهما مر.